لم أعد أشعر بالأيّام ولم تعد لها أيّ قيمةٍ لديّ، بتُّ أقضي يومي في السّرير قلّما أنهض منه لآكل شيئًا يسدُّ رمقي ثم أعود لأغرق في عالمي الكئيب وأُغرق قلبي المسكين معي في الظلام، غدا قلبي محطّمًا مظلمًا بائسًا، مع كلّ نبضة يخفق بها كان يضعف أكثر وأكثر وأشعر أنّها طرقات مستنجدة ليخرج من بين أضلعي، ليخرج من جسدي المظلم علّه يُبصر النور فيحيا، ليخرج من ذاك السجن العميق الذي حبسته فيه وأغلقت عليه كيلا يرى النور مجدّدًا، وظللتُ أتسائل... كيف لازلت تنبض يا فؤادي؟! كيف لاتزال تحيا وتؤدي عملك بكلّ تفانٍ وإخلاص وأنا ماعدت قادرًا حتى على الاستمرار، يمكنك الاستراحة يا قلبي فلم أعد أريد الحياة بعد الآن، ما عدت قادرًا على الاحتمال أكثر يا فؤادي، فما عساي أفعل ؟!
« ألن تكفّ عن خمولك ذاك وتعود لعملك؟! لقد مرّ أسبوعان على خروجك وأعتقد أنّك قد تعافيت تمامًا يا مينا. »
تنهّدتُ فور أن تناهي لمسمعي صوته، ودون إرادتي اعترتني فرحةٌ طفيفة لاهتمامه، إنّه أبي... رغم أنّه ينشغل كثيرًا بعمله كونه لواءً مرموقًا، ورغم أنّ عمله يمتلئ بالرّشاوي والكذب والتلفيق وكلّما نصحته يزجُرني ويعاتبني ولا يأبه لي، رغم كلّ ذلك هو نوعًا ما يهتمّ بي وأنا أحبُّه، على الأقلّ هو كلُّ ما تبقْى لي.
« أفقدت سمعك أيضًا في ذاك الحادث؟! »
« أبي.. أرجوك...لا أوّد فعل شيء الآن! لا أودّ فعل أي شيء! »
وفور أن نطقتُ بتلك الكلمات حتى سمعت وقع خطواته الثقيلة تقترب من سريري بسرعة حتى استقر والدي أمام ناظري مباشرةً بوجهٍ مُتجهّمٍ غاضب، ابتسمتُ لا إراديًّا فور رؤيتي له؛ فأنا أشبهه كثيرًا بشعري الحالك الذي شابه شعره وهذه العيون الدعجاء التي استمدّت سوادها من عينيه أيضًا.
« مينا نسيم جورج ! ابن أشهر لواءٍ في الدقهلية كلّها هو محضُ شابٍّ عاطلٍ عن العمل وغير نافعٍ في أيّ شيء سوى اللّهو والفساد، ماذا سيقول الناسُ
عنّي؟ » صاح والدي بغضب وهو يلوّحُ بيديه في الهواء بعشوائيّة.رددتُ بهمهمةٍ وقد اعتدت سماع كلامه المكرّر والمحفوظ عن سمعته وشهرته ونظرة الناس عنه وكيف أنّه يجب أن يبدو مُنزّهًا ونظيفًا شريفًا لكلّ الناس، هو يحبّني أجل، لكن عمله وسمعتُه أهمُّ منّي بكثير.
« مينا! انظر إليّ عندما أُحدّثُك! لقد كدت تودي بحياة ذاك الطبيب وقد كادت سمعتنا أن تتدنّس بفعلتك الغبيّة تلك! هيّا انهض ستعود لعملك، هيّا انهض! » اختتم والدي كلامه بارتفاع نبرته وهو يسحبني من معصمي مُبعدًا إيّاي عن السرير.
نفضت ذراعيّ منه وأنا أتأفّفُ بضيق وأرمقه بنظراتٍ ساخطة.
تجاهلني وخرج من غرفتي غاضبًا صافقًا الباب خلفه بعنف.
يالها من حياة هذه التي أعيشها !
ارتديت ملابس لائقة وخرجت من غرفتي، نزلت الدرَج ليواجهني والدي وهو جالسٌ على الأريكة وقد حمل بيديه إنجيلًا لا ينفكّ عن قراءته وتلاوة صلواته التي لا أجد لها نفعًا أصلًا؛ فهو لا يطبق أيّا مما يُردّده، خطوت من جانبه مُسرعًا ولكنّه استوقفني بقوله :« عد مُبكّرًا إلى المنزل! »
أنت تقرأ
حين التقيتُك
Духовные🌿 الرواية حاصلة على المركز الثاني لفئة القصة القصيرة في مسابقة كأس الإبداع لعام 2023 ★ 🌿 فائزة بالمركز الثاني في مسابقةِ ريشٌ وحبر★ ﴿ طوالَ حياتي كنتُ موقنًا أنّ المرءَ يولدُ مرّةً واحدةً في الحياة إلى أن التقيتُه وأقسمُ أنّي حينها خرقتُ القوانين...