جلمود من دم

11 2 0
                                    

الصخرة تأن والجبل شامخ. الرياح لا تتوانى عن جلب الأخبار والصخرة ما زالت تأن، دنى بكل بلاهة نحوها: أتبكي الصخور! وهل للصخرة شعور؟ تقهقر الأبله يطلب الهرب، انسحب خطوتين، خانته جوارحه حين قالت: تقدم.. لا تخف، ألا تريد معرفة ما لم تحط به خبرا. أتحسب أنكم وحدكم تشعرون، أو أن الجبال لا يبكون أيعقل أنكم بهذا الجنون!
أبكي أختي القابعة على سفوح (جبل المنطار)، أختي التي انفصلت عنها منذ زمن بعيد عند نشأتنا، وتفرقنا كل في بلاد بعد أن كنا مجتمعات في هيئتنا الأولى، ثم فرقتنا الطبيعة، وخدعتنا الأيام واستسلمنا للمسافات، وانقطعت رياحهم عن السؤال كما فعلت رياحنا، إلا أن الرياح الشرقية قد جاءت اليوم تحمل أخبارا، وتقول إن الأرض قد رجت، وأن أختي القابعة منذ أمد بعيد بجانب (شجرة الجميز) قد دكت، وهذا تأويل تعجبك أيها المخلوق.
الصخرة تأن والأطلس ما زال شامخا والأبله مستغربا:
لكنك صخرة من فخار عصية على الحديد والنار وطوال عمرك لا تأبهين للدمار فما الذي تغير هذا النهار؟
إن الذي تغير أيها المخلوق هو أنت، أنت من ألقيت سمعك اليوم لتسمع ما كنت تصد عنه نفسك منذ الأزل أنت من تغنيت بطيور الأبابيل، وكتبت عن نصرها يوم الفيل، لكنك لم تنظر يوما لحجارة السجيل، وتركت الحكاية بنصف تأويل.
كنا دائما نتكلم، نبكي، نتألم، نخبركم بما رأينا من الأولين وبالعذاب الذي سيشهده الآخرون، وكنتم دوما عن أصواتنا معرضين.
إننا يا من لا يميزكم عنا إلا الدماء نسمع ونرى، وإن منا لما يتفجر منه الأنهار، وإن منا لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منا لما يهبط من خشية الله فلا تجزع وكن من المنصتين.
ابتعد المخلوق تاركا الصخرة على حالها تنعي مصيبة أختها المدكوكة على مشارف مدينة (طولكرم)
وهو يحدث نفسه:
ترى كيف تكون مصيبة الحجر؟ وكيف يتألمون وليس لهم قلوب يشعرون بها ولا دماء ينزفون؟ أو ربما هذا هو الجنون؟ لم يكد ينهي أسئلته إلا وصوت نحيب آخر ينطلق غير بعيد.
إنها شجرة الزيتون، وحتما قد أنبأتها رياح الشرق بما جرى لجذورها في (جنين)، ألم تسأم الزيتونة من عذابها؟ ألم يهلكها خلودها.. مقاومتها؟ يقتلونها فتحيا، يحرقونها فتنبثق من رمادها كالفينيق، تحيا وتثمر ثم يقتلونها فتحيا ثم تثمر. يا لهم من أغبياء! يقتلون من يأبى أن يموت.. يحاربونهم بالموت ولا يعلمون أنها وقودهم، وأنهم بها يخلدون.
صوت آخر! إنها شجرة التين مرت عليها رياح الشرق هي الأخرى. التفت الأبله يتتبع صوتا آخر، شجرة الرمان طائر البلبل الرمال الهضاب الوديان، الكل بدأ بالصراخ والأبله يدور في مكانه يتقدم خطوة، ويرجع أخرى يقلب اليمين في الشمال جاعلا أصابعه في أذنيه، ويصرخ هو الآخر:
يكفي. يكفي، لن ينفعكم العويل، ولن يتحقق عدل هكذا إلى يوم الدين.
كانت الأشجار قد حاوطته بكل اتجاه، وبدأت تتحول وتتبلور، نشأت لها أعين وأفواه كبيرة، وطالت فروعها حتى السماء لتحجب عنه الشمس، فانقلب الجهل بفعل الظلام إلى خوف، خوف من الأشجار من الطيور من ظله من نفسه، وسقط مغشيا عليه.
رأى الزيتونة والرمانة، ورأى الصخرة وطيور البلبل يجتمعون حول جبل المنطار ويغنون:
يا يمه في دقة ع بابنا * يا يمه هاي دقة أحبابنا
يا يمه هاي دقة قوية * يا يمه عشاق الحرية
كان طائر الفينيق يخرج من رماده يطير فوق الجبل، ويرقص بأجنحته على أغنيتهم، ثم يطير بعيدا، ويعود ليخرج مجددا من رماده.
نهض من غيبوبته، ولا تزال كلمات الأغنية يتردد صداها هنا قرب الأطلس، التفت للجبل، هدوء تام.. اختفت وحوش الأشجار واختفى البلبل، لكن.. صوت الأنين يعود مجددا!  اقترب من الجبل.
الصخرة تأن والجبل مازال شامخا.

جلمود من دمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن