وتركوها وسط الظلمة والعجز المتمثل في مربع الفقد ... فقد القدرة على الرؤية .. فقد السمع .. فقد القدرة على الصراخ والإستغاثة فقد الحركة...
بين شعور .. القهر .. الخيبة .. العجز ... الغدر..
كان صدرها يعلو ويهبط بجنون، رفعت رأسها للسماء البعيدة عنها ... القريبة كل القرب من المظلوم المغدور...
تهمهم بشدة حتى ألآمتها أحبالها الصوتية وانجرحت، ما تتمناه الآن أن تصرخ بشدة صرخة تبلغ عنان السماء...
وحدثت المعجزة ومن بين بقاع العجز تحررت أحبالها الصوتيه وصدعت صرختها الملطخة بالألم والعجز .... صرخة كانت بعد غياب من خلف حزن وجاءت مرةً أخرى في حادثة وأد لبيبة المرِحة النشيطة المحبة للحياة....
لتخور قواها حين اخترقت أذانها أخيرًا صوت والدها الذي غاب عن مسمعها سنوات يناديها بلهفة وارتعاب ليطمئن قلبها وتعلم أنها أصبحت بموطنها وخفت إدراكها ساقطة بأحضان فقدان الوعي وخفت معه بريق الحياة من أعينها للأبد....
فتاة ضعيفة البدن صماء بكماء قد وقعت فريسة نفوس مريضة ناتجة عن ثقتها وطيب قلبها الذي أوصلها حد السذاجة..
كانت مرحة، مُحبة للحياة، لا تنطفئ الإبتسامة من فوق فمها..
وثقت في أصدقاء رسموا لها الوفاء لتُطعن على يد قارئ الحياة لها .. على مَن كان الأذن التي تسمع بها ... واللسان الذي تتحدث به..
جاءت به كي لا تُضل فأضلها وألقاها في غيابة الجُب..
مَن أهدته قلبها وروحها ولُبها وأوهمها هو أنها له كل ذلك..
عادت الكاميرا إلى أرض الواقع وانتهت رِفقة التي غرق وجهها بالدمع وشهقاتها مرتفعه تبكي بكاء حار وهي تشعر بدوار يلفها...
وختمت بأخر ما كتبته لبيبة بتاريخ هذا الشهر..
"لقد خشيت فقط أن يحلّ بالعمياء ما حلّ بالصماء البكماء ...لقد خشيت أن يحلّ بها ما حلّ بي، أردتُ إبعادها عن كل معاني الغدر، وإبعاده عن كل معاني الخذلان؛ لتيقُني أن الغدر مدفون بجميع الأرواح واجتثاث تلك النبتة الساذجة التي تسمى ثقة من معجمي وداخلي منذ ذاك اليوم..."
أجهشت رِفقة في بكاءٍ شديد وهي تحتضن الدفتر لصدرها بينما ما قرأته يلف ذاكرتها وهي تقول بنشيج مرتفع وصوت متقطع:-
- ليه كدا ... ليه ... كانت زيّي ... بس ليه عدم الرحمة دي .. عاشت دا كله لوحدها محدش حسّ بيها .. كانت بتحبني مش بتكرهني، أنا فهمتها غلط وكلنا فهمناها غلط...
كانت بس خايفه عليا ومن أحب الناس لقلبها وإللي ربيته بإيدها، خايفة عليا من الكسر والجرح وكانت خايفة على يعقوب من الخيبة....
عندما تأخرت رِفقة في العودة خرج يعقوب ببحث عنها ليسقط قلبه وهو يراها بهذه الحالة منهارة في بكاء شديد، يراها هكذا للمرة الأولى..
ركض نحوها بلهفة يحتضن وجهها بكفيه ويتسائل بتلهف:-
- رِفقة حبيبتي .. حصل أيه ليه الدموع دي كلها..
ارتمت بأحضانه وهي تنطق اسمه بنحيب:-
- يعقوب...
احتواها بين أضلعه يمسح على ظهرها بحنان وعقله يجن من بكاءها بهذه الطريقة فما السبب الذي آل بها لهذا البكاء..
كانت تردد بكلمات غير مترابطة:-
- هي مكانتش وحشة .. هي مش وحشة .. أنا حاسه بيها .. حاسه بالشعور إللي حست بيه ساعتها بس هي كانت أقسى بمراحل..
يعقوب .. دور عليها .. مش تخليها وحيدة تاني، تيتا لبيبة رجعها لنا...
تجمدت أطراف يعقوب وفزع قلبه من فكرة حدوث شيء سيء لجدته، ردد بهلع:-
- هي مالها ...حصلها حاجة.!!
مدت يدها له بالدفتر وقالت بأسف ودموع عالقة بخديها:-
- أنا عارفة إن مكانش ينفع أتدخل واقرأ علشان دي خصوصيتها بس غصب عني...
تناول يعقوب هذا الدفتر يفتحه وأخذت أعينه تجري على المكتوب والذي كان بمثابة نارٌ حارقة انسكبت على قلبه...
كان بالمقابل يتذكر لحظاته معها، حبها له الذي كان واضحًا للجميع، وقولها دائمًا (يا اسم غالي يا يعقوب.)
كانت تخبره دائمًا بأنه يشبه والدها...
لذلك تعتز باسم عائلتها كثيرًا وبكل ذكرى تخصّ والدها وبجميع أشياءه...
لذلك تزوجت بابن عمها ليبقى ويتخلد اسم والدها واسم العائلة ويصبح نسلها يحمل اسم آل بدران..
لذلك كانت تخبره أن اسم هذه العائلة مرتبط بالشرف والرِفعة والمبادئ والأخلاق...
لذلك كانت تحيط نفسها بجدار سميك وتعتزل الجميع...
لذلك كانت تحميه وتبعده كي لا تنجرح مشاعره ولو جرح بسيط..
لذلك كانت الثقة والأمان للأشخاص غير متواجدين بمعجمها وليس لهم مرادفات به سوى الخيانة والغدر والألم..
نعم كان مرادف الثقة والأمان بمعجم لبيبة بدران الخيانة والغدر والألم...
دائمًا ما كانت تخبره بهذه الجملة التي تتردد الآن بعقله..
"أنا بثق فيك يا يعقوب ... ومستعدة أأمن على روحي معاك .. والجملتين دول معناهم عند لبيبة بدران كتير أووي يا يعقوب باشا."
برزت عروق عنق يعقوب وعروق جبينه واحمرّ جفنيه لتسقط دمعتين حارتين انغمسوا بلحيته..
هي عندما كان والديه يبحثون عن المجد متناسين أن لهم ابنٌ أكبر يُسمى يعقوب كانت هي قائمة بكل شئونه، لقد بذلت كل شيء لجعله الأفضل، كان يرى أنها مستعدة لفعل أي شيء لأجله حتى التضحية بروحها...
كان يرى ويعلم أنها أكثر من تحبه، ومهما أحبه الجميع سيبقى حُب لبيبة ليعقوب حبًا مختلف متميز...
كان يعجب من طريقة حبها لكنه كان متيقن أنها تحبه أكثر من الجميع، بل إن حبها لا يُقارن بأي حُب أخر...
حبها كان تعلق روحي، تعلقت روحها بروح يعقوب، يكفيه أنها اختارت له اسم أحب الأشخاص لديها ... يعقوب ... اسم والدها الذي كان عالمها...
________بقلم/سارة نيل________
بعد مرور شهر...
طرق شديد على سطح الباب جعلها تهرع بتكاسل نحو الباب وبمجرد أن فتحت الباب توسعت أعينها بصدمة وصاحت بعدم تصديق:-
- نرجس ... يحيى ... مستحيل..
هدرت نرجس وهي تتماسك بصعوبة:-
- أيه كنتِ مفكرانا موتنا يا عفاف ولا أيه...!
توترت وجاءت تصتنع الود قائلة:-
- لا يا أختي أهلًا وسهلًا دا إنتِ شرفت......
قاطع وصلة كذبها واختلاقها الحب سقوط صفعة قاسية عاتية على وجهها، جاءت تتحدث لتتفاجئ بالأخرى على الجانب الأخر من وجهها...
شهقت بألم لتصرخ نرجس:-
- بطلي كذب بقاا ونفاق يا عفاف .. للأسف إللي دفعوا التمن عيالك ... وأنا مش هتنازل عن حقي وحق عمري إللي ضاع هدر وحق بنتي...
إنتِ عذبتيني أنا وبنتي وجوزي بكل الطرق ومرحمتناش ولا رحمتي ضعف بنتي..
ووسعت الطريق لرجال الشرطة لتسحبها الشرطية بقسوة وهي تقول بغلظة:-
- مفيش حقيقية بتفضل مخفية يا مجرمة ومفيش جريمة بتفضل كاملة...
للأسف المجرمين إللي اتفقتي معاها يخطفوا يحيى ونرجس ويسرقوا المبلغ إللي كان معاهم ويعملوا إللي عملوه، وخطفوا بنتهم وهددوها علشان يفهموا يحيى وزوجته إنها اتقلت، بعد كل السنين دي اتمسكوا في جريمة قتل وعملية سطو كبيرة..
وبعد ما عقدنا صفقة معاهم بتخفيف العقوبة لو اعترفوا بكل جرائمهم اسمك جه في التحقيق، وحقيقتك وقذارتك انكشفت يا مدام غير سرقتك وتصرفك بالبيع لِبيتهم ... يلا قدامي...
أخذت تصرخ وهي تنتحب برجاء:-
- حقك عليا يا نرجس ... طمعت لما شوفت معاكم المبلغ ده كله ... كنت بغير وحاقدة عليكِ يا نرجس ... علشان خاطر عيالي يا نرجس، أنا اتعاقبت بما فيه الكفاية والله.....
واختفى صوتها وهم يجرونها جرًا أمام الجيران الذين تجمهروا يشاهدون هذا العرض المجاني...
_________بقلم/ سارة نيل________
ارتدى يعقوب ملابسه وخرج من قصر آل بدران وركب سيارته وقاد نحو منزل رِفقة...
بعد قليل كان يطرق باب منزل شقته القديمة بينما يرتب باقة زهور الأقحوان التي بيده...
فتح يحيى الباب مرحبًا به:-
- يعقوب ... اتفضل يا ابني نورت..
دلف يعقوب للداخل وقال مبتسمًا بوقار:-
- أهلًا يا عمي .. إنتوا عاملين أيه وأخباركم..
- بخير يا ابني .. أخباركم أيه وأخبار الجماعة..
- كويسين والله بخير..
أتى رِين بجانب قدم يعقوب فانحنى يحمله وهو يمسد على ظهره وقال:-
- رِين واحشني يا راجل..
تنحنح يحيى وأردف يُخبر يعقوب:-
- كنت عايزه أفاتحك في موضوع مهم يا يعقوب..
هتف يعقوب بانتباه:-
- اتفضل يا عمي أنا سامع حضرتك..
قال يحيى بلهجة حاسمة:-
- بص يا ابني الحمد لله أمورنا استقرت، ومن بعد فرحك إنت ورِفقة هننقل بيتنا، أنا أجرت شقة قريبة من هنا، إنت عملت الواجب وزيادة يا يعقوب وكفاية إن إنتوا فتحتوا شركتكم ليا ولقيت وظيفة مناسبة ليا..
لكن أنا مش هقبل أبدًا نقعد كدا في بيتك أبدًا..
قال يعقوب باعتراض:-
- أنا قولتلك يا عمي أنا دلوقتي جهزت بيتنا أنا ورِفقة وبقالنا شهر بنرتب فيه وبنجهزه والشقة دي خلاص بقت ملكك، هو إنت ليه عامل فرق كدا، مش إنت بتقول إن بقيت ابنك، وفي أب بيعمل فرق كدا بينه وبين ابنه..
هتف يحيى برفض شديد:-
- إنت ابني دا مش محتاج كلام، بس علشان أكون مرتاح ... وكفاية إنك رفضت نجهز رِفقة وإنت جهزت البيت من كل حاجة..
أجابه يعقوب بعدم إقتناع:-
- إن البنت وأهل الزوجة يشاركوا في العفش، ويجيبوا جهاز جبار، دا العرف والعادات إللي أنا بصراحة مش مقتنع بيها..
أنا ورِفقة نزلنا وجبنا إللي هنحتاجه بس وإللي هنستعمله، ومش بالأعداد الجنونية إللي بتقولوا عليها دي، هي مراتي وبيتنا مسؤول مني أنا مش نصه مسؤول من أبوها...
ابتسم يحيى وقال بغرابة:-
- بس يا ابني دا بيبقى من ناحية أبو العروسة ويكون مساندة للعريس وخصوصًا لو لسه بيبدأ حياته ... يعني لو عليه كل حاجة يبقى كتير أوي.
قال يعقوب بذات التفكير وإصرار:-
- ما أنا بقولك يتجوزا بالحاجة إللي هيحتجوها في بداية حياتهم بس وبعد كدا واحدة واحدة يجيبوا النواقص، يعني مثلًا بلاش حاجة الصيف في الشتا .. وحاجة الشتا في الصيف إذا كانت كدا كدا هتتركن..
وبلاش مثلًا خمسين مفرش سرير، وسراير وتكوين أوض أطفال والأطفال لسه موصلوش ولسه قدامهم على الأقل سنة أو اتنين ويوصلوا وينور الدنيا بالسلامة..
والله الدنيا بسيطة بس الناس بقت تصعبها على نفسها يا عمي..
أنا عارف إنك هتعترض معايا مع إن على فكرا إللي بقوله هو الشرع، بس إنت كدا كدا مش هتاخد معايا حق ولا باطل لأن أنا متمسك بأفكاري واعتقادتي ومتنساش إني بدران وهتلاقي راسي ناشفة..
ضحك يحيى وهو يحرك رأسه بلا فائدة، استقام وهو يرفع صوته قائلًا:-
- تعالي يا رِفقة شوفي جوزك ...يعقوب باشا أبو دماغ ناشف..
جاءت رِفقة المبستمة ببهوت وانصرف والدها، استقام يعقوب وأعينه مثبتة عليها بشوق، سحب كفها يطبع قبلة بباطنه وهو يضع باقة الأقحوان بين يديها هامسًا:-
- وحشتيني يا أرنوبي..
اقتربت تطبع قبلة رقيقة فوق لحيته وقالت برِقة رغم حزن المتجلي بأعينها:-
- وإنت أكتر يا أوب..
جذبها تجلس بجانبه لتظل تنظر إلى الزهور وتتحسسها بحب وهمست:-
- وحشني أووي شكل الأقحوان..
مسد فوق وجنتها المنتفخة وقال بحنان:-
- حضري دفتر أمنياتك علشان هنحققها واحدة ورا التانية يا رِفقة، هعوضك على كل السنين دي ومش هسيب أمنية أقدر عليها ألا ما أحققهالك...
قالت بنبرة كاسفة:-
- قولتلك على أول أمنية ليا يا يعقوب، ترجع تيتا لبيبة..
قال يعقوب بصدق:-
- وأنا وعدتك إنها هتحضر فرحنا..
رددت بقلق:-
- فرحنا باقي عليه يومين وإنت قلبت الدنيا ومش لاقيها يا يعقوب..
- أنا وعدتك يا رِفقة .. بس المهم قوليلي الفستان وصلك..!!
فور أن تذكرت ابتهج وجهها وصاحت بحماس:-
- وصلي يا يعقوب متتخيلش رهيب قد أيه، ومتعرفش فرحتي قد أيه إن فستان فرحي من تصميم غصون الحُصري...
بجد أنا كنت بتفرج على تصاميمها وإنتاج شركتهم بانبهار مكونتش متوقعة إن هلبس من تصميمها...
ويبقى أيه تصميم مخصص ليا بس، حقيقي طلعت إنسانة رقيقة وخلوقة أووي ومبدعة...
طبع يعقوب لثمة حانية فوق جبينها وقال:-
- دا أقل حاجة في حق رِفقة..
يعقوب في خدمة أمنيات رِفقة..
وبصراحة زوجها بردوه وصاحب الشركة عُدي الحُصري شخص ذوق ومحترم لأبعد الحدود، وأحلى من كدا إننا بقينا مِعرفة وعزمتهم على فرحنا..
قالت بفرحة:-
- بجد ... شكرًا بجد يا أوب ...يسلملي قلبك..
- طب مش ناوية تفرجيني على الفستان..
هتفت بنفي:-
- لا طبعًا ... أنا قولت سيبها مفاجأة يا يعقوب مش تضعط عليا بقاا..
_______بقلم/سارة نيل________
يوم الزفاف...
صاحت نهال بضجر:-
- معقول مش هتحطي ميكب خالص يا ست رِفقة..
ابتسمت غادة مخطوبة يامن شقيق يعقوب وقالت وهي تضع على وجه رِفقة بعض المرطبات الطبيعية:-
- سيبيها براحتها يا نهال طالما هي مش يتحبه..
أيدتها رِفقة وهي تُقبل غادة من وجنتها:-
- الله ينصرك يا غدغوده ...أيوا بصراحة أنا مش بحبه خالص ومش ببقى حلوة فيه..
بحب طبيعتي ومفيش داعي إن أخبيها بالألوان يا نهال، أنا بحب نفسي كدا وأنا في عيني جميلة، كفاية أنا بعمل روتين لبشرتي وبهتم بيها ودا حلو أووي..
هتفت نهال بسخط:
- سكتنا يا رِفقة يا أم دماغ ناشف ... يا ستار يارب على دي دماغ...
اقتربت آلاء بحجاب رِفقة وفستانها وقالت باستعجال:-
- يلا يا رِفقة الوقت اتأخر والعريس على وصول..
وقفت رِفقة بينهم في المنتصف وقالت بأعين دامعة:-
- ربنا يباركلي فيكم يا بنات، حقيقي مش هنسى وقفتكم جمبي دي، إذا كان في المرّ ولا الحلو...
عقبال يارب ما أقف جمبكم في السعادة..
تكبكبوا عليها يحتضنوها بسعادة وصوت ضحكاتهم يغمر الغرفة...
ابتسمت نرجس التي تقف على باب الغرفة بسعادة، رفعت رأسها للأعلى وقالت بإمتنان وشكر:-
- شكرًا يارب ... اللهم لك الحمد والشكر يارب..
خرجت إليه كحورية من الجنة، فستانها الذي كان تحفة فنية عن الإحتشام واللباس الفضفاض والبساطة، فستان منسوج من القماش الحريري المطرز بروعة بالورود البيضاء وبالحب، فيكفيه جمالًا أنه صُنع بحب غصون وبروحها الجميلة التي لطالما لامست شيء إلا وزانته..
وحجابها الطويل الساتر الذي له نفس تصميم فستانها والذي زادته براءة رِفقة ونقاءها وابتسامتها جمالًا..
وقف يعقوب مبهوتًا مبهور بحِلته السوداء ووسامته الهادئة..
اقترب منها ثم همس وهو يضع قبلة رِقيقة مُطولة مفعمة بالمشاعر فوق جبينها وهمس:-
- ما شاء الله تبارك الرحمن ... ربنا يباركلي فيكِ يا نور عيني .. مبروك عليا إنتِ يا رِفقة..
ابتسمت بخجل وهمست له:-
- وربنا يباركلي فيك يا أوب..
وأكملت بمرح:-
- ويجعلك زوج صالح ومطيع..
ضحك قائلًا:-
- دا أنا هبهرك يا أرنوب..
اقترب والد رِفقة ووالدتها المأخوذين بها، جذبها والدها يقبل جبينها واحتضنها بشدة لتبادله وهي على وشك البكاء لتسرع نرجس تقول بنفي:-
- لا مش عايزين عياط، إحنا هنا جامبك ومعاكِ وفي ضهرك ... إنتِ لنا الدنيا كلها يا بنتي، إنتِ نور عيني يا رِفقة..
ارتمت بأحضان والدتها التي احتوتها بحنان، ليقول يحيى ليعقوب:-
- رِفقة أمانة في رقبتك يا يعقوب، إنت ااه ابني بس لو اتسببت في دموعها ساعتها....
قاطعه يعقوب بمرح:-
- أيه يا حاج إهدى عليا .. رِفقة مين إللي أزعلها، رِفقة في قلبي وعيني وقدام دموعها أنا مقدرش أبدًا..
وجذبها برِفق يضع ذراعها بذراعه وهو يقول باستعجال:-
- مش يلا بقاا علشان نلحق الفرح والضيوف ميملوش من الإنتظار..
وخرج وهي بصحبته حيث عالمه الخاص وعالمهم الذي سيشيدونه بالعشق والرحمة والمودة والرِفق واللين...
وكما تمنت رِفقة كان الزفاف منفصل وغير مختلط، ظلّ معها في البداية قليلًا ثم خرج يحتفل مع أصدقاءه وشقيقه يامن ووالده وجميع الضيوف من الطبقة المخملية بالأخير هذا زفاف يعقوب بدران الوريث الأكبر لعائلة بدران ذائعة الصيت رفيعة الشأن..
بينما رِفقة في الجهة الأخرى مع الفتيات ووالدتها وبقية النساء من الطبقة المخملية الذين تعجبوا وضع هذا الزفاف وبعد الاندماج في الأجواء نال الزفاف إعجابهم...
قالت إحدى السيدات:-
- حفلة الزفاف دي أول مرة أشوفها، بس تصدقي حلوة أووي وحاجة مختلفة..
أيدتها السيدة الأخرى:-
- فعلًا أنا أول مرة أحضر حاجة زي كدا، بس حقيقي لطيفة أووي والعروسة رقيقة وما شاء الله عليها ... يا زين ما أختار يعقوب بدران..
بس الغريب فين لبيبة هانم مختفية خالص..
- وأنا بردوه بدور عليها ومظهرتش لغاية دلوقتي..
كانت رِفقة وأصدقاءها يتراقصون بسعادة على الدفوف، لكن كان هناك حزن يُعبئ قلب رِفقة وبين الحين والآخر تبحث عنها بجميع الوجوه..
انسحبت من بين الفتيات وجلست شاردة بحزن، نظرت لباقة الزهور التي بين يديها والتي جلبها لها يعقوب...
جميع الوعود التي قطعها لها يفي بها، لكن لماذا هذا الوعد لم يصدق به...!!
رفعت رأسها لتتوقف أعينها فوقها ... فوق من ترقبتها في هذا الشهر كل دقيقة..
لبيبة بدران تدلف من الباب بثقتها وشموخها المعهودة وطلتها الراقية المُميزة...
استقامت رِفقة بصدمة وظلت تفتح أعينها وتغلقها وهي تتأكد أنها ليست بأحد أحلامها، اقتربت منها وأعينها مثبتة عليها بينما لبيبة تنظر لها بثبات...
توسعت إبتسامة رِفقة وابتهج قلبها ثم رفعت طرف فستانها وقطعت الخطوات التي تفصلهم بركض وارتمت بأحضان لبيبة تحت دهشة الجميع، كانت تلف ذراعيها حولها تحتضنها بحب وصدق وتلهف واشتياق كان واضحًا في عناقها الحنون لأبعد الحدود، تتمنى أن لو تستطع إزالة كل ذرة ألم بداخلها، تتمنى أن لو كانت تستطيع محو جميع الذكريات السيئة والندوب..
لبيبة بطبيعتها المغلقة مشتهرة بها بين الجميع ولا أحد تجرأ يومًا إختراق حواجزها..
همست رِفقة لها بسعادة تنبض بها حروفها وغصة باكية:-
- أخيرًا رجعتي..
وفي مشهد يدوّن ويُحتفظ به للأبد جعل الجميع يشاهد بترقب...
ارتفع ذراعي لبيبة وحاوطت بهم رِفقة بحنان ليرتفع تصفيق الجميع وابتسم يعقوب الذي يقف خلف لبيبة...
وهنا ..... قد خــــنــع الــــــــقلـــب المـــــــــتكبر لِــــــــعـــــــــميــــــاء...
________بقلم/سارة نيل_______
- معقول يا يعقوب، أخدتني من المطار للطيارة وإنت مغمي عيني ومش عارفة إحنا رايحين فين، وكمان بتحط السماعات في ودني..
يا ترى أيه المفاجأة دي...
ابتسم وهو ينظر للطريق أمامه ثم قال:-
- هانت يا رِفقة ...باقي القليل بس..
ساعدها في الترجل من السيارة وحاوطها وهما يسيران نحو الداخل وقد فهم المحيطين بهم ما ينتوي فعله فابتسموا له بسعادة ودعم وهم يترقبون ردة فعلها..
اخترقت أسماع رِفقة بعض الأصوات لينمو الشك بداخلها، وارتعش داخلها وهي تشعر بالسكينة تغزوها..
وقف يعقوب خلفها بعد وصولهم أخيرًا إلى وجهتهم، قال لها بسعادة:-
- مستعدة..
لقد شعر قلبها، لقد أصابه قشعريرة تتمناها عمرًا كاملًا...
سحب قطعة القماش من فوق أعينها لينقشع أمامها ساحة الحرم المكي وأمامها مباشرة بيت الله الحرام...
ظلت أعين رِفقة مثبتة تنظر أمامها بأعين متوسعة وجسد أضحى يرتعش بوضوح، ليُصيب القلق والتوجس قلب يعقوب من ردة فعلها، فهو قد توقع كل شيء فيما عدا ردة الفعل هذه..
همس بخوف:-
- رِفقة .. رِفقة..
سقطت رِفقة على ركبتيها وانفجرت في بكاء شديد وأعينها لم تتحرك من أمامها، قالت بعدم ترابط بصوت متشنج وهي تشعر بقلبها يكاد أن يغادر صدرها:-
- قلبي يا يعقوب ... قلبي حساه إن هيقف...
هيطير مني ...حاسه إنه هيطر .. أنا حسيت والله..
انحنت ساجدة وهي تقول ببكاء حار:-
- شكرًا يارب ... شكرًا يارب اللهم لك الحمد حتى ترضى ... أقولك حاجة يارب أنا بقيت مش عارفة أقول أيه .. أنت حنان أووي يارب حنان ومنان...
جلس يعقوب بجانبها ثم قال بود:-
- إنتِ قولتيلي مرة إنك نفسك ترجعي تشوفي أووي علشان هي وحشتك أووي ونفسك تشوفيها..
فحبيت أول مرة تشوفيها تبقى بشكل مباشر وفي الحقيقة مش من خلال الشاشة..
نظرت له بعجز ولم يكن منها ألا أن نظرت للسماء وتكون أولى دعواها في هذه البقعة المباركة:-
- يارب أرضى عن يعقوب .. أرضى عنه وارزقه خير الدنيا والآخرة .. واستعمله فيما يرضيك..
_______بقلم/سارة نيل_______
بقصر آل بدران بيوم الجمعة عصرًا، حول مائدة الغداء العريقة، يجلس الجميع في جو مليء بالمودة والأُلفة وعلى رأس المائدة لبيبة بدران، وبالجهة اليسرى يجلس يعقوب وبجانبه زوجته رِفقة ومن الجهة اليمنى يجلس حُسين بدران وبجانبه زوجته فاتن وبجانبها يامن..
وبجانب رِفقة تجلس والدتها نرجس...
نطقت نرجس بسخط:-
- أبوك اتأخر يا رِفقة .. كان لازم يعني يعمل إللي عمله ويتنازل عن المحضر، هي تستاهل العقاب، راح اتنازل عن المحضر وخبى عني الفترة دي كلها...
احتوت رِفقة كف والدتها ثم قالت:-
- يا ماما هي تستاهل العقاب، بس أظن مفيش أسوء من إللي حصلها اتعاقبت في ولادها ودا أصعب عقاب..
راجح محدش يعرف عنه حاجة وحالة شيرين وأمل صعبة وهما محتاجينها يا ماما..
وبعدين الرسول علمنا العفو عند المقدرة وإنتِ علمتيني كدا، عارفة إن في حاجات بتسيب جوانا أثر صعب وبيبقى صعب إننا نسامح ونعفو، بس عقاب ربنا بيبقى عادل أووي يا ماما..
ونفتكر إللي بيسامح وبيغفر بيبقى عند ربنا من المحسنين، والقرآن مليان بالأيات إللي بتحثنا على العفو..
مش ربنا قال...
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
وقال كمان..
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
وكمان قال..
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
وكتير أووي يا ماما، خلينا نغفر ونسامح زي ما نحب إن ربنا يغفر لنا ويسامحنا وعلشان مع مرور الوقت قلبنا مش يتملى حقد وغلّ...
نظر لها يعقوب بفخر بينما رددت والدتها بإدراك:-
- ونعم بالله يا بنتي، ربنا يزيدك يا رِفقة..
تنحنحت لبيبة ثم مدت يدها بظرف ليعقوب ورِفقة قائلة:-
- دي هدية جوازكم..
ابتسمت رِفقة بحماس وهي تفتح الظرف بينما تقول:-
- يا ترى أيه المفاجأة يا بيبا يا قمر إنتِ..!!
هتفت لبيبة قبل أن ترتشف الماء:-
- بطلي بكش يا هانم وأسئلة إجابتها في إيدك..
وفور أن فتحت الظرف وشاهدت ما بداخله صاحت بحماس:-
- دا بجد..
ابتسم يعقوب وهو يرى رحلة إلى جُزر المالديف بإحدى الشواطئ الخاصة..
قفزت رِفقة من مقعدها ثم أخذت تحتضن لبيبة الجالسة على المقعد من الخلف وقبلتها من وجنتيها بسعادة وهي تقول بأعين فرِحة:-
- إنتِ عارفة إن بعشق البحر ونفسي أشوفه بعد السنين دي كلها وبالذات الرملة البيضا..
إنتِ أحسن بيبا في الدنيا أصلًا..
وانحنت تقبل يديها باحترام وحب لتزجرها لبيبة بلطف بينما داخلها يرفرف سعادة لرؤية السعادة بأعينها ورؤية الجميع يلتفون من حولها..
- بطلي بكش بقاا يا بت إنتِ..
قالت رِفقة بمرح:-
- أوب يلا بينا على المالديف...
استقام يعقوب واقترب من جدته التي خشت بداخلها أن يرفض هذه الرحلة، لكنه انحنى يقبل كفها ثم رأسها وقال بشكر:-
- شكرًا يا أمي .. ربنا يخليكِ ليا..
هذه الثلاث أحرف من يعقوب يمثلوا لها العالم أجمع ... "أمي"..
انتصبت وربتت على كتفه بحنان فاقترب هو يحتضنها بعرفان وحب، فمهما حدث أحضانها له شيء أخر ... فتبقى هي الأم التي قامت بتربية يعقوب بدران...
احتوته تربت على ظهره بحنان وابتسمت إبتسامة راضية...
اقترب يامن يقول بغضب مصطنع وهو يقترب منها:-
- أنا عارف إنك حقك تحبي يعقوب باشا أكتر مني دا طبيعي .. دا تربية إيدك..
بس أنا ليا الحق إن أحضنك أنا كمان...
ابتمست له واحتوته داخل أحضانها هو الأخر ليقول:-
- مش كدا آن الأوان أتجوز البت غدغوده بقاا، هتروحي معايا نحدد الفرح ونتجوز بعد ما يعقوب يجي من شهر العسل..
بصراحة أنا صُبورت كتير أووي لبيبة هانم...
اختلطت الضحكات السعيدة المرحة التي خففت من أوجاع الماضي التي تملأ لبيبة...
بعد مرور ثلاث ساعات وبعدما انصرف الجميع، اقتربت مساعدة لبيبة تخبرها بإحترام:-
- لبيبة هانم في شخص طالب يقابلك، الشخص بتاع كل شهر..
رفعت رأسها وقالت بغضب:-
- مش أنا قولت محدش يدخله تاني..
- يا هانم هو برا منتظر في الحديقة ولما رفضنا بيبكي...
انتصبت بوقفتها ثم سارت بشموخ ورِفعة حتى وقفت أمام هذا الجالس على مقعد متحرك، رمقته بقسوة بينما طالعها هو برجاء مرتجي الغفران الذي يعجز عن التفوه به لعجزه عن الحديث بالإضافة إلى الحركة والسمع...
فقط أعينه من ينظر بها...
وماذا ظننت يا صاح، فإن الجزاء من جنس العمل..
إنه بلال المرشدي صاحب لغة الإشارة..
وبجانبه ممرضة تساعده..
قالت الممرضة برجاء:-
- بقلنا سنين بنجيلك كل شهر يا لبيبة هانم، وحالته بقت صعبة جدًا وطالب منك العفو والسماح..
كان. ينظر للبيبة برجاء ذكرها بنظراتها بالماضي البعيد، رمقته بجمود بينما يمد يده لها بهذه الورقة بكل مرة المكتوب بها ما حدث لهم بعدما تركوها..
ففور أن أخذوا المال قاد السيارة يتلاعب بها على الطريق بسعادة وهو يضحكون بسعادة لتنقطع ضحكاتهم فور أن نزلت العدالة الربانية لتأتي شاحنة ضخمة وتصتدم بها السيارة بقسوة ثم أخذت تدور على الطريق عدة مرات حتى سقطت من فوق منحدر مرتفع، فارق الجميع الحياة وبقى هو يتذوق الويلات مع هذه الإعاقات المريرة طوال هذه السنوات، كان الموت حينها له رحمة لم يتذوقها وحُرم منها..
استدارت ليهمهم لها بلهفة وجنون ونظرات يتدفق منها الندم