كيمياء السعادة - أبو حامد الغزالي

1.3K 16 6
                                    

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أصعد قوالب الأصفياء بالمجاهدة، وأسعد قلوب الأولياء بالمشاهدة، وحلى ألسنة المؤمنين بالذكر، وجلى خواطر العارفين بالفكر، وحرس سواد العباد عن الفساد، وحبس مراد الزهاد على السداد، وخلص أشباح المتقين من ظلم الشهوات، وصفى أرواح الموقنين عن ظلم الشبهات، وقبل أعمال الأخيار بأداء الصلوات، وأيد خصال الأحرار بإسداء الصلات.

أحمده حمد من رأى آيات قدرته وقوته، وشاهد الشواهد من فردانيته ووحدانيته، وطرق طوارق سره وبره، وقطف ثمار معرفته من شجر مجده وجوده، وأشكره شكر من اخترق واغترف من نهر فضله وإفضاله، وأومن به إيمان من آمن بكتابه وخطابه، وأنبيائه وأصفيائه، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله: بعثه لأصلاب الفسقة والفجرة قاسما، ولعرى الجاحدين والمارقين فاصما، ولباغي الشك والشرك قاهرا، ولأتباع الحق والإحسان ناصرا؛ فصلوات الله عليه، وعلى آله، وأصحابه أجمعين.

فصل في معرفة النفس

اعلم أن مفتاح معرفة الله تعالى هو معرفة النفس، كما قال سبحانه وتعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: )من عرف نفسه فقد عرف ربه(. وليس شيء أقرب إليك من نفسك، فإذا لم تعرف نفسك، فكيف تعرف ربك؟ فإن قلت: إني أعرف نفسي! فإنما تعرف الجسم الظاهر، الذي هو اليد والرجل والرأس والجثة، ولا تعرف ما في باطنك من الأمر الذي به إذا غضبت طلبت الخصومة، وإذا اشتهيت طلبت النكاح، وإذا جعت طلبت الأكل، وإذا عطشت طلبت الشرب.

والدواب تشاركك في هذه الأمور.

فالواجب عليك أن تعرف نفسك بالحقيقة؛ حتى تدرك أي شيء أنت، ومن أين جئت إلى هذا المكان، ولأي شيء خلقت، وبأي شيء سعادتك، وبأي شيء شقاؤك.

وقد جمعت في باطنك صفات: منها صفات البهائم، ومنها صفات السباع، ومنها صفات الشياطين، ومنها صفات الملائكة، فالروح حقيقة جوهرك وغيرها غريب منك، وعارية عندك.

فالواجب عليك أن تعرف هذا، وتعرف أن لكل واحد من هؤلاء غذاء وسعادة.

فإن سعادة البهائم في الأكل، والشرب، والنوم، والنكاح، فإن كنت منهم فاجتهد في أعمال الجوف والفرج.

وسعادة السباع في الضرب، والفتك.

وسعادة الشياطين في المكر، والشر، والحيل. فإن كنت منهم فاشتغل باشتغالهم.

وسعادة الملائكة في مشاهدة جمال الحضرة الربوبية، وليس للغضب والشهوة إليهم طريق. فإن كنت من جوهر الملائكة، فاجتهد في معرفة أصلك؛ حتى تعرف الطريق إلى الحضرة الإلهية، وتبلغ إلى مشاهدة الجلال والجمال، وتخلص نفسك من قيد الشهوة والغضب، وتعلم أن هذه الصفات لأي شيء ركبت فيك؛ فما خلقها الله تعالى لتكون أسيرها، ولكن خلقها حتى تكون أسرك، وتسخرها للسفر الذي قدامك، وتجعل إحداها مركبك، والأخرى سلاحك؛ حتى تصيد بها سعادتك. فإذا بلغت غرضك فقاوم بها تحت قدميك، وارجع إلى مكان سعادتك. وذلك المكان قرار خواص الحضرة الإلهية، وقرار العوام درجات الجنة.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: May 13, 2011 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

كيمياء السعادة - أبو حامد الغزاليحيث تعيش القصص. اكتشف الآن