١

49 4 1
                                    

كانت مياه البحر تمتد كبساط ناعم لازوردي فتان. هدأ البحر وهدأت السماء من تلك الحمرة المسمومة التي كانت تنذر بالزوابع. بدا جو لطيفا جدا بعد اسابيع من البرد القارس. اخيرا استعادت الجو اعتداله وعادت عروس البحر مزاجها الرائق كان قد مر امد طويل جدا لم يغادر فيه "أسامة" الى الاسكندريه وهو اليوم يعانق نسيمها من جديد.

جلس مرتديا بزة غامقة حسنة التقاطيع وعليها معطف غامق من نوعية فاخرة. كانت لديه مسحة من الوسامة ووجه قسماته مريحة. عيناه العميقتان وحاجباه الكثيفان جعلا لنظراته اثرًا ساحرًا على كل من يتحدث معه. كان وجهه نبيل يبعث على الثقة والراحة. ارسل البحر امواجه الناعمة لتلاطف الرمال بدلال. وعلى صفحته انعكاسات الالوان المتموجة هنا وهناك. كان "أسامة" يلتهي بمراقبه طائرة ورقية صنعت من اعواد الخيزران تطير بعيدا في السماء.

على الشاطئ الخالي تقريبا من الناس، تمت شاب نحيل جدا، كان شعره مجعدًا صلبًا كالفرشاة ولديه مشية مميزة تنم عن ثقته بنفسه تسير بجواره فتاة هادئة الملامح ملابسها غير لافتة للنظر كان كل منهما ينظر الى البحر محدقا في صمت!

ترك الشاب يد الفتاة ثم خلع معطفه بعفوية وناوله لها فطوته برفق واحتضنته وكانه قد اعاد اليها جزءا منها. خلع ايضا حذائه وجوربه وبحرص بدأ في طي ذيل بنطاله ثم بدأ يبلل ساقيه بماء البحر البارد ركل الامواج بقدمه ليضحك الفتاة التي كانت تتبعه كظله التفت ونظر اليها ثم فتح ذراعيه بعد ان كست وجهه ابتسامه رائعة اماطت اللثام عن اسنان لؤلؤية ناصعة البياض وروح جميلة بدات تلتقط له الصور واحدة تلوى الاخرى بهاتفها الجوال وهو يغير من اوضاعه ووقفاته ببراءة وكانه طفل صغير.

كل شيء يبدو لطيفا طالما هما معا. كان وجهها مفعما بالارتياح تبادل الادوار فوقفت وقد اصطبغ خداها بحمرة الشفق. وما زالت يدها تحتظنا معطفه بينما وقف امامها وتحول الى تمثال للحظات طويلة وهو يتأملها قبل ان يلتقط لها صورة اختزلت لغت الكلام في نظريتهما. راقبهما "أسامة" للحظات فغمرته بعض المشاعر الحلوة حتى قرص الشمس الذي اوشك على الرحيل تاخر قليلا لينعم برؤيتهما معا كم يحب هذا النوع من البساطة وذاك الجمال والدفء الذي يتخلل العلاقات الانسانية.

التفت الشاب يمينا ويسارا وكانه يبحث عن احد ما حانت منه التفات تجاه "أسامة" فرآه يراقب البحر اقترب منه اشار اليه حيث كان غارقا في حالة من حالات السكينة التي تغمره كلما وقف او جلس امام البحر وكانه مخدر حياه بحبور وعرفه بنفسه ثم ساله ان يلتقط له ولا عروسه صورة بهاتفهما الجوال ادرك حينها انهما حديثوا الزواج وانه يشهد الان ميلاد حبا غض ندي اخضر عفيف ويا له من حب صادق.

سرى اضطراب ودي دافئ بينه وبينهما ومسته عدوى السعادة كانت تلك المرة الاولى التي يشعر فيها بالحنين لذلك الشيء الذي يسكن صوته كثيرا وهو يعتمل في صدره يبدو انه يحتاج الى انيس الى زوجة تمسح بقلبها الحاني على اوجاعه كان يتشرنق على ذاته ويستمتع بوحدته لكنه اليوم يجد في نفسه تغيرا ويشعر ان هناك خطبا ما يبدو ان نفسه الطيبة تشتاق للحب.

رحلته الى الاسكندرية تمت بدون تخطيط مسبق فهو يحتاج الى اجازة ليسترد انفاسه ويهدأ حتى يصفوا ذهنه ويتخذ القرار السليم دون اي تاثير من شخص اخر وهو قرار صعب بالنسبة له كان في صراع داخلي يتمزق بين بقائه في مصر حيث امه و اشقائه وحيث المستشفى الخاص الذي انفق جده عليه جل ماله باخلاص كمشروع استثماري من اجلهم وبين انتقاله الدائم الى المملكة المتحدة فبعد تخرجه من كلية الطب وحصولها على الماجستير حصل على منحه دراسيه لكي ينال شهادة الدكتوراه من جامعة "وارويك" في المملكة المتحدة فالتقى هناك بالدكتور "جيمس روبن" استاذ هندسة الكهرباء الحيوية حيث يهتم هذا الفرع من الهندسة الطبية بالنشاط الكهربائي الحيوي في الجسم والذي يتضمن نشاط الجهاز العصبي.

استدعاه الدكتور "جيمس" في احد الايام عن طريق زميل اخر يشرف على دراسه "اسامة" هناك المختصة بعلم جراحه الاعصاب فذهب اليه ودار بينهما حوار جاد لن ينسى ابدا نظرته عندما رآه فقد رمش بعينيه نحوه باعجاب فور عند ان دلف من الباب ثم ابتسم بوقار ودعاه للجلوس امامه وقال بصوت هادئ:

- اطلعت على مقال باسمك قد قمت بتقديمه للنشر في المجلة العلمية "وايت مايند" ولفت نظري صغر سنك فهل لا حدثتني عن مقالك اكثر.

انتابه شعور ان كل من بالمكتب وكل شيء ايضا حتى عقارب الساعة قد توقف لينصت الى كلامه استجمع قواه ونظر في عينيه الدكتور جيمس ثم قال بثبات:

- المقال يتحدث عن امكانية زرع اقطاب الكترونية في دماغ شخص مصاب بشلل دماغي تحتوي على ذكريات تم جمعها من مخ شخص اخر مما يسمح له بالاستفادة من تدريب لم ينله من قبل مخزن في الذاكرة المنقولة فتتغير حياته ويتغلب على مرضه.

عقد دكتور "جيمس" حاجبيه في شك وقال:

- هذا يتطلب جراة وعطاء كبير من سيسمح لنا بالعبث بدماغه لن يوافق عليها غالبا الا احد اقارب المريض من الدرجه الاولى ان وجد.

عدل "اسامة" ربطة عنقه واردف قائلا:

- ادرك هذا جيدا وليكن متبرعا بطريقة قانونية اطمح في اكتشاف طريقة لنسخ الذكريات دون المساس بالمخ عن طريق استخدام اجهزة الكمبيوتر والموجات الراديوية ولكنني ما زلت ادرسها.

- ولكن يا بني الجميع سيعتبرونها خيالا علميا واعتقد انه لن يصدقها احد ما لم تجري ما التجربه ضابطة.

قال "أسامة" بأصرار:

- لابد ان نجرب.

كان الدكتور "جيمس" يثقبه بنظراته النافذة عندما عقد ذراعيه على صدره وقال مستنكرا:

-واين ستفعل هذا؟ في مصر!

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Aug 09, 2023 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

الهالة المقدسةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن