لنا الله.

32 14 67
                                    

اعمل بالأسباب وتوكل على الخالق، فلا مغيث إلاه.

حمل "جهاد" الأخبار في قلبه، وبالكاد عرف أحد ان الممالك تخلت عنهم، وتوجه لحيث يعمل "تميم" و "شمس الدين" ومن معهم، الجميع يعمل بجد، رجالا ونساء، يصهر الحديد ويطرق، يبدأون بجمع القطع معاً، رغم كونها كارثة إلا أنها أخر آمالهم الآن.

.
.

- عمي سمس... ماذا تفعل؟

بفضول طفلة صغيرة تتطفل "غيث" على عمل المجاهدين، ولكن هل لصغيرة أن تعرف ما تلك الكارثة، ليجاوبها "شمس الدين" برفق:

- نصنع شيء كبيراً ليساعدنا.

- وماذا يفعل؟

تضع رأسها على كتفه، وهو يفترش الأرض أثناء عمله، ليربت على رأسها، ويبعثر لها خصلات شعرها الأسود.

- يفعل أشياء ليست جيدة... خطيرة.

لوت شفتيها، عقدت حاجبيها، وأخذت تفكر، فرغم كونها طفلة؛ إلا أن العدوان أضاف للجميع سن فوق سن:

- خطيرة... هل تجرحنا؟

بالفعل، فتلك الكارثة إن لم تحفظ بعيداً عن تلك الأيدي الملطخة بالدماء؛ فستراق على تباعها المزيد والمزيد منه.

- سنحاول أن تكون سبباً في نجاتنا.

هزت رأسها يمنة ويسرة، وذهبت لتعبث مع المجهدين الآخرين، الجميع يداعبها، ويربت على رأسها، وبدورها تسير بين الجميع، وكأنها تنشر طاقة من المحبة في الأجواء، وبرغم التوتر، إلا أنها تضفي دفء على المكان، طمأنينة ربما، فالأطفال هم أمل المستقبل، ولأجلهم نسعى أن يكون موطنهم آمن.

تمر الأيام، وقد أتموا بالفعل صنع المدفع الخاص بالدانة، وبدأوا بصنع القنابل الصغيرة، وتركيب الدانة، حتى وان كانوا يخشون من توابع ما يفعلون، فحتى النهاية لن ييأسوا.

- تميم... أتظن أننا سننتصر.

- سنفعل... وان لم يكن... سيأتي من يفعل.

هز "شمس الدين" رأسه موافقاً على كلماته، حتى وإن لم ينتصروا بنفسهم، فستأتي أجيال بعدهم لتفعل، سواء كانوا أبناء، أحفاد، أو حتى أحفاد لأحفادهم، فالنصر آتٍ عاجلاً أم آجلاً، وإن كانوا يطمحون بتعجيله.

تتدافع الأيام كسيل لا يعرف طرقه، سكون يحل على المملكة، لا ينذر سوى بكارثة قادمة، الجميع يعمل على قدم وساق، والقلوب تتقد خوفاً وقلقاً، وكلهم في وادٍ واحد، إما النصر أو الهلاك للجميع.

- تميم... جهاد... قد حان الوقت.

يهمس "شمس الدين" وأنفاسه مضطربة، يهز رأسه يمنة ويسرة مسلط ناظريه على ذاك المدفع المهول، أي مصيبة قد فعل، وأي عمل قد يواري عن الأعين.

- سننتصر.

تمتم "تميم" وهو ينظر لذاك السلاح المذهل، قد بات في يديه ما يدافع به عن موطنه، عن دياره الدامية، وكأنه يرى به الأمل والنجاح، سلاح للتفوق، للسيطرة، وللنصر.

بينما "جهاد" يتأمله بصمت مرعب، وكأن ملايين الأفكار الجهنمية تتخبط داخل عقله، هل سيكفي للإنتقام لحبيبة روحه، أم أنه لن يطفئ النار الموقدة في فؤاده، وأي شيء قد يطفئها.

- بابا... عمي سمس... عمي ميم... ماهذا؟

نظر الجميع لتلك الصغيرة المتشبثة بثيابهم، وإلى تلك الضحكة البريئة على محياها، واحتار الجميع؛ بماذا يجيبون!

- انه سلاح يا غيثنا الصغير... سلاح لنحمي به من نحب.

أجابها "تميم" بعد أن نزل لمستواها، ووضع يديه على كتفيها، بكل ثقة يشرح لها أنه لحمايتهم، فالسلاح قاتل بيد من يقتل، ودرح بيد الحماة، ويجب على الجميع معرفة هذا، خصيصاً الصغار، عساهم يوماً يكونون السلاح والدرع الذي يحمي أوطانهم.

- هل نعيد خالتي نور به؟

- نعيدها... ونحمي كل الناس هنا... إخوتك، خالاتكِ، وأعمامكِ.

- خالة تسبيح وعمي عامر أيضا.

- الجميع يا غيثنا الجميع.

أنهى كلماته وطبع قبلة على جبينها، فتلك الصغيرة لها قلب يسع الجميع حباً، هي كما الصغار في عمرها أمل المملكة، والعالم أيضاً.

.
.

المكان مظلم، الصمت قاتل، ونبضات قلبي لا تهدأ، سلاسل تقيد زيلي بالقاع، وقُيدت يداي للخلف حتى أشعر أنها تكاد تقطع، يمكنني أن أجد الغرفة ممتلئة إلا جزئ بسيط في الأعلى بالكاد أصل اليه، فقط إن تمكنت من فك وثاقي.

- ما بكِ يا أميرة... ألا تحبين ضيافتنا.

صوت خشن طال مسامعي، ولا أزال لا يمكنني رؤية شيء، حتى أمسك وجهي بكفه، لأحاول الإفلات منه، فأصابعه تكاد تخترق جلدي، وفجأة أزال العصبة عن عيني لتتضح لي ملامحه المنفره.

- لا تقلقي يا أميرة... فمعنا لن تتأذي.

صمت لبرهة، ثم أكمل مع إبتسامة على جانب فمه:

- لن تتأذي كثيراً... فأنتِ ورقتنا الرابحة.

خرج من الغرفة وصدى ضحكاته الحقيرة يتردد في المكان، وأنا هنا وحدي لا أقوى على فعل شيء، مكبلة بلا حول ولا قوة، ولا أدري إن حاول أحد إنقاذى أم لن ينتبه أحد لي، أنا خائفة... فقط خائفة.

تمتمت بيأس، وبالكاد أكبح دموعي:

- شمس الدين... من فضلك لا تتخلى عنى كما حاولتُ أن أفعل.

ربيع القبّار "مكتملة"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن