كنتُ كما الغريق أتعلق بقشة..حتى أدركت أن تلك القشة قسمت ظهري..
رغم النجاح الباهر الذي حققوه في تلك المهمة المصيرية، إلا أن لكل شيئ ثمن...وهذه المرة كان الثمن باهظ..ومؤلم..
كان هو من أوصل الخبر لأمهات الشهداء كونه قائدهم فضل نقل مدى الشجاعة والبسالة التي إتسموا بها بإستفاضة عله يخفف من ألم الفاجعة عليهن...لكن كيف له أن ينقل هكذا خبر؟ كيف يذهب لعند أمٍ ويقول لها إن ولدك قد مات...هناك من ستصبر وتأخذ أجر الصبر، وهناك من ستنهار وتبكي حتى يدركها الموت وتذهب لعند صغيرها كي لا تتركه وحيد أينما ذهب..
جلس "جاسر" في أكثر مكان هادئ على ضفاف النيل عندما ضاقت به الدنيا ذرعًا وشعر أن العالم لا يسعه، أصبح كما لو كان محتجز في صندوق بالكاد يتسع لجسده...أنه قبر الدنيا.
أشعل سيجارته الثالثة من العلبة الثانية لهذا اليوم وأخد يستنشقها بنهم غير عابئ بتوابع هذه السموم التي يدخلها جسده، كما لو كان يعاقب نفسه على ذنب لم يقترفه.
"هو أنا كنت صح؟ لما أخترت أمشي في الطريق ده كنت صح...لو كنت دخلت كلية الهندسة زي ما والدي كان عاوز كان زماني في مكان تاني، كان زماني شغال في شركة محترمة وعايش في كنف العيلة، والأهم مكنتش شهدت موت الناس دي كلها.."
إلتقطت حجر من جانبه وألقاه في مياه النهر وأخذ يتأمل الموجات التي خلفها الحجر، ثم همس بنبرة محبطة :
"أنا ليه حاسس بالذنب بس مش ندمان؟ ليه بفكر لو رجع بيا الزمن رغم كل اللي شوفته هرجع أختار نفس الطريق! "
زفر بقوة وضيق ثم أطبق على عقب السيجارة في يده حتى أطفئها ثم أشغل غيرها في اللحظة نفسها، الظلمة تغطي عينيه رغم أن الوقت ظهرًا، لكن تلك الغمامة التي تشكلت أمامه تعيد تكرار أسوأ ما شهدته عيناه منذ أصبح ضابط شرطة..حتى اللحظة التي بكت أمامه أحدى أمهات الشهداء بحرقة متوسلة إياه أن يكذب هذا الخبر ويعيد لها ولدها الوحيد، يتذكر بوضوح كيف تيبس جسده وشعر بالعجز والغضب..الغضب من نفسه لكونه نجى، نجى بتضحية أعز أصدقائه ورفيقه الوحيد..وهذا أكثر ما يبغضه.
نفض ما في يده ثم نهض مندفعًا نحو سيارته وقادها نحو وجهه محددة، ذلك المكان الذي وجد فيه راحته وإستطاع الإفصاح عما في صدره دون تحفظ أو تردد، صف سيارته جانبًا وتوجه لداخل ذلك البناء مباشرةً دون أن يعترض أحد طريقه، صادف طريقه الكثير من الترحيبات والتحيات لكن عقله لم يكن في حالة تسمح له لرد التحية، حتى دلف تلك الغرفة المعنية فوجد صاحبتها في مكانها كما تركها آخر مرة، تنفس براحة تخللت رئتاه وشعر بالسكينة تغمره وكأن لهذا المكان هالة خاصة تبعث الراحة والطمأنينة في صدر المرء.
"غيابي طال المرة دي بس رجعتلك مشتاق.."
قبل جبينها ثم يدها وجلس أمامها ويده لا تزال تعانق كفها ثم همس بنبرة هادئة وصوت رخيم قلما صاحب لسانه السليط :