ثلوج العيد

32 1 0
                                    

كانت الليلة ليلة الميلاد، والساعة تشير إلى الخامسة بعد الظهر، ومع ذلك فقد بدأ الظلام يخيم على الخارج. وعلى طول الساحة القديمة ،
انتشرت مصابيح عديدة فيكتورية الطابع ومحمية بعناية .
تقدمت «آنا» بات متجرها فارغاً الآن!
من النافذة وانحنت لتسمر غطاء العلبة الخشبية، لقد وحانت منها التفاتة عرضية من خلال النافذة، فعرفت أن الناس في الساحة أصبحوا قلة. أما معظم المتاجر الخلفية الأخرى، فإما أغلقت البيع، فيما نوافذهم تتألق بالأشرطة اللماعة .
أبوابها وإما تقوم باغلاقها. وحدهم الصاغة وبائعو الحلوى استمروا في وبينما هي غارقة في أفكارها، أحست بنظرات تخترقها من الخارج .
من غير أن تقصد، انغرز مسمار في إبهامها. فما كان منها إلا أن أعادت النظر مجدداً، وإذا بها تلمح طيفاً مظلماً يتحرك بعيداً. هنا، غمرها شعور
بالارتباك، إلا أنها سرعان ما هزت كتفيها بلا مبالاة وهي تقنع نفسها أن الطيف بلا ريب لأحد العابرين الذين صادف مرورهم في هذا الشارع .
كان الثلج يتساقط منهادياً، والندف أشبه بريشات كبيرة. لطالما أحبت الثلج ، فهو يضفي دائماً لمسة سحرية على أي يوم كتيب يصادفها .
بعد ذلك، أكبت على عملها مجدداً، حتى انتهت من تثبيت المسمار الأخير في غطاء العلبة النهائية. فوضعت المطرقة جانباً ونظرت من حولها، وهي تطلق تنهيدة ضعيفة، فلم يتبق في المتجر شيء يذكر .
فالرفوف أمست فارغة، والنوافذ عارية من أي زينة، تماماً كحال مخزن الكتب الضيق والمظلم .
وحدها رائحة عفن خقيفة بقيت في الغرفة، كانت تنبعث من الأوراق القديمة وحواشي الكتب وحبر المطبعة. وحدها تلك الرائحة علقت في الهواء، لتشهد على كتب كانت وعلى حلم انقضى ، أما أثمن الطبعات الأولى والمخطوطات القديمة، فاختفت جميعها منذ الأمس حين أمست فريسة لوكيل أحد المشترين .
وأقبلت على بقية البضائع، فراحت تجمعها بعناية في صناديق استعداداً لتسليمها في الأيام القليلة بين عبد الميلاد ورأس السنة .
لطالما كانت «انا» تداعب طموحاً غالياً على قلبها. فمنذ زمن بعيد وهي تحلم بإنشاء مكتبتها الخاصة، حلم لقي كل التشجيع من صديقتها
العزيزة «كليو». . . مع أن الفتاتين صديقتان منذ نعومة أظافرهما ، إلا أنهما تختلفان طبعاً وشكلاً. فأنا فتاة فارعة الطول، رشيقة وسمراء، تعرف تماماً كيف تسيطر على مشاعرها، أما كليو فقصيرة وممثلثة الجسم، وعلى قدر من الجمال ، وهي للحياة ونشاط دائم. وعلى مدى الأيام
التي جمعتهما في المدرسة كما في الجامعة، كانت كل واحدة منهما تبوح للأخرى بآمالها وبمخاوفها، وبالنجاح الذي تلاقيه والخيبات التي تمنى بها .
وحين تمكنت «آنا» أخيراً من المال الكافي لاستئجار متجر، انشرح صدر «کلیو» وخفق قلبها فرحاً لا سيما حين أضافت «آنا» بعض الخرائط الأثرية إلى مجموعتها الخاصة، ومع أنها أصبحت والدة تنفق معظم وقتها في الاهتمام بولديها التوأمين، إلا أن كليو قدمت لصديقتها كل ما في وسعها من المساعدة العملية والدعم المعنوي .
أما اليوم، فقد مني مشروع «آنا» للأسف، بفشل ذريع . وذلك بعد أشهر طويلة من العمل والجهود الشاقة، ولعل السبب الرئيسي في ذلكيعود إلى افتقارها للمال . وقد اظهرت كليو من التعاطف ما استطاعت إلا أنها ظلت عاجزة عن المساعدة. وفي الأمس، اقتحمت المتجر وهي تنأسف لإغلاقه قائلة: «يا لها من خسارة كبيرة. .. حبذا لو أستطيع مساعدتك بأي طريق. أخبريني ماذا ستفعلين؟ » .
هزت آنا کنفیها بلا مبالاة: «ما إن ينتهي عيد الميلاد، حتى أبدأ بالبحث عن عمل؟ .
لن يكون الأمر عسيراً بالنسبة لفتاة بخبرتك ومؤهلاتك.
ومع ذلك، كانت كلتاها تدرك أن التفاؤل أمر تافه وغير مجد في هذه الظروف. كانت «رمينغتون» بلدة صغيرة، هادئة، فيها سوق رائعة ،وتحيط بها التلال والسهول الخصبة. غير أن فرص العمل فيها قليلة وبعيدة المثال، إذا ما استثنينا قطاع السياحة طبعاً بدا هذا أحد الأسباب الذي دفع بأنا لاستغلال الفرصة واستئجار المتجر لفترة قصيرة، مستعينة برأس مال لا يكاد يكفيها. لكن لم يكن أمامها خيار آخر. رغم كل ذلك، أرادت أن تستقر في رمينغتون حيث ولدت وترعرت ، فرحيلها عن الجامعة، والستنان اللتان قضتهما في لندن، لم يسهما إلا في زيادة كرهها للمدن الكبيرة، فعادت إلى بيتها وقد هذها الإرهاق وأنهكتها خيبات الأمل.
تمتمت «کليو» بتفجع: «لقد كدت تنجزين صفقة رابحة! لو أنهم لم يجددوا عقد الإيجارا .
لكن ما حدث حدث . . . فحين أقدمت شركة «ديون» على شراء هذا المبنى، رفعت الإيجار بشكل غير معقول، فكان الأمر بمثابة القطرة التي
أطفحت الكيل. وها أنا تشهد على خسارة ما تبقى من البضائع التي جمعتها بكل جهد وعناية لتمسي اليوم حصة اننزعها جامع تحف خاص
لكن عزاءها الوحيد كان أنها سددت ديونهاء مستعينة بالمال الذي قبضته. كما استطاعت أن تدفع الديون التي يطالبها بها المصرف وأن تترك
الميدان وهي لا تملك غير كبريائها ، تماماً كما فعلت مع «دايفيد» .
لا، لن تفكر في دايفيد . فشارع الذكريات حلقة مفرغة تؤدي بها دائماً إلى ألم لا ينطفىء. استقامت آنا بثبات ثم تقدمت نحو المنضدة الخشبية، وخطواتها ترجع صدى بعيداً في الفراغ. بعدئذ، تناولت معطفها وحقيبتها بالإضافة إلى الصندوق الصغير القابع هناك وفيه عمل نهاية الأسبوع كله ما إن قامت كليو وأنا بتبادل هدايا الميلاد حتى سألتها كليو : «أتقابلين بول خلال العطلة؟) .
فأجابتها آنا بحزم: «لا» .
ثم تابعت : «صحيح أنه أراد رؤيتي إلا أنني أجبته بالرفض خوفاً من تجدید آماله» .
بامكانك ان تقدم على ما هو أبو التعريف بينهما، لهذا أحشت بالمسؤولية التي عهدت إليها. فأضافت: «أعلم أنه يكبرك بخمسة عشر عاماً، لكنه محام محترم جداً، بملك بيتاً في غاية الجمال، وهو غير قبيح . بربك ، ماذا يمكن لفتاة أن تطلب أكثر؟» .
وكأن كليو أبت إلا أن يشاركها الجميع السعادة التي غمرتها في ظل زواجها هي، لذلك واصلت إلحاحها : «أنت معجبة به، أليس كذلك؟» .
شعرت أنا برغبة شديدة في القول : «ليس تماماً» .
لكنها وافقتها : «نعم، إنه لطيف جداً
ـ وأنت تحبين الأطفال .
كان بول أرمل وله ابنة تبلغ من العمر تسع سنوات . أقرت آنا : «نعم، أحبهما، فصوفي فتاة لطيفة . لكن هذا لا يعني أنني أرغب أن أكون زوجة تنهدت كليو معلنة استسلامها للوقت الحاضر وسألنها : اما مشاريعك لعطلة الميلاد؟ ) .
ردت آنا برفق : «أرغب فقط في استراحة صغيرة وهادئة» .
لكن الخدمة لم تنطل على صديقتها ولو لبرهة، فاستنتجت: «هذا يعني أنك ستكونين وحيدة . لم لا تزوريننا مجدداً؟ بل لم لا تمضين عطلة
نهاية الأسبوع بكاملها» .
كان آلن، زوج كليو ، رجلاً هادئاً، بل قل خجولاً، لا يحبذ الاختلاط بالناس كثيراً .
ـ أشكرك، لكن لا أظنني أفعل .
استدركت كليو وهي تعلم سبب رفض آنا : «لا تكوني سخيفة، آلن لن يمانع» .
قد لا يمانع حياً بزوجته ورغبة في إسعادها، لكن الأمر لن يعجبه بالتأكيد، وسيفضل الانفراد بعائلته، غير أن كليو راحت تحتها: «كما أن التوأمين سببتهجان. . قد يقدمان على إيقاظك عند انبلاج الفجر، لكنني أفضل ذلك على رؤيتك تمضين ميلاداً وحيداً بجانب السرير خشيت أنا أن تكون دعوة كليو من باب الواجب فحسب، وأن تكون
راغبة فعلياً في قضاء الميلاد برفقة زوجها وولديها. فأصابتها مجرد الفكرة بالقلق واندفعت تجيب: «شكراً جزيلاً، لكنني لن أكون وحيدة حقاً
فالكثير الكثير ينتظرني» .
حسناً. لن أحاول أن أقنعك، لكن إن غيرت رأيك في الدقيقة الأخيرة، لا تترددي في المجيء .
وبالفعل، في هذا الصباح، وفيما آنا تتناول وحيدة طعام الفطور المكون من الخبز المحمص والقهوة، وفيما اليأس يحفر طريقه إلى قلبها،غيرت رأيها .
فهي تتحمل أي شيء إلا أن تستيقظ صباح الميلاد وما من مشروع في رأسها إلا قضاء اليوم في غرفتها الضيقة، وبعد تردد، قررت في النهاية أن تزور كليو وها هي الآن، تمسك صندوقها بيد، فيما حقيبتها ملقاة على كتفيها.. وأطفأت الأنوار وأحنت رأسهـا القـائـم الشعر تحت القبة
المنخفضة لتغلق الباب الأسود وراءها . . رمت المفتاح في حقيبتها ثم رفعت ناظريها إلى اللافتة السوداء التي تزين أعلى النافذة، كانت الأحرف
الذهبية تقول: «سافانا ساندرز : مخطوطات وكتب نادرة) .
وفجأة، غادرها الشعور بالخيبة واليأس الذي كان يلازمها منذ أسابيع خلت، وإستحال احساساً عميقاً بالفراغ لا يفارقها . . كان الثلج يتساقط
خالعا على الرصيف وشاحه الأبيض فيما الندف تنهادی باردة، صغيرة ولزجة، فتحيط بمصابيح الشارع كما الغبار يسبح مساحة منيرة.
بعدئذ، وضعت غطاء الصوف فوق أذنيها وأخذت تمشي بحذر على طول الطريق الزلقة سعياً إلى مرآب السيارات خلف الساحة القديمة .
انقشع الضباب عن الساحة قليلاً، فكشف عن واجهات المتاجر التي أضيئت بالأنوار، فاستطاعت حينئذ أن تتلمس طريقها عبر ممر ضيق يقع
خلف المحال، إنما ظلت العنمة تسيطر على المكان .
باستثناء بضع سيارات موزعة هنا وهناك كان الموقف خالياً من أي انسان. أحياناً، كانت تظهر لها أطياف قائمة بين مساحات النور المتفرقة .
وما إن انحنت أنا لتفتح باب سيارتها، حتى أحست بحركة إلى جانبها،
فانتصبت تطرق السمع فجأة. كان الثلج قد أسدل غطاء ناصعاً على المكان الفارغ، إلا أن حاستها السادسة ظلت تنبثها أن أحدهم يقوم بمراقبتها .
اخذت القشعريرة تسري في بدنها فيما هي تحاول إقناع نفسها بالعكس .
أخبرت نفسها أنها تتصرف بغباء وأن ما من أحد في الخارج، إلا أن محاولاتها جميعاً ذهبت سدى . أخذت تمعن النظر في هذا الضباب، وإذا
بهر أسود كبير يظهر فجأة أمامها ثم يجري باتجاه الحائط ويقفز نحو باحة أحد المحال . عندئذ، أطلقت تنهيدة ارتياح ثم قالت لنفسها وهي ترفع

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Oct 19, 2023 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

ليل القرصان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن