القصة

28 2 0
                                    

غلاف: نعمة الهواري.
تدقيق: شيماء أبو النجا.





مقدمة
إن كنت تخشى على صغارك، فلا تعتب على زاوير، وإن عتبت لأصبح صغارك قرابين...


البداية
خرج زاوير في الليل بعصاه وبها حبل يربط طرفيها ليعلقها على كتفه وربابته، وهو موعد اللقاء الأعظم السنوي، اليوم ستطلب ولن ترحمه بأنه أنقذ الكثير أمس، ولم تحصل على طلباتها كاملة هذه السنة.
جميلة هي كقرور مياه بعد طول ظمأ، قوية كجبل شامخ، مشتعلة كبركان يبلع كل من يقترب...
جلس كعادته على شط النهر وينزل قدميه في مياهه، ينتظر ظهورها، هي تأخرت اليوم لكن يحق لها الغضب فلم يفِ بما طلبت...
ظل ينظر في المياه أمامه، ثم ابتسم فجأة وقال:
-لن تجيدي الاختباء مني أيتها المحتالة... فالقلب يشهد خطاك ولو على بعد قصي، تعالي.
ثواني ووجدها تسبح أمامه غاضبة تنظر في كل ملامحه عدى عيناه، فان نظرت لا اخترقها... لكنه تكلم طالبًا:
-ألن تصعدي يا جنية قلبي...
لم ترد فهمس:
-بيل؟!
لم تنظر نحوه حتى، فأردف بصبر:
-لم أعهدك قاسية يا بيل.
لا من مجيب، فخلع جلبابه ونزل لها في المياه الباردة، اقترب منها واقترب من وجهها هامسًا بعد أن قبل بين عينيها:
-يا بهجة القلب الذي شاب، وأعدتني بالروح لأيام الشباب.
فابتسمت ساحرة عينيه، وكأنها لم تخاصمه أبدًا، ولم تحزن منه كمدا، ولم يكسر خاطرها مكرًا، فهلل:
-يا بيل الغالية دومًا، فقط لو تتوقفي عن طلباتك المجحفة هذه، انهم صغار.. انت بطلباتك هذه تقهرين بها قلوب وتفطريها كمدا...
فأجابته بانتشاء لم يظفر بكل ولائمه:
-انهم قرابين لحياتي، أو أنك تريد التخلص مني أيها الخائن...
-فدائك أنا يا بيل، لكن دعي الصغار.
ابتسمت وهمست بغنج:
-بعيد الشر عنك...
ظلا ينظران لبعضهما البعض وعيون تحكي ألف قصة صارخة عن عشق أبدي لكنه ملعون، كانوا في فقاعة صمت وردية أذابتها بهمسها المغناج:
-كيف نزلت للمياه في هذا الجو ألا تخشى على عظامك التي شاخت يا حبيبي.
-شاخ الجسد فأنعشتِ الروح شباب يا مهجة القلب.
ظلا ينثران من العاطفة مباهجها، حتى أصبح الاثنان أسرى لطبيعة الخالق فلم يجتمعا معًا إلى الأبد، وكلاهما يعلم بلعنة عشقهما الذي يتحاكى عن جنونه أهل القرية... زاوير الفقير فقر مدقع عاشق للجنية كعشق البشر؟!
قطعت حبل تغزله هامسة:
-هذا العام أطلب سبعة مناديل، وأربع قباعات...
ابتعد عنها ملدوغًا ونظر لها محبطًا، وهمس:
-يكفي يا بيل... يكفي، لقد سئمت.
-أنا أُعلمك لا أخذ الإذن يا زاوير..
ابتعد عنها نحو الشاطئ، وخرج من المياه، ووقف كالطود في هواء الشتاء الطُل في الخلاء، وفرد ذراعيه واسدلهما كأنما يأس، وقال:
-سأبدأ من اليوم التنبيه لأرض الزُباد، فلترحلي.
شرست ملامحها كما نظرتها واحمرار عينيها فأصبحت موحشة وكأنها لم تكن تلك العاشقة بين ذراعيه من مجرد ثوان معدودة!
فارتدى قناعه الجامد أمامها وبقيت النظرات المتراشقة، قد سلح فؤاده بالفلاذ، وانمحى كل نظرات الحب الذي يوجد في عمق كلٍ منهما!
هكذا هي علاقتهما، فجأة تلتحم كعشق سرمدي، وتنفرط حباتهم عند تقديم القرابين، وهذه المرة طلبت سبع مناديل وأربع قبعات، انه لرقم مهول، انها تحرز خسارتها السنة الماضية... كيف يمكنه أن يوقفها فقط لو يعلم!
خرجت اشعة شمس فجر جديد، بفقد جديد، وقد جفت ملابسه، فارتدى جلبابه، وحمل العصا على كتفه وأخذ ربابته وبدأ يشدو بها مع غناءه:
-سبع مناديل واربع قبعات مطلوبة على وجه السرعة، تفادوا النهر وخافوا على أطفالكم...
فشهقت احداهن وقالت:
-سبعة فتيات، وأربع أولاد... ما هذا العدد...
-يا أرض الزباد علينا الحذر فحان وقت الحصاد...
رأى مجموعة صبية قرب النهر، فحمل عصاته عن كتفه وبدأ بضربهم وهو يصرخ بهم:
-اذهبوا إلى أهلكم ولا تأتوا هنا مرة أخرى... ارحلوا...
وبعد كل هذا التنبيه وصفع الاطفال وضربهم، لكنها تنال وجبتها وتساق إليها الاطفال لقدرهم، يحاول منعها لكن ليس بيده أن يترك حاله وماله ليل نهار ويظل قرب النهر لكنه يحاول بكل جهده أن يبعد الأطفال.
༺༻
في زمن آخر لا يقاس الزمن بالساعة، تمامًا في مملكة من الألوان والأضواء الحافلة بتقديم طقوس من الولاء والانتماء الصافي الذي يشبه الكثير من دماء أبرياء، فقدمت بيل نصيبها من القرابين لتغذى روحها ويمتد عمرها، دائمًا زاوير يخبرها أن تلك القرابين ستقوي السد الفاصل بينها وتشيد جسور من هوى وتشعل بينهما حبال من الفراق لا ترحمها... لكن هذا عالمها ومملكتها تظل الأقوى، لذلك عليه هو أن يرضخ لما تفعله ويتأقلم... وهي ستفعل كل شيء ليجتمعا معًا!
دخلت إلى بيتها من نبات البامبو الأخضر، استلقت على فراشها تفكر به بعد خديعتها له والتي أجادت فعلها...
فلم تنفذ طلباتها الا في ليلة واحدة وهي ليلة أمس عندما اكتمل القمر كقرص وهاج دائري، وأخذت مناديلها وقبعاتها كاملا...
فربطت المناديل في مقام معبدها ونشرت القبعات فوق رؤوس الاخشاب حول المقام...
وبهذا تستمد طاقتها وقوتها... من ملكتها...
༺༻
في الصباح سطعت الشمس لتنير مملكتهم تحت الماء، وعندما خرجت من كوخها البامبو، رأت حركة غريبة في المملكة فأوقفت إحدى المرات تسألها:
-ماذا يحدث؟!
-الملكة الخضراء تلد وولادتها متعسرة، ويبدو أننا سنحتاج مساعدة من الأنس.
شردت بيل بنظرتها بعيدًا، فانصرفت عنها الواقفة، بينما بيل تفكيرها يتحرك بسرعة مهولة تحسب الوقت الذي ستستغرقه أنها عندما تتحرك من الآن ستستغرق وقت قليل، وربما لن تجد زاوير في هذا التوقيت... لكنها قررت أن تجازف...!
༺༻
مر أسبوع ولم تظهر، لم تعطه حق معاتبتها، من ذاك اليوم الذي جمعت فيه قرابينها، انه يشتاق إليها إلى حد أفاق حدة السيف داخل صدرة، انه يعتزل العالم ها هنا على شاطئها ينتظرها صباحًا  ومساءً يقتات على القليل من الطعام الذي تأتي به أخته، ويأكل بعد مهادنات كثيرة...
لم يصدق عندما رأى بقعتها تهتز تلك الهزة قبل ظهورها وثوان ووجدها أمامه بوجه حزين، وغرابة ظهورها بالنور، لكن هذا لم يمنع من غضبه فقد أشاح بوجهه بغضب فاقتربت تقول:
-زاوير.
لم يرد، فهمست:
-نعم يحق لك الغضب، لكن ألم تطلب مني أن أتوقف عن أخذ قرابيني.
-نعم وانت بخلت عليّ بالطاعة!
-يمكنني أن أتوقف، لكن عندما تسدي لي خدمة بسببها سآخذ بعدها قوتي دون قرابين.
فوهج عيناه، وهو يسأل بلهفة:
-أي الخدمة؟!
-تأت لي بـ "داية" انسية، فملكتي تلد وولادتها متعسرة وعندما يحدث ذلك يجب تدخل انسية
كانت لهفتها مضنية، وكلما حاول مقاطعتها كان صوتها يوئد مقاطعته بحدة، فقال:
-لكنني لم أعد أثق بك بعد خديعتك الأخيرة.
أغمضت عينيها وقد وجعتها ضربته الغير منصفة فهمست:
-كنت أحمي نفسي.
فصاح:
-تحمي نفسك على أرواح صغيرة في براءة العمر.
همست وهي تنظر للماء بخزي:
-وها قد جاءتني فرصتي حتى انصرف عن ذلك.
صمتت فصمت، فحسته:
-أرجوك أعدك ألا أعرضها لآذى مطلقًا.
-بشرط.
-موافقة قبل أن تقوله.
-ومع ذلك ستسمعينه، سأكون معها، فأنا لا اضمنك.
كانت ضرباته تأتيها كنصل ثلمه توجع قبل أن تنحر، لم تقوَ على الحديث فهزت رأسها وغصتها تستحكم بحلقها.
༺༻
كانت الداية حسنات ذات الخمسين عامًا تجلس بين أحفادها عندما دق الباب كدك يوحي بهدم المنزل فخرجت احدى بناتها تفتح الباب وتهتف:
-قادمة، ماذا يحدث...
وعندما رأت زاوير بالباب همست بترحيب للشيخ الذي يعشق جنية:
-مرحبًا يا شيخ تفضل...
-أريد أمك يا ابنتي على وجه السرعة هناك حالة ولادة متعسرة...
سمعته حسنات من الداخل فألقط فوقها عباءة وخمار وخرجت مهرولة:
-هيا يا شيخ، لقد جئت...
༺༻
بعد قليل توقفت خطوات زاوير عند الشاطئ فتوقفت بالتبعية مع خطواته تسأله:
-لمَ توقفت يا شيخ.
فهمس بتوتر:
-لقد وصلنا.
نظرت حولها وهمست:
-كيـ...
ثم صرخت وقد تشنج جسدها عندما سمعت صوت مغناج ساحر يناديها، وسألت الشيخ:
-هل هي النداهة؟! هل هكذا سأموت، هل ساومتها عليّ يا شيخ...
-اهدئي انها النداهة بالفعل، لكن لديها حالة ولادة متعسرة وتريد مساعدتك.
-لا يا شيخ، انا لا اوافق.
فهمست جنية أرضهم مرة أخرى:
-أرجوك إن مولاتي تتعذب، كما أني سأسترد قوتي وبعد ذلك سأختفي لن آخذ مناديل أو قبعات مرة أخرى.
تدخل الشيخ وقال:
-أنا سآتي معك يا حسنات.
-كيف سنخطو لعالمها...
-بالتأكيد لها طريقتها وحيلها.
فردت جنية الذُباد:
-لا تقلقا... تقدما...
دارت حول نفسها مكورة هوة من الماء ثم ألقتها على سطح المسطح المائي لتحدث دوامة سريعة الحركة، وقربتها من الشاطئ، وأمرتهم:
-ابطشا الماء وأقفزا في هذه الدوامة...
ومجرد أن قفزا وجدا نفسهما يقفان في حديقة بيوتها كلها من نبات البامبو، لحظات ووجدا بيل تقف أمامهما وامرتهم:
-اتبعاني.
تحركا خلفها وبدا مسحوران من جمال الزروعات والاضاءة الملونة من بعض الورود والأغصان، إنهما في حلم رائع.
༺༻
ولدت الملكة بيسر مجرد أن وصلت الداية التي لم تفعل أكثر مما فعلوه دايات المملكة، وبعد ولادتها أتوا لها بالهدايا التي لم تكن غير قشر من البصل والثوم.
فتحسرت الداية على الهدايا التي وضعتهم في حقيبة بلاستيكية حتى لا يغضب هؤلاء القوم...
ولاختلاف الحقب الزمنية التي تفصل بينهما، كان غياب الداية أسبوع... سبعة أيام بالتمام.
ولذلك قالت لها الملكة بتهديد:
-إن انتقل حرف مما رأيته هنا سيكون المقابل روحك.
ابتلعت حسنات ريقها بصعوبة وهي تمسد عنقها، وابتسمت قائلة:
-وعلى ماذا، الطيب أحسن.
بعد قليل كانت تقف مع بيل وزاوير، الذي قال:
-ستعودين وحدك يا حسنات، ولا تقلقي عليّ... وستذهبين نحو الشاطئ تمامًا.
فقالت حسنات وهي تدرك أن الشيخ وصل لعشقه ولن يتخلى عنها:
-حسنًا في حفظ الله يا شيخ.
قامت بيل بخلق دوامة قفزت داخلها حسنات لتجد نفسها على الشاطئ، والحاوية البلاستيكية ثقل وزنها، فتحتها لتجد أن قشر البصل تحول لذهب خالص، وقشر الثوم تحول لفضة!
وبقى سر اختفاءها غامض في مصر القديمة!
༺༻
تمت بحمد الله.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Apr 10 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

جنية أرض الذُبادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن