ارتفع صراخ حاد بأرجاء الغرفة جعل الأجواء تغرق في الصمت، صراخ مرير مُعذّب لم يعد يطيق الصمت والصبر أكثر من هذا...
ولم يكن مصدره سوى حنجرة حُسيّن والد يعقوب الذي اقتحم الغرفة وأخذ برِفقة خلف ظهره وصاح ببأس شديد:-
- كفاية بقاا كــــــفايــــــــة، مش مكفيكِ إللي حصل لإبني .. دا وقت تهديدك وكبريائك ده..
في الحقيقة يا أمي سبب رقدة يعقوب كدا هو إنتِ ... إنتِ السبب الرئيسي وإنتِ إللي هدمري يعقوب وهتخليني أخسره للأبد...
رِفقة مرات يعقوب ومش هتبعد عنه شبر واحد، أيوا يا أمي لازم تتخطيني الأول، وأنا هحمي البنت دي بروحي لغاية ما يعقوب يفوق واسلمهاله في إيده...
كفاية بقاا حرام عليكِ .. حتى اعملي حساب لرقدته دي .. يلا يا لبيبة يا بدران اعملي إللي تقدري عليه..كانت لبيبة تشد على قبضتها وأعينها لم تبرح من فوق يعقوب الهامد فوق الفراش ورأسه المُلتفة بالضمادات البيضاء، تنظر له نظرات ملتحفة بالغموض ثم بهدوء عجيب انصرفت من أمام مدخل الباب...
استدار حسين يذهب حيث يعقوب وفاتن التي ركضت نحوه وهبطت تحتضنه وهي تردد ببكاء:-
- يعقوب ابني حبيبي .. مالك يا ابني ... رد عليا يا يعقوب .. حقك عليا يا يعقوب حقك عليا يا نور عيني...شهقت رِفقة ببكاء وهي تهمس بلوم:-
- أنا السبب ... يعقوب بيحصله دا كله بسببي، هي عندها حق ... رقدته دي بسببي لو مجاش ورايا كان زمانه بخير..
يمكن هي عندها حق في إن لازم أبعد عنه في مكان ميقدرش يوصلي فيه..استمعت فاتن لحديثها لتهرع نحوها تحاوط كتفيها بكفيها وتهزها متشدقة برجاء وبكاء:-
- إياكِ يا رِفقة أوعي تبعدي عن يعقوب، والله يموت فيها .... والله ابني ينتهي يا رِفقة...
بيكِ أو من غيرك يعقوب طلع من ثوب لبيبة بدران من زمان...
اتمسكي بيه زي ما هو متمسك بيكِ يا رِفقة، لو بتحبيه خليه يفتح عينه يلاقيكِ..انصبت الدموع على وجهها حتى شعرت بعينيها تحترقان من شدة الألم وقالت بتقطع بهسترية:-
- أنا خايفه عليه أووي يا ماما ... فاتن.. أنا خايف يحصل ليعقوب زي ... أنا مرعوبة ... كان هيحصله أيه لو الضابط براء مكانش اتصل ...كان هيحصل أيه ليعقوب...جذبتها فاتن لأحضانها تهدهدها وهي تمسح على ظهرها بحنان وقالت وهي تكبح بكاءها:-
- متفكريش بالطريقة دي يا حبيبتي، ربنا كبير يا رِفقة .. مستحيل يسيبكم ... ربنا رحيم..
وأنا واثقة إن يعقوب هيبقى كويس ومش هيحصله حاجة ...علشان يعيش متهني معاكِ ويفرح بقااا..كان حُسين في عالم أخر بعيدًا عنهم وهو يجلس بجانب فراش يعقوب بدموع حبيسة وهو يُطالعه بحنان، وضع يده فوق كفه وسنوات الطفولة القصيرة التي قضاها معه تلّف عقله، ويوم ولادته اليوم الذي اشتم به رائحته للمرة الأولى..
هو أول من رأت عينه، وأول فرحته، وبه ابتدت أبوته...
يتذكر كيف تركه بصحبة والدته وهو مؤمنٌ بأنه معها أفضل بكثير من وجوده بصحبتهم؛ وذلك لحبها الشديد له وتعلّق يعقوب بها...
والدته من اقترحت عليه تركه معها وهو الجاني الذي وافق معتقدًا أن الأفضل هذا، فهُم سيسافران لبناء فرع أخر من إمبراطورية بدران وتشييد مجد جديد ووجب عليهم التفرغ...
يتذكر كيف تمسّك يعقوب بأقدامه وترجاه ببكاء وهم يرحلون بأن لا يتركوه أو يبقون بجانبه لكنه قد وعده بأنهم سيأتون مرةً أخرى ويعودون بأقرب وقت، وبأن هنا منزله الذي يحبه وأصدقاءه وعالمه الذي لا يُريد أن يقطعه عنه...
تطوف به أيضًا تلك الذكرى المؤلمة التي أدرك فيها فداحة ما قام به...
حين عودته هو وزوجته متلهفين لرؤية يعقوب الذي تركوه طفلًا وعادوا إليه رجُلًا...
تركوه في ذات المكان وعادوا إلى ذات البقعة لكن لم يجدوه كما تركوه ... حتى أنهم لم يجدوه باستقبالهم بعد غياب...
وعندما رأهم لم يكن منه سوى صمت .. جفاء
.. برود ولا مبالاة مصحوبين بجملة ساخرة "الحمد لله على السلامة .. حققتوا أمجادكم؟!"