الخامسة عشر من أبريل:
دوي مدافع...اصوات الرصاص...
"لجين ومروة في المدرسة!"... "عاد عاصم وأبوبكر ومعهم لجين"... "لماذا تاخرو باحضار مروة"... ذهب ابي ومحمد لاحضار الدواء..."ندى قالت انهم بخير"... "ما هي أخبار خالتك رشا؟ "... اتصالات اتصالات اتصالات...
امي ما زالت طريحة الفراش اعياها المرض... تحضير الإفطار... أذن المغرب... نبتلع بعض تمرات وكوب عصير على مضض. .. "ناس حبوبة جووو" هاكذا احببت ان اكتبها بالدارجية كما اذكر...
مقططفات من هذا وذاك... ذكرى عابرة تومض بسرعة. يقولون ان احدنا عندما يقترب من الموت يعاد شريط حياته ولا علم لدي عن مدى صحة هذا الإدعاء... لاكننا عالقون في شريط تلك الايام ولسنا بميتين... نحن احياء تماما نتنفس وناكل ونضحك ونحمد الله على هذه النعم الكثيرة (احمد الله كل الحمد واتمه بان أحبتي بخير) ... ولكن جزء منا مات وتعفن قبل ٦ اشهر تاركاً شريطه يدار ويعاد في اركان عقولنا... مات ولا ندري مدى كبر هذا الجزء الميت بداخلنا.الخامسة عشر من اكتوبر:
مضت ٦ اشهر من انطلاق الصراع بين الدعامة (لعنة الله عليهم) .. والجيش (الذي هو بالكاد نطلق عليه اسم جيش لدولة)... ام دعونا نتشكل ونتلون كالحرباء السياسية، تعرفونها جيدا بالطبع! . هي التي تلون الكلمات وتحورها لتدس الحقيقة المقيتة ويسعى كل ظالم خلف ظلمه بتستر فلا تكشفه كلمات الحق المشرقة والواضحة كاشعة الشمس. يقولووون وكما يقولون! "طرفي النزاع".
وددت كثيرا لو اني ابصق (واعتذر على هذا اللفظ) كل الذي حدث من ذاكرتي على الورق... لكن كان هنالك الكثييير لا ادري من اين ابتدء، لكنني ساذكر اجلها واكثرها التصاقا.
من ما ذكرته في الأعلى لا بد أن هول اليوم الاول بات جلياً.. ابتداءً من إحضار أخواتي من المدرسة، ومرض امي، وحضور باقي عائلتي الذين يسكنون بنفس حينا السكني... بالطبع هذا الوصف السريع لن يكب هول اللحظة في كلمات.. حتى اننا من هولها لم نكن ندري مقدار الهلع الذي اعترانا في اول يوم الا بعد ايام ونحن نتجاذب اطراف الحديث ونلقي الذهول على ملامحنا... أربعةُ أيامٍ... هي تلك الأيم التي قضيناها في "اركويت"، وترتيباً لأشد المواقف تشبثاً على ذاكرتنا، كانت أصوات الطائرة من اليوم الثاني تتربع على العرش.. ثم يأتى بعدها صوت الدانة (التي لم أسمعها لنومي بعمق بعد أن تمكن مني الزكام، ولقلة نومي في الأيام السابقة. ولكن قالو لي أنها كانت السبب الوحيد الذي اقنع والدي بضرورة الخروج من منطقتنا. لا زلت أذكر مروة وهي تيقظني بفزع أن استيقظ واقوم بتجهيز بعض الملابس لأننا سنذهب لسوبا(هناك عند منزل خالتي رشا))، و في المرتبة الثالثة كانت اصوات المدافع، واذكر هنا قصة طريفة حدثت.. كنا نجلس جميعاً، أخواتي وبنات خالي في "البرندة" كما نقول لها بالسودانية.. ونتجاذب اطراف الحديث. وكنت أحمل "برميل الماء" لأغسله وأملاءه (نسيت اخباركم بأن الكهربا انقطعت منذ اليوم الثاني تمام بعد ظهور الطائرة، والماء ياتي ويغيب على هواه)، ومن ثم سقط برميل الماء مني فجأة، ولأنه فارغ ومجوف من الداخل فصوته كان كصوت المدفع، آمنة وزينب استعدتا للركض قبل استيعاب أن الصوت كان صادراً من البرميل الذي احمله بين يدي... عمت لحظة صمت، ومن ثم انفجر الجميع بالضحك.. كانت المرة الاولى التي نضحك بها هكذا منذ بداية الاحداث. كان هذا اليوم الثالث حسبما اذكر...ليلة اليوم الرابع. وبعد طرح الفكرة بأن نشد رحالنا لسوبا، وكانت وقار تصر على ذلك لكن ما زال ابي صامداً رافضاً وباقياً على رايه باننا سنبقى... وقار تقف وهي تحمل شنطة الظهر التي قامت بتجهيزها منذ اليوم الثاني، تحمل بها بعض الملابس لها ولبناتها والوثائق المهمة، وفي محاولة لاقناعنا بضرورة تجهيز جوازات السفر والاوراق المهمة رضخنا لها انا وامي. بالطبع ثلاثة ايام كانت كفيلة لاقناعنا بضرورة هذا الأمر. كنا نجلس انا وامي نبحث في كل تلك الأوراق عن ما يهمنا بشدة. مرت علينا البومات صورنا، استعدنا ذكريات عديدة ببعض الصور.. ثم وضعناها جانبا بكل حزن، فهنالك الأكثر أهمية من هذه الصور، وكنا نحمل أشد الاوليات. كان هنالك صوت صغير يهمس بالداخل "لا بأس... أيامٌ معددودات، ونعود! "...
بعدها كما اخبرتكم سابقاً، نمت واتت مروة توقظني فزعة، وتخبرني اننا سنذهب لسوبا! ...اليوم الرابع... لا اعلم ماذا اكتب هنا، فأنا حتى الآن اعتقد أنني في ذهول ولا افقه ماذا حدث... دعوني استرجعه في يوم اخر، فقد انهكتني الذكريات.
أنت تقرأ
الخامسة عشر من أبريل
Non-Fictionذكريات عالقة، وذهول احاول لفظه منذ اللحظة التي اندلعت فيها الحرب في الخرطوم، لكل منا قصته الخاصة وسط كل تلك الأحداث، وهذه قصتنا... منذ البداية و حتى الآن... لازلنا عالقون في الخامسة عشر من أبريل.