الفصل الأول : هذيان

57 3 4
                                    

فتحت عيني، جُلتُ ببصري، المكان معتم موحش، نظرتُ إلى الباب المفضي إلى الاعلى، وإلى اطياف أشخاص في الزوايا مثلي، أطياف أرواح في القلوب. أوانٍ غير مغسولة، بقايا فحم على (الكانون). أعوم في بحر من العرق، الوحدة، والضياع. سمعتُ الاصوات، الاصوات التي لم تخرس أبدًا، العالم يصرخ ويهتز. حاولت أن أتذكر، أين أنا؟، وهل كانت هذه غفوة أم إغماءة؟، منذ متى انقطعت الكهرباء؟، كم مرّ من الوقت؟، كم مر من الجحيم؟، ولم أجد إجابة. كنت اعرف حقيقة واحدة فقط، هذه لست أنا، وهذا ليس منزلي، منزلي لم اتركه، لم أركب حافلة بجُلّ ما املك ابتغاء رحلة الهلاك هذه، لم يهجم أحد علينا، ولم ينقذنا أبي حينما ظننا أننا هالكون، لم يحدث أي من ذلك، ما زلت هناك؛ في (سوبا)، في منزلي.
رفعت رأسي نحو المنفذ الوحيد في هذا المكان، شعاع واهن تسلل من هناك، يناظرني من الاعلى ويحتقرني، حتى الشمس تعالت علينا. تناهى إلىّ صوت غريب، كأنه انسان.

_ "رزان، رزان، ارح نطلع فوق، محمد قال الدنيا هدت"

أجل تذكرت، هذه اختي، وذاك محمد هو أخي، وفي هذا المنزل هناك طابق علوي، الصعود إليه كالجنة، كطلب الشهادة، لكننا نحب الحياة لذلك استترنا في الأسفل تحت الأرض. سرتُ خلفها صاعدين السلالم، لفحنا الهواء، لم يكن باردًا، لكننا قادمون من الجحيم، كل الأشياء في الاعلى رفاهية؛ الضوء، التنفس، والنوم. لم نلبث غير ساعة حتى استئنف القتال مجددًا، اهتز كل شئ، اهتز المبنى، اهتز عزمي ورغبتي في الحياة، اخترق الرصاص نوافذ الغرفة، كاد أن يصيب آخر أملي في الحياة؛ أبي. ركضنا مذعورين، عائدين كالخطيئة نبتغي التواري، في الأسفل تحت الأرض.

...

حل الصباح، الصباح هنا كالهدوء بين الهجمات، كالصمت قبل الاشتباك؛ تتمناه لكنه لا يسعدك. قال والدي أننا سنواصل المسير، سنصارع المصير، سنخرج من هنا، خرجنا، لكنني ما زلت هناك؛ في منزلي، في (سوبا). سرنا طويلًا، وجدنا في الطريق بعض البشر، تجمعنا نبتغي بعض الأمان والأنس. بمحاذاتي تسير امرأة، خاطبت الرجل الذي يرافقها مترجية:

_ "يا هاشم، الله يرضى عليك أرجع؛ انت عندك شفع صغار. أنا بصل ان شاء الله، في ناس معاي، ما تخاف علي"

وبدا أنها موشكة على البكاء. لم اسمع رده لكنه لابد أنه رفض رجاءها، اذ لن يجد وسيلة للتواصل معها قريبًا، انها أمانة عنده.
التفت والدي إليهم، وخاطب الرجل بنبرة واثقة:

_"يا أخونا، اختك دي ماشة وين؟، نحن بنوصلها إن شاء الله"

عرفنا انها على ذات طريقنا؛ ذاهبة إلى (أمدرمان)، ارتبك الرجل، لم يرتح كثيرًا. طالعت أبي في لحظات من الصمت المربك، وشعرت بنوره ينتقل إليّ، أطالع وجهه المتعب الصامد، أطالع مثال القوة الراسخ، استدرت متوجهة للمرأة، أمسكت بيدها أُطمئنها، سارت معي دون مقاومة، وقف الرجل يطالعنا لفترة ولا أدري متى انصرف.
ركبنا حافلة كتلك التي لم أركبها حين خروجي من منزلي؛ ذات الخبث، ذات الاستغلال والجشع، يساومك السائق على أن تدفع ثلاثين ألفًا مقابل فرصة أخرى في الحياة، ركبنا، دفعنا له، لكنه لم يتحرك، يدّعي أنه ينتظر المزيد من الركاب، لم يفهم أن الراكب التالي قد يكون الموت، خلفنا عمارة تحترق، تتلوى في النار وترمي بالحميم علينا. تحرّك المخبول بنا أخيرًا، تحرك بعد صراخنا عليه، بعد أن كاد أحد الركاب أن يقتله.
بلغنا (السوق العربي)، هناك أدركت أنني ما رأيت من الأهوال شيئًا؛ الناس ملقون على الأرض، ظننتهم نائمين، رائحة العفن تفوح من أجسادهم، لابد أنهم متعرقون، ثم استفقت على حقيقة مفجعة، تصلبت أطرافي؛ تلك المرأة تنام على تراب لزج قرمزي، ذاك الرجل انفلقت جبهته، وآخر شُقّت بطنه وتسرّبت أمعاءه، اختلط كل شئ بعدها؛ الصورة، الرائحة الكريهة، وصوت والدي، يده تهزني:

_"رزان، اتحركي المكان دا خطر!"

نهرني، وليس من عادته أن يفعل، ثم اقتادني رغمًا عن استسلامي. لم نبرح حتى سمعنا صوتًا تشققت له السماء وآذاننا، طائرة الميج تحلق فوقنا وترمي بقذيفة على (مستشفى الشعب)!، انطلقت مني صرخة تمزقت لها حنجرتي، وطاش عقلي،ارتجفت كل خلية فيّ حتى ظننت أني سأتفكك، فقدت حواسي في لحظة واحدة، لم أعد أرى، أشم، أو أسمع. وبدأت أهذي، وأحلم، ببيت، بمأمن، بوطن.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jun 05 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

الخامس عشر من أبريلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن