الجزء السابع

31 4 0
                                    

بسم الله الرحمن الرحيم . .

07




ذكريات ، لِمَ يدمن البشر على تقديس الذكريات إلى هذا الحد ؟

إنه مُتهالك ، جدرانه تسلّقت عليها النباتات وكادت تُغطيها ، إنّه قديم ، قديم إلى حدٍّ غير معروف ، وما زالوا يرفضون التحرك عنه سنّة واحدة ، هذا البيت يحتوي قدرًا فظيعا من الذكريات ، أنّى لهم احتمالها . . ؟

فكّر رافاييل ، بينما يجتاز المدخل الذي بُنيت الجدران والعواميد المحيطة به من الرخام ، لم يشأ أن يتلبث في الحديقة بعد أن دخل ، فإنّ أشباح حياته السابقة
سوف تصطاده وتغتاله ، لقد قضى الكثير من أوقات طفولته عند هذه العائلة ، مع بريجيتّا ، وباربارا، لكن حقًا ، ما أشدّ اختلاف الأمس عن اليوم !

أرغم نفسه على التوقف عن التفكير لئلا ينزلق إلى المنطقة الخطرة ، ها هي بريجيتا تمشي أمامه وتقوده ، لقد اجتازا الرواق الذي يتسع من بعد البوابة
ويتصل مع البهو الشبه واسع أمامهم ، الكثير من الأرائك مصطفة بشكل عشوائيّ فوق الأرضية الخشبية المعرّقة بتموجات غامقة ، ألوان خريفية حميمية تطغى على المكان بأكمله ، والحطب المشتعل في حضن المدفئة ذات التصميم الأثري ، يبعث الدفء في الأرجاء . التفتت نحوه بريجيتا ومدّت يدها بحركة سريعة فاهتزت خصلات شعرها الأجعد لتشاكس وجهها ذا الملامح التي تبدو لأول وهلة غير ودودة :

-" أعطني معطفك ، ولا بدّ بأن تعرف أنّ باربارا قد تنزل من الأعلى في أية لحظة وهي مهتاجة ، رغم أنها تبدو هادئة بعض الشيا هذه الأيام ، لذا لا تفزع إن سمعتَ صراخًا ! "

من الغرور أن تقول هذا لطبيب نفسي وذكيّ مثل هذا يضع كل الأمور في حسبانه !
لكن كل ما بان على وجه رافاييل وقتها هو اللامبالاة والانغلاق الكامل ، خلع معطفه الأحمر وناولها إياه فعلقته بسرعة على المشذب ذا اللون البني المحترق
والذي يبعد مقدار خطوتين عنها حيث الجدار الذي على ناحية اليمين ، ثمّ تقدّمت وأشارت له بأن يقعد على إحدى الأرائك ، مغمغةً :

-" تفضّل "

ومن ثم توجّهت إلى الخلف متجهة نحو المطبخ الذي كان بدون باب ويطل على البهو . الآن رفع رافاييل مداركه ، وانصبّت نظراته في أرجاء المكان كنبع يعود إلى صخوره القديمة ، ها هي لوحة الأميرة ذات الشعر الأشقر ، أميرة مستلقية بكامل روقنها على أرض رملية ما من وجود لنباتٍ فيها سوى شجرة جرداء واحدة ، عيناها بلون الكراميل ، لكنهما جافتين ، كورقتي خريف سقطتا منذ زمن عريق . لا أحد يعرف ما قصة هذه اللوحة ، ولم يتساءل أحدٌ ما عنها ، فقط بقتْ هكذا في مكانها ، لم يجرؤوا من قبل على تخريب وجودها الهادئ والمنسجم مع المكان تمامًا. تنّهد رافاييل وعاد إلى الوراء ليسترخي قليلًا ، إنه يشعر بصداع خفيف ، ربما هذا جراء التفكير المستمر ، فإنه حتى وقت حديثه المختصر مع بريجيتا في ذلك المقهى الذي التقيا فيه قبل المجيء إلى هنا .

رفع يده وأخذ يضغط بأنامله على جانبي رأسه ، إنما ما تسنى له فعل ذلك سوى للحظة فقط ، إذ تناهى لسمعه صوت خطوات ثقيلة ومكتومة .

" أهي باربارا " تساءل في نفسه بلهفة ، ورفع بصره إلى ناحية الدرج الذي لم يكن بعيدًا جدًا ، وأول ما رآه ، كفًا أبيضًا غطيت يد صاحبته بكم قميص
طويل ذو لون برتقاليٍّ باهت ، استمرت اليد تنزلق على الدرابزين الخشبي الأملس ، بينما تنزل صاحبتها بإبطاء . وشيئا فشيئًا ، أخذ رافاييل يتملّى في هيئتها ، لقد كانت وبلا شك بالغة
الجمال ، وجهها الذي ليس ممتلئا تماما ولا نحيلًا جدا ، تحيطه من جميع الجوانب خصلات مقصوصة بعناية واحترافية ، خصلات شعرها الحمراء الناعمة
والقوية في آن واحد. تعدت آخر درجة ، ومشت ثم توقفت عند بداية السجاد الذي يتوسط مجموعة الأرائك . والآن فقط ، رأى رافاييل العدم في عينيها
الكراميليتن " تمامًا مثل الأميرة في الصورة " فكّر مندهشا واهتزّ شيءٌ ما في داخله ، ومن ثم فجأة ، اختلف تأثير وجودها بالكامل ، لقد رفعت وجهها بأنفة
، وصعق الكبرياء نظرتها المُعدمة !
قالت وهي تحدجه بغرور :

-" رافاييل . . إذًا "

لم تكد تطبق شفتيها ، حتى اقتحمت بريجيتا المكان على حين غرة ، كانت تمسك بصينية بها كوبي قهوة خزفيين ومزخرفين ، وتمشي كشخص غضوب ومستنزف .
وضعت الصينية على طاولة زجاجية عواميدها من الخشب المصقول بأقصى ما أتيح لها من هدوء ، ومن ثم استقامت من انحناءتها بسرعة كشخص أصابته صعقة
. نظرة واحدة ألقتها على بارابارا ، وتهالكت الأخيرة على أقرب أريكة ، كل الغرور غادرها فجأة ، وسقطت الذلة على وجهها ، ارتمت كخرقة مبللة وبالية .

استعجب رافاييل لثوان قبل أن يدرك الأمر ، لقد لقيت باربارا من أختها العتيدة ما لقيتْ ، والخوف الآن يستعبدها ، لا شك بأن عقلها خفيف كسحابة . ناداها :

-" باربارا . . "

بالكاد رفعتْ باربارا رأسها ، وقبل أن يقول رافاييل أي شيء آخر ، تكلمت لصوت واهن :-

-" أنا . . أتذكرك . . "

-" عندما كنّا صغارًا ، كُنتَ رفيقيَ الدّائم في اللعبْ ، كنتَ تحبّ أن تصنع لي طوقًا من الياسمين ، ومن ثم كنتَ في الثانية عَشرة من عملك تغنّي لي تلك الأشعار
التي حفظتها من كتابٍ سرقته من والدك

" امشي وكأنّكِ فوق السحاب

امشي يا أميرة

عينيك ذائبتان من الحزنْ

عينيكِ ساهيتانْ

تتموجانِ كالعسلْ

امشي في صحراءِ فؤادي

وكأنّكِ تستكشفين أروقة قلبِ العالم الذّي سُرعان ما ذبلْ "

مثل قطع من الزجاج تناثرت كلماتها ، وقبل أن تتحول إلى قبة منيعة وعظيمة من الصمت ، أكملت باربارا كلامها بعد أن التفتت إلى رافاييل بوجهها نصف التفاتة
أبقت الجزء الأيسر منه مخفيًّا في طيات ظلام غير مرئي :

-" هل ما تزالُ . . تريدني ؟"

حلّ الألم على المكان ، وافترس اللحظات الماضية إلى فنائها بهدوء واعتيادية . لقد وُصمت كل الأفكار بكلمتها ، وشعر رافاييل بقسوة الهواء وصارت الموجودات
كأنها سكاكين مصوبة إلى قلبه . هل كل ما كان يُحسّه من برود لم يكن إلا غشاءً رقيقًا يلفٌّ هذه الوحدة ؟ أطرق رافاييل برأسه ، وتقّبضتْ ملامحه وكأنه يختنق
. لكنّ بريجيتّا ، استراحت أخيرًا على الأريكة ، وتبسمت كشخص لم يستزف نفسه قبل وهلة أبدًا . وعلى الرغم من ذلك ، لم ترَ باربارا أي شيء ، سوى ذُلّها الذي
يعميها ويحطّم رأسها كضوء ساطع حادٍ وغير ودود . مازالت واقفة تُكبلها خُيوط الانتظار الرفيعة والقوية . أمسك رافاييل تنهيدة ، ثم وبلا سابق إنذار وقف بهدوء كشخصٍ متأكدٍ ومتحكم ، ولكن روحه من الداخل كانت تعيش سقطة فظيعة وطويلة .
أخذت بريجيتّا تحدّق وهو يمد يده ليمسك بكف باربارا ويهمس لها بشيء ما ، ابتسمت كأميرة منتصرة ، وضحكت في داخلها واستهزأت " المُنافق ، لا بدّ بأنه
قال لها شيئًا مثل " أريدكِ أكثر من أي شيء آخر " فقط ليتملكها مجددا ، ثم يتركها تتعفن في مخدعها كقطة بأضلاع مكسورة . . على كلٍّ ، فليذهبا إلى الجحيم معًا "

واستمرت ترمقهما بسخرية صارخة ، لم يظهر على باربارا أي رد فعل ، فقط بعد سماعها لذاك القول الذي لفظه رافاييل ، تلبسها السكون بغتة ،
وتأرجح رأسها كأنما أُلقي للتو في بحيرة قاتمة من الكآبة.

تحرك رافاييل خطوة إلى الأمام ، ولم يكد يتبعها بأخرى ، حتّى ارتطم به شيء ما ، التفتُ سريعًا وأدرك أنّباربارا سقطت مُغشيًا عليها.

-



دخلت الرياح من النافذة الواسعة ولمست الموجودات ، تراقص جوربٌ بني وحيد مُلقى على الطاولة ثم لم يلبث أن انزلق ليسقط على الأرض المبلطة ببلاط ألمس ذو لون سكري فاتح .
لم تزعج الريح سرب النمل الذي يُرى هنالك في الزاوية قرب الدولاب في الجهة اليمنى ، فقط استمر بالسير
بشكل منظم نحو قرطاس يحوي بقايا بسكوت مكسو بالشوكولا ، تُرك مرميا على
سجادة عسلية اللون تتوسط القسم الأول من الغرفة ولو أنّ طرفه مثبت بمقلمة غير مقفلة وممتلئة بأنواع مختلفة من أقلام الحبر والرصاص لكانت الرياح طيرته ليهوي في أي مكان من الأمكنة المكتظة
بمختلف الملابس - النظيفة - ومختلف الأشياء الأخرى . انبعث صوتٌ إلكترونيّ من حاسب موضوع أمام وسادة قريبة من قرطاس الشوكولا ، لكنه كان خفيضًا لم يقوَ على إيقاظ ذلك النائم الذي غاص رأسه
واختفت ملامحه في ذات الوسادة الملقاة .إنه نائم بعمق ، جسده ذابل كقشرة موز منتهي الصلاحية.



-

عجيب ، أهو يسمع الأذان حقًا ؟ ما هو الوقت الآن ؟ كل ما أمام ناظريه هو الظلام ، الظلام الكامل والمؤلم والثقيل ، يشعر بشيءٍ ما يقيد قدميه
ويسحبهما إلى الأسفل ، لقد كان بالكاد يتنفس ، ولكن فجأة ، عندما سمع الأذان ، تَعامى وعيه عن إدراك كل شيء . وتساءل ، لو كان حرًّا ،
هل كان سيجيب النداء ؟ حتى لو عاد إلى زمنه الماضي قبل يومين ، يا للبؤس ، يعرف تماما أنه ما كان ليجيب . والآن أيضًا ، لن يستطيع ، لكنه سابقًا
، كان هو الذي اختار ، والآن فقط ، عندما جُردَّ من كل شيء ، أحسّ فظاعة اختياره . لم يملك الجرأة ليدعو ، أو يذكر اسم الله . عضّ على شفتيه فانسكب
دَمها فورًا ، لقد كانتا متشققتين ومبيضّتين من العطش ، وَبكى ، دموعه بللت ظَلامه ، هل ستقوى على محوه، يوما ؟

-



الآن فقط سكنت تلك الستارة ، وارتمت على الجدار صريعة بعد أن غادرتها روح الهواء تدريجيا ، ستارة من قماش
قطني مقسم من النصف ، العلوي أبيض باهت ، والسفلي لونه أصفر زاهٍ . هذه القطعة الوحيدة هي كل
ما أمامها من متاع في هذه الغرفة الجرداء ، إضافة إلى فراش حقير وكساء تنسلت خيوطه .
مذ بدأت بتنفيذ جنونها قطعت وعدًا لنفسها ألًّا تتوقف لحظة واحدة لتتأمل أو تلوم نفسها ، لكنها الآن حقا ، لا يمكنها التوقف عن التفكير بكونها حمقاء ، حمقاء كبيرة ، لا تعرف مالذي كان سيحصل لها لولا أنها لا تملك حسن الحظ ،
عندما خرجت هاربة من المنزل في وضح النهار بهذا الملبس الفاضح الذي يكسو جزئها العلوي بسترة فاتحة اللون وسروال قصير وجواربٍ طويلة من قماش ناعم لو لم يكن قماشها من الصوف لربما سقطت على قارعة الطريق متجمدة من البرد .تعرف ، أنّه لولا تلك النظرة التي ألقاها عليها ذلك الشاب الذي يبدو من سكان الحي ، تلك النظرة التي تنطوي على أقوى دلالات الاستنكار والاستحقار ، لما كانت لتنزلق وتبدأ بالتفكير بهذه الطريقة ولوم نفسها ،
إنها متعبة بعد التنقل الطويل في المواصلات المختلفة والمشي في هذه الشوارع المكتظة بالأسفل بحثًا عن نُزل
كهذا ولكن لا تستطيع محو ما تصرخ به تلك النظرة لترتاح . مالذي سيحصل تاليًا ؟ الغيب معميٌّ عن عينيها لكنّه
بالتّأكيد سيأتي بنتائج ما فعلت ، لهذا السبب تحديدا ربما لن يتركها القلق. 

العَجَلة الدّوّارَةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن