جاءت تُكمل حديثها لكنها تفاجئت بأخر شيء تتوقعه على الإطلاق، شيءٌ ضرب الصدمة ببدنها بقوة عاتية...دموع يعقوب التي شعرت بها تسقط على يديها، دموع حسرة، دموع هذا الذي بات الألم من عناصر حياته..
شعرت رِفقة وكأن ثمة سكين حادة تمرّ فوق قلبها فتمزقه..
رفعت أطراف أصابعها المرتعشة تسير بهم على وجهه مرورًا بلحيته وهي تشعر به يتشعب بروحها، همس يعقوب بتساؤل متعجب:-
- إزاي يا رِفقة قادرة تحسي بالنِعم إللي إنتِ بتقولي عليها دي كلها وإنتِ كدا..
أنا بس بستغرب منك ومن تفكيرك..
تعرفي أنا رغم كل إللي حوليا ده والنعيم إللي كنت عايش فيه من وجهة نظر الناس، بس عمري أبدًا ما حست بإحساس الرضا أو إن عندي حاجة مش عند حد...
يعني عادي .. مش حاجة مُميزة بل بالعكس كنت بقول إن أقل من أي حدّ في سني، تعرفي عمري ما حسيت إحساسك ده..ابتسمت رِفقة ببشاشة ثم قالت بهدوء:-
- تعرف يا يعقوب .. أنا كُنت زيك كدا، كنت بنت أقل من العادية بمراحل..
عايشة بالطول والعرض كل إعتمادي على بابا وماما، مش مقدرة أي حاجة في حياتي..
لغاية ما حصلت الحادثة وغيرت كل حاجة في حياتي..انتبه يعقوب لها معتدلًا وانصت لما تقوله باهتمام فيسمعها تُكمل وهي تتذكر تلك الأحداث المنصرمة:-
- كنت في أولى إعدادي في الصيف .. بابا قرر يودينا المصيف ويفسحنا بعد سنة شديدة..
كنا أسرة بسيطة وبابا وماما كانوا أحن أب وأم في الدنيا وكانوا مغرقني حنان ودلع..
روحنا واتفسحنا وصيفنا وإحنا راجعين كنا بعد نص الليل على الطريق الصحراوي، بابا وهو سايق شاف راجل وست مغمى عليهم على جانب الطريق..
بابا نزل جري وماما نزلت علشان الست من غير تردد، وبمجرد ما نزلوا اتفاجئنا إن فخ من قُطّاع الطُرق، حاصروا بابا وماما وأنا اتصدمت وأنا راكبه في العربية ونزلت جري لهم بس قبل ما أوصلهم حسيت بحاجة زي ما يكون حديدة حد ضربني بيها على راسي من ورا...
وساعتها مش حست بالدنيا حوليا..
ألا بعدها باسبوعين فوقت في المستشفى وفتحت عيني بس كانت الدنيا سودا .. كل حاجة حوليا سودا..ابتلعت رِفقة ريقها بألم وتدحرجت دموعها رغمًا عنها وهي تشعر بمرارة تلك الذكرى..
اقترب منها يعقوب وأخذ يمحق تلك الدموع المُعلقة بأهدابها بحنان ثم أحاطها لتستند على كتفه برأسها ثم التقطت خيط الحديث تُكمل:-
- ساعاتها بقيت أصرخ وأعيط وأنا مش مستوعبة وجالي إنهيار عصبي حاد وعيشت فترة طويلة على المهدئات ... بس إللي هداني شوية لما عرفت إن بابا وماما بخير وعايشين وهما رغم تعبهم فضلوا معايا ورفضوا أي علاج..
عرفنا ساعاتها إن فقدت البصر .. وعرفت ساعاتها إن معدتش هشوف ألوان ألا الإسود..
طبعًا كان إنهيار ورا إنهيار وأنا مكونتش بستوعب أبدًا..
بس بابا وماما مش سبوني رغم حزنهم وحسرتهم لكن هما كانوا بيخبوا جواهم ومش بيبينوا ليا..
وبقوا يحمدوا ربنا إن الحادثة دي جات على قد كدا، لأن عرفت إن حالتي كانت صعبة وكان عندي نزيف..
عرفت إن هما طعنوا ماما وبابا فضل يقاوم واتأذى بشكل كبير ...إحنا كنا انتهينا بس ماما قالتلي إن إللي حصل معانا مُعجزة ولطف ربنا بنا كان كبير..
في عربيات لناس مهمة عدت في نفس التوقيت..
قُطّاع الطريق خافوا وأخدوا عربية بابا وهربوا بيها وسابونا .. والناس دي إللي أنقذتنا..
أنا وقتها كنت بين الوعي واللاوعي وكانت الرؤية ضبابية ... بس قدرت أحسّ بناس بتتحرك حوليا وأشوف وشوش ضبابية مش واضحة..