منذ أيام حينما كنت خارجاً، سمعت صوتًا هز كياني، أشرقت السماء ليلاً للحظات ثم خفت الضوء، ووجدتها تمطر بقطع معدنية، منها الكبير ومنها الصغير، ثم سمعت صوت استنجاد خافت، وبعد بحث وجدته صادراً من أحد سكان السطح.
خشيت الأذى منه أو بطش من معه ففرت هاربة، لكن شيء ما دفعني للعودة لنفس المكان؛ لأجده متعلقاً بقشة أمل، خاوي القوى لكن بعزم كالجبال، وما أن وجدته وقد فقد طاقته وبدأ يغرق عميقاً حتي هممت لإنقاذه.
أخذته لمملكتي، وبرغم خطورة فعلتي؛ إلا أنني لم أتمكن من تركه، وطلبت حينها من عمي عامر أن يطبب جراحه، ويتابعه حتى يتماثل بالشفاء، وأيضاً أن يبلغني بأخباره.
بعد أيام وجدته رغم برودة الأعماق؛ فقد استعاد عافيته، فقط حينها أدركت ملامحه، بلون بني وكأن الشمس قد أحرقت بشرته، جسده رغم صغره ممشوق، وشعره القصير المجعد على عكسنا، ونظراته رغم قسوتها فهي ممتلئة بالأمل.
رغم أن رجالنا لا يقارنون بأحد، إلا أني فكرت؛ لربما يكون تفكير سكان السطح، وقسوتهم التي أحرقتها الشمس هي ما نحتاج، ربما ينقصنا حرارتهم، أو شيء منهم قد يساعد.
- هل أدركت الآن لماذا أطلب منك هذا الطلب يا جهاد.
.
.أومأت برأسي موافق على كلماتها؛ فأنى لي معارضتها مع هذا الإصرار، وبالنهاية هي الأميرة هنا.
توجهت لغرفة ضيفنا، فمنذ أتانا برفقه الأميرة وله اهتمام خاص من الجميع، طرقت بابه واستأذنت بالدخول، وكما وصفته الأميرة تماماً؛ رغم قسوة نظرته فهو مفعم بأمل لا أدري من أين أتاه.
اسمه "شمس الدين"، مجاهد ضد إحتلال آخر على السطح، لربما يكون صغير السن بعض الشيء على أن يكون مجاهداً، لكن كل هذه الجروح تكفي أن تضيف له سناً فوق سنه.
رافقته نحو الخارج، ولكنه رغم برودة المكان يبتسم على كل شيء بفضول، وكأني أصطحب أخ أصغر للعب.
- ما رأيك أن تخلع ما بقدميك وتجرب السير على رمالنا.
ضيق عيناه وهو ينظر لي بريبة، ثم نظر لوهلة تجاه قدميه، وخلع ما يرتديه، حينما لامست قدماه الرمال، لانت ملامحه وأخذ يداعب الرمال بأصابع قدميه، فرت ضحكات خافتة من شفتيه، وفي النهاية أكملنا سيرنا وقد بدى على محياه راحة لم يبدها قبلاً.
أطفالنا يلعبون والسعادة على محياهم، رجالنا يكدون لأجل أحبتهم، ونسائنا مسكن لرجالهن وهم المنزل الدافئ للأطفال، السعادة والدفئ في كل مكان حتى أتانا من هز كياننا.
تنهدم مبانينا الجميلة، وترتعد قلوب الجميع، بكاء الأطفال وصرخات النساء غطت على صوت الخراب، الكبار يركضون لحماية الصغار، والجثث تتساقط وكأن طاعوناً ضرب المكان.
أخذت "شمس الدين" وإحتمينا بأحد الجدران، حاجبيه معقودان، وعيناه وكأنما تبحث عن مصدر هذا الخراب، حتى سمعت صوت صغير يستغيث:
-عمي جهاد أنا خائفة.
وقبل أنا أقبل على تلك الصغيرة، كان ذاك المجاهد قد انتفض من مكانه تجاهها، فتقدمت بأرجلها الصغيرة ممسكة بلعبتها بين أحضانها، حتى توقفت تلك الخطوات، وسالت من جانب فمها الدماء، وانهار جسدها الضعيف.
التقطها "شمس الدين" وضمها تجاه صدره ليحميها، وقبل أن يعود لمكانه؛ أصيب بأحد كتفيه وبرغمها لم ينهار، حملها تجاهي وبفزع تكلم:
- أسعفها يا جهاد أسرع.
مسست كفها الصغير برفق، وتحسست نبضها ولكن، قد فارقتها الحياة بالفعل، وجدت وجه رفيقي وقد شحب لونه، رفع رأسه للسماء مغمضاً عيناه، وخرج من بين شفتيه آهات خافتة.
بعد أن هدأ المكان طلبت من عمى عامر أن يضمد جراح رفيقي، ويصحبه للراحة في غرفته، ومن ثم توجهت لمساعدة البقية، نرفع الحجارة عمن دفن تحت الركام، نسعف المصابين، وجمعنا الموتي لدفنهم، وها هو الملك بيننا يمد يد المساعدة للجميع.
بينما نبحث بين ركام المباني عن المصابين، ظهرت "نور" في أحد الزوايا، بظهر دامي مليء بالجراح، وبين أحضانها طفلين قد دفعت الخطر عنهم، حملت الطفلين عنها وقد تحرك ملكنا للاطمئنان على أميرته، حملها لمداواتها، وأكملت بدورى مساعدة البقية.
.
.تهدمت المباني الجميلة، تيتم الأطفال، ترملت النساء، وفقد الرجال أحبتهم، الكثير من المصابين والأكثر من الموتى، فقدت الحياة بريقها، كل هذا في لحظات خلفها العدوان الظالم.
ساعدت بقدر استطاعتي وذهبت للاطمئنان على "شمس الدين"، طرقت بابه وما من اجابة، وبعد الإستئذان دلفت إلى غرفته.
في ظلام دامس، وإلى جوار أحد الأركان وجدته وقد ضم ركبتيه إلى صدره، وبيده دمية تلك الطفلة التي رحلت بين زراعيه، سمعت نحيبه وشهقاته، وكأن ذلك الجبل الذي رأيته صباحاً، قد حال لطفل صغير باكٍ.
إقتربت منه لأواسيه، فرفع رأسه تجاهي لأجد عيناه محمرة، وقد إغرورقت ملابسه دموعاً، جسده ينتفض ولا أدري إن كان لشدة البرودة أم من بكائه، حتى حادثني بصوت قد بح:
- أخبرني يا جهاد... ما ذنب الأطفال في هذه الحروب... لم عليهم أن يقتلوا ويصيبهم الأذى... لم لا نستطيع حمايتهم من شرور العالم حتى يكبروا بسلام.
مسحت على كتفيه ولم أجبه، فحتى أنا لا أدري ما ذنبهم، هو فقط ذنبنا نحن، نحن من نقيم الحروب وننهيها، وهم من يدفعون الثمن.
"فقط إن كان بإمكاني حماية الأطفال بين أحضاني حتي تنتهي حروب العالم"
أنت تقرأ
ربيع القبّار "مكتملة"
Fantasíaحينما يكون الهلاك هو كلَّ متوقع ... ما من أمل للنجاة ... و لا مفر من مصير مكتوب ... حينها فقط ... الثقة فى الله وحده هى المنجدة ...