جلستْ إمرأةٌ أنيقة المظهر على الأريكة الفاخرة ذات اللون الأزق السماوي ....
لقد كانت مرتدية فستاناً حريرياً بلونٍ ارجواني
و على قمة رأسها تاجٌ مرصع بالألماس .....
كان اللهيب يشتعل في داخل المدفأة لتمد المكان بالدفء الذي يحتاجه في ظِلِ البرد القارس خارج جدران القصر الشاسع ......
ذهب الخريف و أوراقه المحمرة و المصفرة و حلَ محله الشتاء بمطره الغزير و ثلوجه البيضاء كالحليب و لكن هذا الشتاء كان أشد برودة من سابقيه و في هذه الأثناء أندلعت العواصف الثلجية في الخارج ، و رغم كل تلك العواصف و صوت صرير الرياح الذي يصمُ أذان مستَمعيه ، إلا أنها لم تكن شيئاً مقارنةً بالعواصف التي تحدث في داخل تلك المرأة الأنيقة ذات الشعر المحمر ، أمسكت بيدها اليمنى الريشة البيضاء و غرستها في الحبر و بدأت تكتب عن جميع فصول حياتها الفرح منها و التَرحَ ، منذُ أن كانت طفلة في نعومة اظفارها تلعبُ في المروج و الحقول مع إخوتها الصغار إلى مراهقتها المبكرة التي قضتها في مساعدة والدتها في أشغال المنزل و حضورِها التجمعات في الكنيسة و الصلوات التي قاموا بتلاوتها و هم يجلسون على تلك المقاعد الخشبية المهترئة في تلك الكنيسة الصغيرة المبنية من خشب البلوط .....
تذكرت كيف كانت والدتها توبخها دائماً بسبب كونها خرقاء و فوضوية ، لقد كانت أمها إمرأة فاضلة بحق و لن تفرح أبداً بتحول أبنتها إلى شيطانةٍ مستعدة لحرق كل من يعترض طريقها بنارِ حقدها ، لقد حثتها أمها دائماً على محبة الغير حتى و لو لم يكنوا لهاالمشاعر ذاتها و لكن كيف لي أن أعثر على الحب و أحب في قصرِ الأفاعي هذا يا أماه ؟!
ف حتى المشاعر الكامنة بيني و بين زوجي سلطان العالم لا أظن بأنها الحب الذي تقصدينه ....
أرتسمت على محياها إبتسامة عندما تذكرت أنه أخبرت والدتها في أحد المرات بأنها لا تظن أنها ستجد الحب الحقيقي يوماً ....
لأنه في قريتها كان الجميع إما فقراء أو متوسطي الحال بالكاد يتدبرون قوتَ يومهم لذا لا وقت لديهم في التفكير في الحب ....
و الأغنياء و طبقة النبلاء جميع مشاعرهم مزيفة ف حتى لو كنتِ من عائلة نبيلة فقط أحتياجاتكِ المادية هي التي يتم تلبيتها أما على الصعيد العاطفي فلن تجدي الحب و الحنان المطلوبين من والديكِ لأنهم مشغولون بالحفاظ على مكانتهم الأجتماعية أكثر من بناء رابطة وثيقة مع أطفالهم و من ثم عندما تكبرين أو تكبر قليلاً يتم تدبير زيجة لكَ من حيث لا تحتسب و غالباً لا يمكنك الرفض بسبب ضغط العائلة و المجتمع و القيل و القال .....
و بسبب نظرتها التشائمية خاضت جدالاً طويلاً مع والدتها و أنهت والدتها النقاش بصوتها الحنون
يا أبنتي لا تفقدي الأمل لقد قام الإله بفطرنا على المحبة و حتماً ستجدين المحبة يوماً لا تفقدي الإيمان في ذلك ......
أمي لو أنكِ دخلتِ إلى الجحيم العثماني أو أي جحيم ملكي هل ستظلين تفكرين بنفس الطريقة هل ستتفهمين ما فعلته من أفعال شنيعة أم أنكِ سوف تبرئين نفسكِ مني .....
أتمنى ان تتفهمي فأنا لا زلت أتمسك بتلك القشة الأخيرة ، لكن يا للغباء لماذا أفكر بماذا يعتقد شخص رحلَ و لم يعد ....
بدأت السلطانة تفكر بعمق و تستحضر أشياء و صوراً لأحداثٍ لا تريد تذكرها و قالت بصوتٍ هامس هل هذا لأنني أيضاً على هذا الدرب ، يبدو أن أجلي قد بات وشيكاً و لهذا لا أنفك عن التفكير في الموت .....
لقد بلغت الخامسة و الخمسين من عمري هذا العام و بدأ المرض ينال مني ، في البداية ظننتها وعكة صغيرة و من ثم ستذهب و لكن تبين أنه مع مرور الأيام بدأ المرض يشتد بشكلٍ غير متوقع .....
نعم غير متوقع كحياتي كلها ....
لقد ارتقيت من جارية كان من المفترض أن تكون مجرد متعة لحظية لسلطان العالم إلى مالكة قلبه الوحيدة ، لقد أسرته و لكن بعد كفاحٍ طويل مع العديد و العديد من الأعداء لقد كرهني الشعب بسبب مؤامراتي التي قمت بحياكتها و حسدتني النسوة و المحظيات و لكن أحبني السلطان و أصبح هو قدري و سبيلي الوحيد للخروج من الحضيض إلى قمة القمم ، لم أكن جميلة لكن كان لدي جاذبيتي الخاصة و استطاع السلطان أن يضع عينيه علي من بين ألف وردة كانت أجمل مني بكثير و لكن أنا وردة لدي بريقي الخاص و رغم أنني ذابلة بسبب ما شهدته من فجائع إلا أنه أيضاً للوردة الذابلة طعم خاص ، طعم يقطر بأناقة و رونق مميز ، هي ليست مشرقة و بهية مثل باقي الورود الناضجة و لكنها تذهلك بصمودها رغم كل الظروف و المطبات .....
و لهذا قطفني السلطان و فرقني عن البقيات و أختار أن يستنشق رحيقي و يغرق فيه ......
و أستمرت السلطانة هرم في الكتابة رغم أرتعاش يديها من المرض ....
لمن كتبت ؟ هل كتبت لأولادها ؟ لنفسها أو للأجيال القادمة حتى يأخذوا العبرة من قصتها ؟
حتى هي لا تعلم ....
و لكنها شعرت بحاجة ملحة للكتابة و التنفيس عن كلِ ما بداخلها ....
عن كل الحروب التي خاضتها ، مع ذاتها مع أعدائها و مع ضعفها في بعض الأوقات ....
لم تكن هرم متأكدة من الكثير من الأمور في حياتها هل هي على الجانب الجيد عندما حمت أطفالها و تكفلت بتمهيد الطريق لهم إلى العرش أو على الجانب السيء لأنها تسببت بموت الكثيرين .....
لم تكن واثقة مما ستؤول إليه الأمور لكنها كافحت و حافظت على أستمراريتها .....
و هذه الكراسة التي كتبت فيها عن حياتها لم تكن مجرد كراسة بل هي صندوق يحفظ كل ما مرت به يوماً بيوم بعيداً عن أعين المتطفلين و تلك الكلمات لم تكن مجرد كلمات حبر على ورق بل كل مشاعرها و أحاسيسها و تخبطاتها موجودة فيها ......
لكنها كانت متأكدة من شيء واحد ستموت قريباً و هناك من سيحزن عليها و من سيضحك فرحاً و من لن يبالي .....
طرقة على الباب قطعت سلسلة أفكارها و من ثم تنهدت السلطانة هرم و قالت أدخل !!
دخلت خادمتها و ذراعها اليمنى التي تدعى (هيف ) ......
أنحنت هيف للسلطانة هرم و قالت ....
مولاتي! لقد دعاكِ مولاي السلطان إلى جناحه لتناول الغداء معه .....
حسناً قولي له أنني قادمة فقط سأجهز نفسي قليلاً .....
حاضرة يا مولاتي أجابت هيف بكل طاعة و خرجت ........................
و قفت السلطانة هرم على قدميها و أستدعت خادماتها للمساعدة .....
و لكن قبل أن تطأ قدمها الخطوة الأولى ، شعرت و كأن عالمها يدور و يدور و جفونها ترفض البقاء مفتوحة ، لقد أحست بتعبٍ و ضعفٍ غير اعتيادي و من ثم وقعت على الأرض تحت أنظار الخدم القلقين على حالة سيدتهم .....
سمعت السلطانة هرم أصوات خطى أقدامٍ تتقدم نحوها و تبتعد عنها و لكنها لم تهتم .....
لقد شعرت أن هذه هي النهاية ....
هذا سخيف !! هل يمكن أن تنتهي حياة إمرأة بمثل جبروتي بسبب هذا المرض المثير للشفقة ....
هيا أنهضي يا هرم و لكن كان و كأن لدى جسمها عقلاًَ أخرَ يتحكم به و لم ينصاع لها ....
غير معقول !!
هل هذا عقابي بسبب الجرائم التي اقترفتها ؟
لا لا أظن !! الموت قادمٌ للجميع سواء أكنتَ شخصاً أصيلاً أم لا .....
لقد أنخرطت في حياتي كسلطانة و زوجة لحاكم العالم و لطالما ظننتُ أنني الأقوى و لكن نسيت أنه هناك شيئاً أقوى مني بكثير .....
الموت ...
نعم الموت و من منا لايهابه و يخاف منه ......
و لكن على الأقل سأموت و أنا راضية ، لقد حققت أغلب أهدافي .....
قمتُ بحماية أطفالي و الأن أصبح العرش من حقهم ، لقد أستحوذت على عقل و قلب السلطان بشكلٍ كامل .....
نعم هذا هو عزائي الوحيد لتقبل الموت ....
و مع ذلك لماذا لا أزال خائفة ؟؟
ربما لأن كل شيءٍ سوف يفنى أمام عظمة الموت ....
نعم أنه أعظم من أي مالٍ و قصور و مجوهرات ....
أنا السلطانة هرم أول جارية تتحول إلى زوجة رسمية للسلطان ، و قد سحقت أقوى الأقوياء و أصبحوا مجرد حشرات تتوسل عند قدمي على أن لا يتم دوسها ، أنا هرم التي داست على الجميع ، الشيء الوحيد الذي لا تستطيع دوسه هو الموت ....
نعم لقد داس علي الموت و أصبح كل شيءٍ أسود
لا اصوات الخدم و لا صوت الصقيع في الخارج ....
نعم شعورٌ سلمي للغاية و مخيف في الوقت ذاته .....
وداعاً يا أيتها الحياة التي عذبتني و لكن أيضاً أسعدتني ......
أنت تقرأ
معركة على السلطة
Historical Fictionفي قولٍ مأثور للسلطان سليمان لأبن عمته بالي بيك : و لا تفعلنَّ شيئاً لتنال رضانا نحنُ ، بل أصنع كل شيء لتفوز برضى الله ، و حذاري أن تخطأ و تطلب منا شيئاً نحنُ العباد الفانين !! الباشاوات ، الاغاوات ، السلاطين ، السلطانات ، الأمراء ، العبيد و الجوا...