|يَفِرُّ مِنْ أَخِيه|

29 3 1
                                    

- هل هذه بداية حرب جديدة؟
- وهل ستكون قصيرة وتَعْبُر كغيرها من الحروب؟
- أم انها ستطول وتنتهي باستشهادنا؟

أسئلة كثيرة راودت فكري وتوقعات لسيناريوهات قد تحصل معنا، مرَّ شريط الحروب السابقة التي عشتها ولم أنسى أدق التفاصيل، كيف تُنسى تلك اللحظات التي كدتُ أن أجزم أنها آخر لحظات حياتي وأني سأرحل من هذه الدار الفانية، كيف تُنسى وقد كنتُ ولا زلتُ لا أعرف طعمآ للراحة والأمان؟ كيف تُنسى وأنا أسمع صراخ النساء وبكائهم وأرى قهر الرجال وقلة حيلتهم ؟

كنت في السابعة من عمري عندما وعيت على أول حرب، أستمع لأصوات الانفجارات التي كادت أن تخترق أذني الرقيقة، وأرى مشاهد القتل والسفك التي لوثت عيوني البريئة التي لطالما اعتادت على مشاهدة الحياة الوردية والمثالية كطفلة لم تبلغ العاشرة بعد.
استيقظتُ على أصوات جدال وصراخ يصاحبهما بعض القلق والحيرة لأجد نفسي على الأرض وبجانبي أخواتي بنفس وضعيَّتي وحولي أهلي وأقربائي من نساء ورجال، منهم من يبكي ومنهم من يُجري مكالمات هاتفية وبعضهم من يروح ذهابآ وإيابآ واضعآ يده على رأسه يحاول أن يجمع ما بقي من شتات عقله يفكر ماذا سيفعل.
انتفضتُ من مكاني وقلبي يكاد يخترق جسدي ليخرج من مكانه متمنية ألا يكون ما توقعته صحيح، سِرت بين أقربائي باحثةً عن والدتي التي لا أثر لها ولأبي،
وأخيرآ وجدتهم عند مدخل الصالة يتناقشون بجدية، توجهت إليهم بعيون نصف مفتوحة أحاول أن أستيقظ من الصدمة التي عشتها للتو، استفسرت عما يحصل ولكن بالتأكيد لم يقولا شيئآ وقاما بتهدأتي وأخواتي اللاتي لحقن بي بعد أن أيقظتُهم.

قام والدي بإنزال جميع النوافذ خِشية أن تُكسَر من شدة الضغط الناتج عن القصف وجهزت والدتي حقيبة الطوارئ التي تتضمن الأوراق الرسمية والأغراض المهمة.
هزَّ المكان صوتٌ أجش يأمر بالنزول الى بيت الجَّد بأسرع وقت ممكن وتَرْك الأبواب مفتوحة، كان ذلك صوت أحد أعمامي الذي اعتقد أنَّ المكان الأنسب للاحتماء به هو بيت جدي، فقد كان البيت الأبعد بالنسبة لمكان البرج الذي سوف يتم قصفه!
اجتمع حوالي خمسون شخصآ فيما يقارب مساحة ثلاثون مترآ، وقد أتى بعض من جيراننا يحتمي معنا في هذه المساحة الصغيرة.
كان الجميع يترقب ماذا سيحصل ومتى سيتم قصف البُرج الذي تم تهديده، وكان الوسط مكتظآ بالناس التي ظهرت على ملامحها علامات الخوف والتعب، أما عن نفسي فقد كنت جالسة على الأرض بجوار أمي لا أتفوه بكلمة من هول الصدمة التي أصابتني، قلبي يرتجف، ومشاهد في دماغي تصارع بعضها البعض مقدمة لي بعض من الكوابيس المتوقع أنها ستحصل الآن،
قطع صوت أفكاري المخيفة صوتٌ أعلى من صوت الرعد، وهَزّةٌ أقوى من الزلزال، و وميض كسى ظلمة الليل بلونه الأحمر. عرفنا أنه تم استهداف البرج ولكن سرعان ما تلاه صوت أشد وأقوى منه، فقد كُسِرت النوافذ ووقع ما كان معلقآ على الحائط وتناثرت الشظايا هنا وهناك وزاد بكاء الأطفال وصراخ النساء. ولكن انتهى كل ذلك بغضون عشر دقائق فقد هدأ الجميع و اطمأنت قلوبهم قليلا وكأن حملآ ثقيلآ انزاح عن قلوبهم، ولكن لم يدم ذلك كثيرآ عندما سمعنا أصوات رجال تصرخ "حريق...حريق!" فزعنا مما سمعناه وقمنا للتأكد من الأمر بالنظر من خلال النوافذ وللأسف فقد كان الدخان الأحمر ورائحته الكريهة يتصاعدان من باحة منزلنا يلتهمان كل ما يرونه في طريقهما، حاولنا الاتصال على الدفاع المدني للإبلاغ عن الحريق، وبعد العديد من المحاولات الفاشلة من الاتصال وبسبب انشغال رجال الإطفاء بسبب الضغط الكبير عليه من كثرة القصف، قام رجال العائلة والجيران بإخماده بأنفسهم بواسطة جرادل المياه الصغيرة، واحدا تلو الآخر حتى تم اطفاءه بعد مدة ليست بقصيرة.
وأخيرآ أشرقت الشمس بعد عراك طويل مع ظلمة الليل ووحوشه التي كادت أن تلتهمنا، حزمنا أمتعتنا وذهبنا الى بيت جدي لأمي حتى ينتهي والدي من إزالة الزجاج والشظايا المتناثرة في البيت.
وها قد عاد القليل من الأمان يطوق قلبي بعد رؤيتي لجدي وجدتي اللذان ينسياني كل ما حدث بأحضانهم الدافئة وكلماتهم التي تُنقش في القلوب يدوم أثرها مدى الحياة.

كَالْفرَاشِ المَبْثُوثْحيث تعيش القصص. اكتشف الآن