في قلبي تسكن فلسطين

67 7 3
                                    

هل جربت يوما أن تقع في عشق مكان بشوارعه وناسه؛بأرضه وسمائه؛ بمساوئه ومميزاته؛ ببحره وهوائه ؟
هل جربت يوما أن تعشق وطنا بكل ما فيه حتى لو كان أسيرا؟...
حتى لو كنت بداخله سجينا؟ ...
استيقظت بيان مبكراً كعادتها ما أن شقت خيوط النهار عتمة الليل وشقشقت العصافير فوق الأشجار ،دلفت إلى الحمام لتغتسل وبعد قليل كانت تقف بين يدي خالقها تٌصلي الفجر قبل الشروق
في العشرون من عمرها ،جميلة كشمس الصباح التي تُعانق السماء ...
أبية كبلدها الصامدة على مدار سنوات وسنوات ،بريئة كبراءة الحٌلم الذي يراودها هي وكل شباب جيلها كل يوم ولم ييأس أحدهم منه يوم.
وبعد أن فرغت من صلاتها جلست فوق سجادة الصلاة تدعو ربها بما في قلبها وهي ترفع عينيها ويديها للسماء التي تبدو أمامها من الشرفة المُنخفضة المُحاطة بسياج من حديد ،خرج من غرفته يزيد شقيقها الأكبر الذي يشبهها كثيرا، الفارق بينهما فقط في طوله الفارع الذي يناقض طولها و شاربه و لحيته المهذبة.
"صباح الخير بيان..." قالها باقتضاب وعينين حمراوتين
فأردفت بوجهها الصبوح وهي لا تزال في مكانها:" صباح الخير يزيد ماذا بك؟ لمَ تصحو مبكرا أنت لم تنم جيداً بالأمس...."
قال لها وهو يجلس على الأريكة المجاورة لها ويرفع وجهه للسماء البعيدة :"بل قولي لمَ لم أَنم من الأساس؟..."
قالت بتساؤل وهي تستقيم لتجلس بجواره مباشرة:" لماذا حبيبي؟.."
قال بصوت مٌختنق ووجه مٌكفهر:"سمعت أخباراً عن اقتحام وشيك لقوات الاحتلال للحي من أجل الاستيلاء على المنازل...."
خفق قلبها في صدرها وأردفت بصوت مُضطرب:"و كيف يحدث هذا ؟هذه بيوتنا التي ولدنا فيها وامتلكها آباؤنا ..."
كور قبضته وضرب بها سطح الأريكة قائلاً بغضب:" ومنذ متى وهم لهم عهد ولا ملة ؟ ومنذ متى وهم يهتمون إلا بما يحقق مصالحهم ؟ وهل وجودهم هنا من الأساس ليس دليلا على تجبر دام لسنوات؟...."
انقبض قلب بيان وهمست بحشرجة :"وإن حدث هذا ماذا سنفعل؟ أين سنذهب؟.."
قال يزيد بنظرة حادة :"على جثتي.... يأخذون بيتي وبيت أبي وجدي على جثتي "
ما أن ذكر عبارته حتى ارتجف جسدها بشدة وهي تسترجع صورة والدها حين اشتبك مع العدو في إحدى الانتفاضات منذ عدة سنوات... وقتها كانت هي صغيرة ،وما أن دخل به بعض رجال الحي و وجدته غارقا في دماءه حتى سرت تلك الرجفة في جسدها ،ظنته بعقلها الصغير مٌصابا فقط لأنها وجدت عينيه مفتوحتين،كانت أمها تصرخ بأعلى صوتها أما هي فما أن اقتربت وجثت بركبتيها بجواره و وجدت عينيه ساهمتين فاقدتين لبريق الحياة حتى أدركت أنه ذهب في رحلة بلا عودة و أن عليها حتى تراه أن تذهب هي إليه
لم تنتهي القصة بعد فبعدها بسنوات قليلة حين بدأت تشب وكانت في السابعة عشرة مات شقيقها الكبير ،فراس الاكبر من يزيد بعامين فقط ،مات بنفس الرصاصات الغادرة على يد العدو ليتجدد الحزن داخل البيت من جديد.
استشف يزيد أنها عادت بذاكرتها عند والده و أخاه ولكن ما باليد حيلة.
قال لها ليخرجها خارج دوامة حزنها التي ما أن تدخل فيها حتى تبتلعها
:"لن أذهب إلى العمل اليوم لا أحد يضمن ما تحمله لنا الساعات القادمة ثم أشار بعينيه للأعلى قائلاً: ما رأيك لو تصعدي معي لأتابع البحث الذي أعمل عليه ؟"
ابتسمت رغم الخوف الذي بدأ يتحرك بداخلها وتمتمت وقد وصلها أنه لا يريد أن يتركها وحدها :"حسنا هيا بنا..."
صعد كلاهما إلى الحجرة الصغيرة في الطابق العلوي من البيت والتي يتخذها يزيد معملا فهو خريج إحدى الكليات الطبية وإلى جانب عمله فهو شغوف بالبحث العلمي والتجارب المعملية
دخلت بيان من باب المعمل وشعور بالفخر يراودها كلما دخلت إلى هذه الحجرة ووجدته يعمل بجد و كيف لا تشعر بذلك وهي لم تخرج من الحياة إلا به هو وأمها بعد وفاة أبيها وأخيها الذي كان قرة عينيها و بوصلتها في هذه الحياة ،سنديها قٌتِلا غدرا ولم يتبقى لها سوى أمها براءة وأخيها يزيد و......
و( ضياء...)
جلست فوق المقعد وأمامها كان يجلس يزيد خلف مكتبه يقوم بمراجعة بعض الأبحاث أمامه باهتمام شديد أما هي فكان الخوف من المجهول يراودها...
رغم ايماننا و يقيننا إلا أن الخوف من المجهول غريزة انسانية متأصلة فينا، أسندت رأسها للخلف و فجأة سمعت صوت مُرفقعات عالية وصراخ قريب لنسوة وأطفال فنظرت إلى يزيد بخوف وهرع كلاهما لسطح البيت
كانت السماء مٌلبدة بالغيوم ولكن ليست غيوم الشتاء ولا سُحُب السماء الداكنة بل كانت مُلبدة بغيوم البارود الذي تملأ رائحته البلدة بأكملها
التفتت بيان إلى أخيها وقالت له بذعر:" ما هذا ما الذي حدث للبلدة؟.."
قال لها و أنفاسه تتلاحق:" ألم أقل لكِ أن هناك هجوماً وشيكاً على البلدة؟ ..."
استدارت لتنظر حولها وأردفت بصوت مبحوح و نظرة ضائعة:" ولكن هذا ليس اثر هجوم، هذا اجتياح للحي بأكمله...."
اقترب كلاهما من السور لينظرا للأسفل ،كانت جميع الأسطح كحال سطحهم مدكوكة ،المحلات مفتوحة والبضاعة مٌلقاة بإهمال في الشوارع التي يبدو بها الخراب، إلى جانب انتشار جنود الاحتلال في الشوارع
جز يزيد على أسنانه وأطلق من حنجرته زمجرة غاضبة قبل أن يٌسرِع من أمامها لينزل الى البيت فهرعت خلفه قائلة بصوت عالٍ:" يزيد..."
كانت أصوات نساء الحي تعلو بالصراخ و أصوات اطلاق نيران عالية إلى جانب رائحة الدخان التي تزكم الأنوف وكانت حجرة المعيشة مفتوح بابها وما أن تقدما حتى شاهدا أمهما تقف خلف النافذة تدعو الله في وجل ويديها ترتجفان أما صوتها فلم يخرج من حلقها فاندفع يزيد ووقف بجوارها متأهبا فوقفت بيان بجوارهما ترتجف كعصفور مبتل يبتلعها اسدالها حتى تكاد لا تٌرى فمن يكن بينه وبين الموت أمتار قليلة ومن تكن أرضه وبيته على وشك الاغتصاب يكن هكذا حاله
فأردف يزيد بأنفاس لاهثة:" اقتربوا من بيتنا لم يصبح بينهم و بيننا الكثير..."
لم يكد ينطقها حتى وجدوا باب البيت يطير أمامهم بعد أن اقتحمه جنود الاحتلال بسهولة وبينما هم يدخلون اندفع تجاههم يزيد بكل ما أوتي من قوة رغم أنه أعزل إلا أن دماء النخوة انفجرت في عروقه فدفعه أحدهم أرضا ودخلوا حيث أمه يجذبوها للخارج فانطلق خلفهم وهو يركل كل من أمامه فما كان منهم إلا أن قيدوا معصميه خلف ظهره
ما أن رأت بيان ما يحدث حتى اشتبكت معهم في محاولة مستميتة للدفاع عن يزيد وهو ينتفض و يركل بقدميه إلى أن ضربه أحدهم بكعب السلاح الثقيل على مؤخرة رأسه ليفقد الوعي ويسقط أرضا مضرجا في دماؤه فصرخت بيان صرخة مدوية جرحت حنجرتها حتى أدمتها
أما الطامة الكبرى كانت حين جذب جندي من الجنود بيان من مقدمة اسدالها وفي ثانية واحدة جذب سحاب الاسدال ليمزقه بلا رحمة بيديه فشهقت بفزع و صرخت أمها صرخة عالية دوى صداها في أرجاء البيت كله
فإن كان سهل عليهم سلب الأرض فهل سيصعب سلب العرض!!!
************
انتفضت بيان فجأة وهي تشهق شهقة عالية ونظرت حولها بفزع لتجد نفسها على المقعد في معمل شقيقها فأخذت تنظر حولها وأردفت بفزع بصوت لاهث:"أين نحن؟.."
قال يزيد الذي كان يباشر عمله ومتابعة أبحاثه بعد أن غفت صغيرته أمامه فوق المقعد وتركها لأنه يعلم أنها لم تأخذ كفايتها من النوم:"نحن في المعمل حبيبتي..."
أخذت زجاجة المياه من فوق المنضدة المجاورة وفتحتها وشربت وكأنها سارت عام كامل تحت حرارة الشمس وجسدها لا يزال يرتجف من أثر الحلم المُزعج الذي رأت فيه كل مخاوفها تتجسد أمامها في مشهد أقل ما يوصف به أنه مشهد بشع ،أحلامنا ما هي إلا ترجمة لمشاعرنا و ما يدور بعقلنا الباطن .. ومن عاشوا حياتهم بأكملها تحت وطأة الاحتلال ... ومن سُلِبت منهم أرضهم ومُعرضون في أي وقت لسلب المزيد تكن هذه أحلامهم ....
شعب يعيش في خوف لا ينقطع من اغتصاب الأرض والعرض وسلب الأرواح
وحين تغفو عيونهم لا يهنأون بقطرة راحة فتصير الكوابيس المُفزِعة رفيقتهم فهل إلى الخروج من هذا النفق المُظلِم سبيل؟
قصت عليه حلمها باختصار و ما أن انتهت حتى أردفت وقلبها ينتفض:"هل تظن هذه رؤية يزيد؟..."
زفر قائلا والقلق يعتصر قلبه:"ربما..."
ولم تمضِ سوى ساعات حتى كانت الرؤية تتحقق و النبؤة تصٌدق و يدخل جنود الاحتلال الحي...
و رغم اعتيادهم على أجواء الحرب منذ صغرهم فمن سمع صوت الذخائر ما أن ولد عوضا عن صوت الزغاريد يقوى قلبه و يصبح كالحجر إلا أن المشهد كان من أصعب ما يكون
بيوت تٌقتحم ،رجال تٌعتقل،أطفال تٌرمى في الطرقات وكلما تم اخلاء بيت يدخلون على البيت الذي يليه في مشاهد تٌدمي القلوب ....
قوتهم أكثر وعتادهم أقوى والمقارنة ما بين الطرفين ظالمة.
و لكن رغم ضعف الامكانيات لم يتراجع أبناء البلد ...وقفوا كحائط صد يفدون الحي والبلد بأكملها بأجسادهم ودماؤهم وقد سقط من سقط شهيد وقاوم من قاوم ما بين جريح وسليم وجميع دول العالم تضامنت مع القضية حتى وإن لم يكن باستطاعتهم شىء أخر ولكنهم قاموا بأضعف الإيمان وهو المساندة
وأصبحت أحياء فلسطين في الأيام التالية ساحة حرب ما بين الاحتلال الغاشم والمقاومة الباسلة
أما حي بيان فكانت هناك امدادات قد وصلت لهم من المقاومة فأصبح كل بيت من البيوت التي لا زال سكانها بها لديهم امدادات.
______
في الطابق الثاني و خلف الشرفة المغلق نصفها وقفت بيان مع يزيد وأمها التي لم تحني الحرب قامتها ولم تضعف عزيمتها وقد وهبت روح زوجها وابنها فداءا للوطن، وفي البيوت المجاورة كان كل الجيران يقفون وكل منهم معه سلاحه حتى إن هاجمهم الجنود يدافعون عن بيوتهم
قال يزيد بحدة لبيان و أمه خوفا عليهما :"ادخلي أنتِ وهي لا يصح أن تقفا هكذا..."
قالت بيان بعزم واصرار :"ما لا يصح أن نترك أي شخص يدخل بيتنا ويسلبه يزيد... ما لا يصح أن نعطيهم أرضنا ...يدخلون البيت على جثثنا..."
نظر اليها يزيد باعجاب فهل هذه التي كانت تخشى عليه من النسيم خوفا من أن يصيه مكروه فتصبح وحيدة؟.. من أين أتت بكل هذا العزم؟... ولا يدري أن رؤيتها هي التي غيرتها كليا هكذا و جعلتها ترى كيف سيكون المستقبل إن خطى غريب أرض بيتهم.
كانت القوات تقترب تارة وتتقهقر تارة لأن الحرب بين الطرفين صارت متأججة وفي عدة أحياء وليس فقط في هذا الحي إلى جانب وقوع ضحايا من بين جنود الاحتلال فكان العدو يٌقَيم دائما موقفه وبٌناءا عليه يحدد خطواته ،فكان أهل الحي متأهبين ليلا ونهارا لحدوث اقتحام لبيوتهم
وفي مساء أحد الأيام و بينما يزيد يقف أمام البيت بسلاحه هو و كل شباب و رجال الحي و بينما براءة تصلي وتدعو الله كانت بيان تجلس تقاوم النوم وهي ترتدي اسدالها...
نعم أصبحت النساء تنام باسدال الصلاة حتى إذا ما اقتحم الجنود المنازل تكن المرأة مستورة ...أصبحت الأسرة كلها تنام بملابسها وتجتمع في غرفة واحدة حتى إذا حدث قصفا ماتوا معا و إن لم يحدث وعاشوا يعيشون معا
لقد رأت بيان الأقسى من ذلك... رأت اخوة من الحي يٌبَدِلون الابناء فالشخص الذي لديه أربعة أطفال يعطي اثنين لأخيه ويٌبقي على اثنين معه وأخيه بالمثل حتى إذا قٌصف بيت لا يموت كل أفراده فأي هوان هذا؟...
رن هاتفها ليخرجها من شرودها فإذا به ضياء... الدكتور ضياء جارها و خطيبها وحبيبها الذي قضت معه عمرا كاملا يتمنى كل منهما الآخر ولا تعرف هل القدر سيعطيهما هذه الفرصة أم لا
"أهلا ضياء...." قالتها بصوت منهك
فأردف بصوته القوي الذي يمدها بالطاقة كلما ضعٌفت :"أهلا بيان، للتو أتيت من المشفى كان هناك مصابون كثيرون ..."
قالت وقلبها يعتصره الألم:" شفاهم الله و هون علينا هذه الأيام..."
قال ضياء الذي يقف مع شباب الحي في انتظار أي هجوم :"إن شاء الله حبيبتي..لا تخافي لن يمس أحد الحي أو نساؤه إلا على جثثنا جميعا "
غامت عيناها بالدموع فمنذ متى وهم يدورون في هذه الدائرة من الصراع الذي يكاد ألا ينتهي وأردفت برجاء :"أسأل الله أن ينصرنا وأنتم جميعا سالمون .."
قال ضياء بتردد:"بيان... إن حدث لي أي شىء فاعلمي أنني احبك بشدة وتذكريني دائما بكل خير إلى أن نلتقي..."

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jul 07 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

في قلبي تسكن فلسطين حيث تعيش القصص. اكتشف الآن