اموت و لا ادري و انت قتلتني ..
فلا أنا ابديها و لا انت تعلم ..
لساني و قلبي يكتمان هواكم ..
و لكن دمعي بالهوى يتكلم ..
- ابو نواس
____________________________________________
الشمس أخبرت الجميع بأنها على أعتاب يوم جديد ، استيقظ ( امجد ) اخيرا بعد نوم لم يتعدى البضع ساعات .. رفع رأسه متألما من وضعيتها التى اتخذها طوال فترة نومه ، وجد ( معتز ) يقلب فى هاتفه بملل شديد واضعا رأسه على قبضة يده جعلت ( امجد ) يقول بكسل : مالك يا ( معتز ) شايل طاجن ستك ليه ؟
تأفف بإنزعاج مردفا بضيق : زهقان يا ( امجد ) ...
- اقوم ارقصلك ؟
قالها ضاحكا و لكنه سرعان ما فر من مكانه بسبب الوسادة التى قذفها ( معتز ) تجاهه .. فصاح ضاحكا : خلاص انا آسف ..
ضحك ( معتز ) على حالته ، و لكن قطع حالتهما تلك هو هاتف ( امجد ) الذي رن بغتة ، كانت أخته التى تصغره بعدة أعوام .. تناول الهاتف محدثا إياها : أيوة يا ( فرحة ) ..
- انت فين يا ( امجد ) ؟
قالتها بلهفة ، فإنكمش حاججبيه قائلا بتعجب : أنا موجود مع ( معتز ) .. فى حاجة و لا ايه ؟
قالت بإشتياق : وحشتني يا اخي .. تغيب عني كم سنة و يوم ما تيجي نبقى فى نفس المحافظة و منقابلش بعض ؟!
تنهد بعمق ثم قال بإبتسامة : هجيلك انهارده او بكرة يا ( فرحة ) ..
- انت مش عايزة تيجي عشان ماما .. صح ؟
باغتته بالسؤال فأسرع ينكر تلك التهمة و إن كانت حقيقة بقوله : لا طبعا .. أنا عايز اشوف ماما طبعا ، بس كان فى مشكلة مع ( معتز ) و كان محتاجني مش اكتر ..
لم تقتنع بمثقال ذرة و لكنها تنهدت بإستسلام قائلة : ماشي يا ( امجد ) هستناك يا حبيبي ..
ابتسم بحنان ثم قال : مش هغيب عنك .. سلام ..
اغلق المكالمة التى كانت ثقيلة على قلبه للغاية ، و عاد جالسا مرة أخرى على الأريكة أمام ( معتز ) الذي أردف بضيق متأملا المكان حوله : أنا لازم تجيب حد ينضف الشقة دي .. بجد التراب ماليها ..
انتبه للذي لم يتفاعل معه فى حديثه لأول مرة ، و كانت العين هي اكبر مرآة لما يدور فى عقله ..
____________________________________________
حزنها لم يذهب بعد ، متكورة على نفسها فى حالة يُرثى لها و كأنها لن تفيق من أثر ليلة البارحة ابدا ، تنظر بيأس شديد إلى الحائط الذي أمامها .. تشبه مجرى حياتها الذي توقف أيضا عند حائط .. حائط اختارته بنفسها ، زوجها الذي أوقف حياتها عند نقطة و اصبح التقدم من بعده مستحيلا .. ثم جاء اولادها الذين كانوا بمثابة حجر ثقيل معلق بقدميها و يجبرها على الغرق ، ما هي جريمتها ؟! .. الإبتعاد ؟! و لكنها ليست جريمة فى قاموس البشرية .. إن بقت ستموت و أنفاسها لازالت تدخل و تخرج من جسدها و كأنها حية ، طرقات خفيفة على الباب جعلها تنتفض بخوف و لكنها سرعان ما اطمأنت عندما سمعت صوت ( حسين ) يستأذن للدخول ،
و وجدته يدخل عليها حاملا فى يده شطائر ، قائلا بلطف : مش هتفطري معايا ؟
ابتسمت بحزن و هي تقول رافضة عرضه بأدب : أنا مش جعانة ..
جلس بغيظ جوارها على السرير مردفا بغيظ : انتوا شوية اندال .. ( بتول ) اللى طلعت بيها من الدنيا .. فطرنا سوا ، إنما ( معتز ) و ( امجد ) هربوا مني .. و انتى مش عايزة ايه هقعد افطر مع العيال لوحدي ؟
استطاع ببراعة انتشال ابتسامة منها على ما تقوله به ، ربت على كتفها قائلا بحنان : أنا يمكن مكنش شوفتك او عرفتك غير مرة واحدة بس بجد أنا حاسس انك كويسة ..
تحررت الدموع الحبيسة فى عينها و هبطت العبرات على وجنتيها ببطء تشهق من فرط البكاء تشعر و كأن العالم تجمع خصيصا لهزيمتها .. و لم تسعفها لغات العالم أجمع على وصف ما تشعر به فى روحها ، بينما هو جوارها .. لا يفهم شئ و لا يقرأ ما بداخلها و لكنه جوارها و هذا يكفي .. راقبها و هي تهدأ رويدا رويدا ، ابتسم مرتبا على كتفها : كل حاجة هتعدى متقلقيش ..
بادلته ( ريحانة ) الإبتسامة و لكنها متألمة و هى ترفع كتفيها فى عدم دلالة : أنا كنت عارفة إن كل حاجة بتعدي ..
ثم مطت شفتيها بحزن و عيناها تخونها للمرة الثانية : بس انا مش فاهمة ليه أنا واقفة مكاني .. ليه مفيش حاجة بتمشي غير الأيام بس ، ليه مشكلتي و انا نفسي لسه فى مكاني ..
أشفق ( حسين ) على حالتها كثيرا ، و خاصة و هي تعلق : أنا مكنتش موجوعة من ضربه ليا على قد ما كنت موجوعة على أنه بيتفنن ازاى يذلني !
ثم سألت بإستنكار أشد : ازاى ؟! ازاى كان عايز ينزلني الشارع و انا بلبس البيت و الناس و الرجالة يشوفوني ؟! هو أنا مش كنت مراته فى يوم من الأيام .. مش أنا كنت جزء من بيته .. مش هو المفروض يبقى عنده نخوة ؟!
قالت آخر جملتها بإنفعال و هي دموعها تتسابق على وجنتيها ، ثم عادت للجلوس جواره بعدما وقفت محدثة إياه اخيرا .. عم صمت لأكثر من دقيقة حتى قال اخيرا بعد تنهيدة عميقة : انتى متستاهليش حد زيه يا بنتي ..
نظرت له بعنيان قتلهما الحزن ، فأكمل حديثه : أنا عارف ان فى ناس كتير شايفينك غلطانة بس انتى مش غلطانة ابدا .. مش غلطانة انك سيبتي حد كان بيأذيكي و خصوصا لو كان أذى جسدي ..
اشار بعينه لتلك البقعة الرزقاء التى تترك أثرا واضحا على وجهها .. فوضعت يدها لا إراديا عليها ، قال لها بحنان افتقدته منذ أعوام عديدة : الناس مش هتشوف و لا هتستحمل و لا ليها أنها تقرر حاجة انتي بتتعرضي ليها .. صدقيني كلام الناس بيأخر سنين و مجهود و عمر ..
و كأنما يرى نفسه .. يرى نفسه بها بنفس التخبط ، و نفس اليأس ، و نفس الحيرة ، و لكن حينها كان هو .. لم يكن هناك أحد .. و لم يجد سوى نفسه ماثلة أمامه معترفة بجرم لم تفعله ، افاق من شروده اخيرا و هى تمسح دموعها قائلة : شكرا اوي ..
رفع نظره لها ثم ابتسم سائلا اياها : على ايه ؟
لم تستطع الإجابة و لكن بالنسبة له .. كان كل شئ واضحا تماما كوضوح الشمس ..
____________________________________________
طوال عمرها تكره المفاجآت و لكن حظها العثر دائما لا يوقعها الا فى مفاجآت عديدة ؟!
مرت الكثير من الساعات و ها قد خرجت اخيرا من المقابلة التى تحدد تعيينها .. لم يكن وراءها شيئا فأخذت تتجول بين طرقات المدرسة .. ترى الأطفال التى تمرح هُنا و هناك .. ابتسمت بحنان شديد ، حتى جاء صوت جعلت أن الأرض على وشك بأن تميد بها ، صوت عرفته جيدا و حفظته عن ظهر قلب .. تسمرت فى مكانها و جحظت عيناها بينما اقترب الصوت أكثر متجها ناحيتها يقول : ( بتول ) بنفسها هِنا .. نورتي ..
مفاجآت غريبة و تحدث فى أوقات خاطئة تماما و خاصة حينما رأت طيفه يقف أمامها ، و لظهروه فى ذلك الوقت تحديدا عواقب وخيمة .. وخيمة إلى أقصى درجة .. التفتت بإرتباك تطالع الذي اصطادها بمهارة كما اعتادته ، بينما قال ( كريم ) بإبتسامة : وحشتيني اوي يا ( بتول ) ..
وقح فى حديثه كما تعلم ، لذلك قالت بإبتسامة رسمية أخفت ما بداخلها بجدارة : اهلا يا استاذ ( كريم ) ..
شعرت بأن ضحكته هزت الأرجاء ثم قال ضاحكا : لسه زي ما انتي يا ( بيتو ) .. قوليلي لسه متجوزة ( معتز ) ؟!
تعجبت من سؤاله عن علاقتها ب ( معتز ) و خشت بشدة من علمه بإنفصالهما ، فقالت و هى تحاول الا تنخرط فى حديث معه بالذات : أيوة الحمد لله كويسين ..
- لسه متشدد زي ما هو ؟
تملك الغيظ منها فقالت بإنفعال : ( معتز ) مش متشدد انت اللى فاتحها على البحري يا ( كريم ) ، و بعدين يعني دي مبادئ عنده و لازم تحترم اى حد عنده مبادئ حتى لو مختلفة معاك ..
قاطعها صائحا : ايه يا بنتي .. كل ده عشان قلت متشدد .. أنا كنت بهزر ، ما احنا ايام ما كنا فى الجامعة سوا كانت اكتر كلمة بتضايقه متشدد .. فأنا قلت استعيد الذكريات و اقولها عادي يعني .. بلاش التكشيرة دي .. زي ما قولتلك أنا كنت بهزر مش اكتر ..
عادت لحالتها الهادئة اخيرا ، ثم قالت بإعتذار : أنا آسفة انى انفعلت .. أنا بس كنت متوترة عشان ال interview اللى كنت فيه ..
ابتسم ( كريم ) ثم قال بلطف : انا اللى آسف يا ( بتول ) .. أنا بصراحة مستفز ..
ضحكت لصراحته الشديدة ، ثم تذكرت فجأة فقالت : هو انت هِنا بتعمل ايه اصلا ؟!
لم تلمح أي خاتم فى يده تدل على ارتباطه ، ضحك لسؤالها ثم قال متنهدا : أنا شريك فى المدرسة دي .. يعني كان ورث و كده فقلت اشغله فى حاجة مفيدة ..
ثم شاكسها بقوله : حظك أن فى اليوم اللى بنزله مرة فى الشهر تكوني انتي موجودة فيه ..
ارتبكت ملامحها مرة أخرى فقال سريعا يحاول تهدئتها : أنا بنزل كتير يعني بس يعني كانت فرصة سعيدة انى شوفتك انهارده ..
ابتسمت برقة شديدة و هى تقول : أنا اللى مبسوطة انى شوفتك يا ( كريم ) ..
- ( بتول ) ..
صراخ أكثر من كونه مناداة .. كاد قلبها يخرج من مكانه حينما نظرت وراءها لتجد ( معتز ) لكنه لم تكن فى حالته الطبيعية .. عروقه البارزة و عرقه الغزير و عصبيته التى تعرفها و تحفظها عن ظهر قلب .. جاء خصيصا لإيصالها إلى منزل والده خوفا عليها.. و فى لمح البصر كان أمامها و أمام ( كريم ) الذي ابتسم بخبث عندما لمحه ، ازدرت ريقها فى توتر و خوف و أطرافها أصبحت باردة تماما .. وقف بينهما بينما قال ( كريم ) بإبتسامة : ازيك يا ( معتز ) بقالي زمان مشوفتكش من ساعة ما خلصنا الجامعة .. حقيقي وحشتني ..
ابتسم بعصبية و قال : الحمد لله يا ( كريم ) عن اذنك ..
و لم تفق الا و هو يسحبها من يدها بإنفعال و هو يجز على اسنانه متحدثا بإنفعال : امشي قدامي ..
أنت تقرأ
حَتى اَتَاهَا اليَقِينْ
Roman d'amourلعل كل الأقدار كانت سبب فى تأخر امنيتها .. هذه الدنيا لا تعطى كل شئ .. ربما تخطط لحياتك ثم يأتى كل شئ فى لحظة قاطعة يخبرك بأنه لا ينفع .. كمثل الموج الذى يأتي على غفلة فيقلب سفينتك رأسا على عقب ، حتى سألت نفسها ذات مرة متى سترسو سفينتها على الجزيرة...