وردة الدماء

20 1 1
                                    

قافلة آتية من ساحل «بغداد» متوجهة ل  «بابل» .
في الثالثة مساءً وعند قرابة العصر وعندما اقتربت القافلة من أبواب «بابل» أوقفها القائد و أمر الركاب بالنزول ،كانت في أخر القافلة فتاتان راكبتان على جمل قالت أحداهما  للقائد بعصبية:
-عليك دخول «بابل» ايها الأحمق!
نضر الركاب للفتاة بغرابة و رد القائد بغضب :
-و من أنتِ حتى تقرري؟
فقالت الفتاة الأخرى  للقائد و هي تحاول تهدئة صديقتها :
-صديقتي لا تقصد الشجار
ثم نضرت لصديقتها و قالت :
-اهدئي!
فردت قائلة :
-هذا ليس عدلا
نزل جميع الركاب من ضمنهم الفتاتان ،زفرت الأولى بعصبية وضلت تحدق ب القائد بغضب .
الأولى (رتاج) شديدة البياض ،ذات السعر الأسود الطويل ، أما الثانية فكانت (كارينا) ، حنطية اللون ، كانت أعينها  عسلية اللون  تشبه أعين النسور ، وكان شعرها بني مجعد . تفرق الركاب ، وبعد نزول الفتاتين  دخلا «بابل» و اتجها ناحية سوق «اليعقوبي» الكبير و الذي كان مكتظ بالناس و البضائع المعروضة من طرف التجار .ظلت الاثنتان تتجولا في السوق بانبهار محاولين استعاب ما ترونه من زحام و أصوات متعالية بين المتسوقين .
اقتربت (رتاج) من تاجر للملابس الرجولية و وقفت أمامه و قالت :
-يا سيدي..هل يمكنك مساعدتي؟
كان التاجر أسمر اللون ذو لحية سوداء كثيفة و كان يعتمر قبعة سوداء و يرتدي قميص عمل  أبيض.
رد التاجر باسما :
-كيف؟
-أبحث عن سيدة تسمى (اطياف)
-اطياف بنت يامن؟
(رتاج) مبتسمة :
-نعم
نظر التاجر للحقائب التي كانت (رتاج) ماسكة بها وقال :
-هل أنتِ من بابل؟
-لا
-إذا أنت من القافلة الآتية من بغداد ؟!
-نعم
-وماذا تريدين مني ؟
- أن ترشدني لمكانها
-هل تقرب لكِ؟
-نعم
-لكنها بعيدة!
-ألا يمكنك مساعدتي؟
سكت (التاجر) لبرهة من الوقت ثم قال :
-حسنا..لا بأس
نادى التاجر صبي كان يساعد تاجر أخر وأمره بمراقبة المحل،
نادت (رتاج) هي أيضا صديقتها (كارينا).
تقدم التاجر  أمامهما وقال :
-اتبعوني
تبعته البنتان لمسافة طويلة حتى وصلوا لأعلى الجبل ، توقف التاجر  أمام منزل واستدار نحوهما  وقال :
-هذا منزلها
-أشكرك يا سيدي
(التاجر) مبتسما :
-هل تحتجان لشيء أخر؟
(كارينا) مبتسمة :
- لا شكرا!!
(التاجر) وهو يغادر :
-طاب يومك
خطى التاجر بضعة خطوات وهو مغادرا أوقفته (رتاج) وقالت :
-انتظر
التفت (التاجر) باستغراب
جرت (رتاج) ناحيته وعندما اصبحت قريبة منه قالت بابتسامة :
-ما اسمك؟
فقال :
-أنا؟..
ثم سكت قليلا وقال
-اسمي..اسمي (سعد)
(رتاج) :...
(سعد) بارتباك :
-وأنتِ؟
-رتاج
- وصديقتك؟
-اسمها (كارينا)
(سعد) مبتسما باستغراب :
- اسم غريب
-نعم لأنه غير عربي
-وهل هي عربية؟
- نعم عربية
(سعد) وهو يستعد للمغادرة :
-الى اللقاء
(رتاج) بفرح  :
-شكرا يا (سعد).. أراك لاحقا!!
ابتسم (سعد) وغادر.
جرت (رتاج) ناحية (كارينا) التي كانت واقفة أمام المنزل .كان المنزل طيني بابه خشبي وكان يتواجد أعلى الجبل قرب مجموعة من المنازل الطينية التي تشبهه ، طرقت (رتاج) باب المنزل طرقتان وسمعت بعدها صوت عجوز من الداخل يقول بتهكم :
-من هناك؟
ردت (رتاج)بحماس :
- رتاج يا عمتي
وبعد لحظة فتح الباب لترى عجوز ترتدي ثوبا تقليديا أصفر ، وعندما رأتها عانقتها بقوة وقالت (رتاج) :
-اشتقت لك يا عمتي
ردت العجوز بقهر :
-طال غيابك يا قمري
-آسفة يا عمتي ما باليد حيلة
وبعد عناق طويل فكته (رتاج) واقتربت (كارينا) من العجوز ثم قالت مبتسمة :
-كيف حالك يا خالة؟
(العجوز) وهي تحدق في وجهها :
-من أنتِ؟
نظرت (كارينا) ل (رتاج) بخجل و استغراب، بعدها قالت (رتاج) :
-هذه صديقتي يا عمتي
(العجوز) وهي تعانق (كارينا) :
-مرحبا بك يا ابنتي..
ابتسمت (كارينا) و عانقتها بحب وبعد ما أدخلا الحقائب اعدت لهما العجوز الأكل و أكلا و بعدها  استرحا قليل من عناد السفر .
وفي منتصف الليل وبينما كانت البنتان في أحدى الغرف يتهاوشا خلال نوم العجوز  طُرق الباب بهدوء ، خرجت (رتاج) من الغرفة و توجهت ناحية الباب و فتحته ، كان (سعد) ماسكا بأرنب مده ل (رتاج) وقال باسما :
-خذي
امسكت (رتاج) بالأرنب و قالت بالاستغراب : ما هذا؟
(سعد) بلطف :
-إنه أرنب
-ولما أحضرته ؟
-ظننت أن الجوع قد غلبك فأحضرته لكِ
-في هذا الوقت؟
-وما المشكلة؟
ثم سكت وقال :
-هل أنتِ بخير؟
(رتاج) مبتسمة :
-نعم..
ثم نضرت له بخجل و قالت :
-وأنت؟
(سعد) : بخير..
ثم سكت وقال :
- هل تحتاجين لشيء أخر؟
-لا
(سعد) وهو يهم بالرحيل :
-طابت ليلتك..-انتظر
أدخلت (رتاج) ذلك الأرنب للمطبخ ، وقبل أن تخرج سمعت صوت (كارينا) وهي في الغرافة :
-من؟
-إنه (سعد)
-(سعد) ؟ ..من؟
-التاجر الذي ارشدنا لعمتي
-ماذا يريد؟
خرجت مسرعة ولم ترد على صديقتها و عندما وقفت أمامه  قالت :
-هل قطعت كل هذه المسافة لتحضر لي أرنباً؟
- لا
-لماذا إذا؟
-لرؤيتك
(رتاج) مبتسمة بخجل :
-شكراً
ثم اقتربت منه و قالت :
-هل تريد جولة؟
-جولة؟
(رتاج) مبتسمة :
-نعم..جولة أسفل الجبل
-حسنا
أغلقت (رتاج) باب المنزل وعندما امسكت بيده قالت مبتسمة :
-هيا بنا
مشي الاثنان أسفل الجبل لبضعة دقائق بعدها  شعرت (رتاج) بالتعب وجلست على صخرة كبيرة كانت مع تلك الأحجار الصغيرة الجبلية.
قال (سعد) ممازحا :
- انها مسافة قصيرة!..هل تعبتِ!؟
-نعم
جلس (سعد) بجانبها و قال :
-لقد كان يوما رائعاً
(رتاج) مبتسمة
-لكنه متعباً
صمت الاثنان و ظلا يراقبان القمر الشبه مكتمل والذي كان واضح بسبب السماء الصافية .
(سعد) وهو ينظر للقمر :
-حتى هذه الليلة جميلة!
(رتاج) : وما سبب جمالها؟
ابتسم (سعد) ولم يرد عليها.
(رتاج) مبتسمة :
-انه يشبه أمي
نضر اليها (سعد) وقال ضاحكاً :
-من؟
(رتاج) ضاحكة بخفة :
-القمر!
-أنا لا أعلم ان كان يشبهها حقا لكنني أرى نسخة ثانية منه بجانبي الان
ابتسمت (رتاج) وقالت :
-و نسخة ثالثة بجانب النسخة الثانية !!
ثم قال مغيرة الحديث :
-من أنت؟
ضحك سعد بقوة من سؤالها وقال بسذاجة  :
-أنا؟!..أنا (سعد)
ضحكت (رتاج) من رده وقالت :
-أنا جادة ايها الأحمق
-لم أفهم ما تقصدينه!
-أعني ..عرفني عنك أكثر أنا أعلم اسمك فقط
-أنا تاجر للملابس،أعيش مع أخوتي الصغار وأنا المسؤول عنهم ، عمري ثلاثون عاماً!
ثم سكت وقال :
-هذا يكفي؟
(رتاج) مبتسمة :
- نعم
ثم قال :
-أنا يتيم!
(رتاج) بحزن :
مثلي!..أنا يتيمة الأب
(سعد) باستياء :
-أنا يتيم الأم
(رتاج) : ...
(سعد) بارتباك :
-وأنتِ
-ماذا؟
(سعد) ضاحكا :
-عرفيني عن نفسك
-ماذا تريد أن تعرف؟
- أي شيء عنك
-أنا عمري أربعة و عشرون عاما،  أعيش مع أمي في بغداد و أعمل كخادمة للمنازل لأجني مالا أسدي به ديوناً تراكمت.
ثم قالت بحسرة :
-خلقت للعذاب فقط!
-هل يمكنني مساعدتك؟
- لا..شكرا
-هل يمكنني أن أسألكِ مرة أخرى؟
-طبعا
-:متى توفي أباك؟
-عندما كنت في السابعة من عمري
-ما سبب وفاته؟
-في الحقيقة كنت صغيرة ولا أتذكر، لكن  أمي تخبرتني أنه كان ساحرا و مات مغدوراً
-حياة السحرة صعبة
(رتاج) باستغراب :
-كيف عرفت؟
-أبي ساحر.. لكنه يعيش كالسجين
(رتاج) متفاجئة :
-أنت ساحر؟!
- لا..لماذا؟
-لأن أمي أخبرتني أن السحرة يُوَّرثون مهارتهم لأبنائهم
(سعد) مغيرا الحديث :
-متى ستعودين لبغداد؟
-لا أعلم
-لا تعودي أرجوك!!
(رتاج) بتعجب :
-لماذا؟!
سكت (سعد) ولم يرد عليها، وبعد نضرات (رتاج) التعجبية قال  :
-وماذا تقرب لكِ اطياف بنت يامن؟
-انها عمتي
-مجرد زيارة؟
- نعم
ثم سكتت للحظة وقالت :
-لقد حان وقت المغادرة..
نهض (سعد) من على الصخرة و ساعد (رتاج) للنهوض ، وعندما عادا للمنزل ابتسم (سعد) وغادر ثم ابتسمت (رتاج) ودخلت المنزل.
مضت الأشهر و  (رتاج) مع عمتها تساعدها في الأشغال المنزلية و كانت (كارينا) تنزل للسوق مرة في الأسبوع لشراء مستلزمات المنزل و كان (سعد) يأتي لرؤية (رتاج) بين الحين و الأخر وقد أصبحت بينهم علاقة مودة و صداقة طيبة.
وفي صباح استيقضت (رتاج) على صوت عمتها تناديها  لتناول الفطور ، وبعدما توجهت للمطبخ  وعندما  أوشكت لانتهاء فطورها  اقتربت منها العجوز وقال :
-هل يمكنكِ تلبية طلب مني؟
ردت (رتاج) بابتسامة وهي تضع أخر لقمة في فمها : بكل سرور يا عمة..
أخبرتها العجوز  بطلبها و كان هو الذهاب للسوق لإحضار بعض الدجاج لأن هناك ضيوف آتيين من بغداد في المساء  ، سألت (رتاج) عمتها عنهم و من يكونون لكن العجوز رفضت اخبارها باعتبارها مفاجئة ، لبست (رتاج) ملابس صيفية  لأن الجو حار ذلك اليوم و طلبت من صديقتها الذهاب معها وعندما وصلا توجهت (رتاج) ناحية محل (سعد) الذي عندما رآها فرح و صافحها ثم قال ممازحا :
-كنت أتسأل عن سبب حر هذا اليوم .. لكن من الواضح أن الشمس قريبة جدا!
(رتاج) ضاحكة :
-تافه!
دخل (سعد) للمحل بسرعة و اخرج معه وردة حمراء قدمها ل(رتاج) وقال باسما :
-كنت سأحضرها لكِ في المساء
اخدتها (رتاج) بفرح وقالت :
-أحببتها!!
اقتربت (كارينا) منهما وقالت مقاطعة :
-هل تعرف مكان بائع الدجاج؟!
نضر اليها سعد و قال  :
-نعم!
-أخبرنا بمكانه!
(سعد) وهو يتقدم  : هيا
أوقفته (رتاج) قائلة :
-لا عليك..أخبرنا بمكانه فقط
أرشد (سعد) البنتان بمكان بائع الدجاج و الذي لم يكن في السوق بل كان بعيد  منه في أحد المنازل في قرية مجاورة  والتي تسمى (النسيج) و أمرهما بالحرص على سلامتهما و أن يتخذا  الحذر لأن هناك قطاع الطرق .
انطلقتا حيث أخبرهما وظلت (رتاج) تنظر للوردة الحمراء بابتسامة وفرح طول الطريق وعندما اقتربتا من القرية ، كان المكان خالٍ من المارة وكان مثل الصحراء الواسعة ، رآهما  ساحران كانا على جوادان من بعيد،كان الأول (طابغ) ذو لحية بيضاء، و كانت ملامح وجهه تدل على أنه كبير في السن لكن جسده كان قوي مفتول العضلات كجسد الشباب ، طويل القامة وكان يلبس ملابس صيفية سوداء ، أما الثاني (سهيل) ويلبس رداء أسود عليه حزام مليئ بالخناجر  وكان شاب أقصر من الأول قليلا و أضعف منه بكثير و وجهه كان مندوبا.
قال (سهيل) بفرح :
-انظر للفريسة .. انها آتية بقدميها !
(طابغ) بسخرية :
-بل فريستان!
ثم ضحك باستهزاء وقال :
-ماذا تنوي ؟
(سهيل) بتعطش :
-سأقتلهما و أقدمهما لكبيرنا
و قبل  ان ينطلق بجواده أوقفه (طابغ) ثم قال بصوت صارم : لا تتهور!.
(سهيل)باستهزاء :
- هل أنت خائف؟
-لا..لكن لا نعلم مدى قوتهم و أنت تعلم تطور الساحرات في هذا الوقت!
-لا ترفع بقيمتهم ايها الأحمق!
-إذا اذهب اليهم وتأكد بنفسك!
(سهيل) وهو يضرب خصر الجواد :
-انظر!..
انطلق (سهيل) ناحية الفتاتان و عندما اقترب منهما نزل من على جواده وقال لهما بسخرية:
-من هاتان الجميلتان!؟
رجعت الفتاتان للوراء ثم قالت (رتاج) محذرة :
-ابتعد ايها السافل!
اقترب منهما ببطئ  وقال :
-لا تخافا .. أنا لا أنوي أذيتكما!
(كارينا)  وهي خلف (رتاج) بخوف :
-من أنت؟
-أنا؟..
ثم ضحك كالمجنون و قال :
-ملك الموت!!
(كارينا)  بقلق وبصوت خافت   :
-يبدو مجنونا !!
(رتاج) بصوت مرتفع ساخر :
-ملك الموت؟..لم أكن أعلم أن ملك الموت نحيف و ضعيف لهذه الدرجة!
(سهيل) بغضب وهو يقترب منهما :
-من تريد الموت أولا؟
(رتاج) بعصبية :
-لا تقترب و إلا..
وقبل أن تكمل تهديدها و بسرعة خاطفة اخرج الساحر خنجرا من حزامه وصوبه ناحيتها اخترق صدرها لتسقط تلك الوردة من يدها وسقطت بعدها  مصروعة ، امسكت (كارينا) بجثتها الهامدة ولم تقل شيء حينها بل ظلت مصدومة ومرتبكة ، وعندما وضعت (كارينا) صديقتها على حجرها قالت (رتاج) و الدماء تخرج من فمها بغزارة وهي تلتقط أخر أنفاسها :
-أخبري .. أخبري (سعد) أنني أحببته..
ثم امسكت  رداء (كارينا)  بقوة وقالت :
-لا تخبري.. أمي بوفاتي
بعد هذا الكلام فارقت الحياة تاركة (كارينا) تصرخ كالمجنونة..
(سهيل) بصوت هادئ : توقفي عن البكاء ايتها الساقطة
وقبل أن يخرج  خنجر أخر سمع صوت أنثوي من خلفه يقول :
-ماذا تفعل ايها اللعين؟
ضحك (سهيل) باستهزاء و دون أن يلتفت قال :
-فريسة أخرى؟
ثم التفت بسرعة  ليرى امرأة واقفة أمامه كانت ملثمة و مرتدية جلباب أسود فضفاض،وما إن أفصحت عن وجهها قال (سهيل) بدهشة وخوف :
- منى!!؟
ردت (منى) بابتسامة ساخرة :
- هي..
سقط (سهيل) على الأرض مرعوبا و بدأ بتقبيل رجليها  بخوف شديد ثم بدأ بالبكاء كالطفل وقال : ارحميني يا ابنت خالـ ..
وقبل أن يكمل وبحركة بسيطة من أناملها انقطع رأس الساحر وسقط جثة هامدة و تناثرت الدماء على وجه (كارينا)  ، راى (طابغ) ما حدث من بعيد و علم أنها الساحرة الكبيرة (منى) وبعد صدمته وخوفه انطلق بجواده بسرعة لكبيره.

ناريجحيث تعيش القصص. اكتشف الآن