حبيبة

19 0 0
                                    

حبيبة
قصة قصيرة
بقلمي ..

جلست حبيبة في ظهيرة يوم مشمس على التخت في غرفتها تقابل انيستها المرآة بعد ان انتهت للتو من الاستحمام .
نزعت المنشفة عن شعرها الاسود الطويل وراحت صاحبة الثمانية عشر ربيعاً تسرح بخيالها المثقل بالكوابيس وهي تنتظر قدوم زوجها الخمسيني الذي ارتبط بها منذ ايام معدودات ..

لملمت شعرها المبلول وربطته بقارصة ثم قامت من على التخت تسير بخطوات يائسة متجهة الى سريرها ومجردة من كل عاطفة كأنها انسان آلي .

كان ثوبها الحريري وهي تمشي كأنه نسمة من نسمات الصيف الندية الذي اضاف انوثة وجمالاً على جسدها الوردي الممشوق .
وما زاده فتنة ..
نهديها الكاعبين الذين بانت ملامحهما من خلف ذلك الثوب الخفيف .
وفجوة بين الفخذين تزاحم من خلالها شعاع الشمس النافذ من زجاج الشباك فبدى كانه وهج يتلألأ بين ساقيها الطويلتين .

افردت جسدها على السرير واضعةً رأسها على الوسادة .
بدأت تلاعب باناملها ذؤابات شعرها المنسدل .
تذكرت بألم حديث امها بالامس القريب وقلبها بدأ ينفض بالحسرة وقد اغرورقت عينيها بالدموع .
تذكرت في تلك الليلة المشؤومة كيف ان امها عرضت عليها فكرة الزواج من احد ابناء عمومة ابيها والذي يكبرها بثلاثين سنة واكثر .

لقد استقبلت حبيبة هذا الحديث كأنه رصاصة اصابت قلبها الغض الصغير .
كانت تحلم كأي فتاة بفارس يأتيها من بين الضباب ممتطياً حصان ابيض له جناحين يخطفها ويحلق بها فوق السحاب .
لقد حاولت ان تقاتل من اجل احلامها الوردية بكل وسيلة لتنجو من الكابوس الذي طرق بابها فجأة .
ولكن القدر كان اقوى من كل امانيها .
في تلك الاثناء وهي تائهة في غابة القهر والالم واذا بها تسمع صوت زوجها يدخل الدار وقد لازمه السعال المستمر الذي انهك انفاسه بسبب كثرة السجاير التي يستهلكها كل يوم .

تدثرت حبيبة بشرشفها وعيونها مملوءة بالخوف .
نظرت اليه وهو يدخل من الباب وما زالت بقايا من ترنيمة سعاله المزمن تتردد بين جدران الغرفة .
طرح العباءة العربية عن كتفه ثم اماط الشماغ والعقال دفعة واحدة عن رأسه وخلع دشداشته البيضاء وترك سرواله الطويل مطروحاً على الارض ثم اتجه الى السرير .
رمى بنفسه على الفراش والتحف مع حبيبة .
راح يبحث عن وهج الشمس الذي كان يتلألأ بين ساقيها منذ قليل ليطفئه بدوامة من رائحة الدخان العفن والعرق المتخمر الذي عشعش بين طيات بدنه المترهل .

كانت حبيبة تكتم انفاسها لكي لا تلتقي بانفاسه الكريهة وتمني النفس في ان ينتهي من صولته بين شهيق لها وزفير .
تطالع وجهه ببلادة قاتله بين الحين والاخر فيبرز لها منخريه وشاربيه المملوئين بالشعر الابيض المائل للصفرة من اثر الدخان ، فتشيح بوجهها عنه وهي تكتم قيأها وتخنقه .

ما هي الا دقائق حتى استفرغ غريزته وازاح بدنه عنها ليستلقي الى جانبها .
تناول علبة الدخان ليأخذ منها سيجارة ثم يولعها ليرتاح قليلاً .

ادارت حبيبة بوجهها الى الناحية الاخرى وهي تلملم شتات نفسها ومشاعرها التي تبعثرت كشظايا الزجاج المكسور .

ما ان انتهى من سيجارته حتى كان ذلك الزوج الخمسيني فاغراً فاه يغط في نوم عميق ، وصوت الشخير يتردد صداه على مسامع حبيبة التي كانت لا تزال تائهة في غابة القهر والالم .
وجد الكحل الاسود الذي اختلط بالدمع طريقاً له ليستقر على وسادتها .

سمعت في هذه الاثناء طرقاً على باب الدار .
قامت حبيبة من فراشها شاحبة اللون ، مسحت دموعها وارتدت ثيابها على وجه السرعة وخرجت لتعرف من الطارق .
عرفت ان القادم هو ابيها الذي جاء ليبارك لابن عمه وليطمئن على ان سلعته التي وهبها له بالامس القريب قد كانت على خير ما يرام .
استقبلته حبيبة وقبلت يده ببعض البرود .
دخل بزيه العربي متكئاً على عكازه الخشبي يجر نفسه جراً وقد تقوس ظهره بفعل العمر والمرض .

اجلسته حبيبة في غرفة الضيوف ثم ذهبت الى زوجها الذي كان لا يزال مطروحاً على الفراش يغط في نومه العميق .
ندهت عليه مرة ومرتين حتى استفاق فأبلغته بقدوم ابيها وهو ينتظره في غرفة الضيوف .

قام الزوج من فراشه ليرتدي ثوبه فتركته حبيبة واتجهت الى المطبخ لتعد لهما الشاي .

سمعت حبيبة وهي لا تزال في المطبخ دربكة غريبة تأتيها من غرفة الضيوف .
تركت ابريق الشاي على النار وسارعت لتعرف ما ذلك الصوت الذي تناهى الى مسامعها .

دخلت الى غرفة الضيوف لتجد ان ابيها قد سقط على الارض وقد تبعثرت هيئته الوقورة في كل مكان .
رأته جاحظ العينين وقد تشنج واختنق فتجمدت يداه وهو يعتصر فراش الارض باصابعه التي خطها الزمن بتجاعيده القديمة .
لقد اصطبغ وجهه باللون الازرق وخرج الزبد من فمه بوفرة .

كانت نظرات عينيه في تلك اللحظات غريبة .
راح يحدق في عيني حبيبة التي ظلت واقفة تنظر له ببلاهة ولم تحرك ساكناً .
كانت نظرات ابيها كأنها توحي بكلامٍ كثير ، نظرات تطلب من حبيبة الرحمة والغفران .

دخل زوجها الخمسيني عليهما الغرفة مرتبكاً وبسرعة حتى انه صدمها بكتفها دون ان يدري فاختلت حبيبة بوقفتها قليلاً من اثر الصدمة ثم عادت لتستقر في مكانها وهي جامدة ، بليدة خالية من اي مشاعر .

اخذ زوجها يصرخ باكياً وهو يحتضن ابن عمه
حاول ان يعيده الى الحياة بكل طريقة ممكنة .
وجد ان الوقت يداهمه وابن عمه لم تتحسن حالته .
غادر الدار مسرعاً ليطلب الاسعاف .
كانت حبيبة لا تزال ممسكة بنظرات ابيها المكسورة المملوءة بالرجاء وطلب الرحمة وهي صامتة كأن مشاعرها وضعت في ثلاجة .
بقيت تنظر اليه وكأنها تقول له ( تجرع من نفس الكاس الذي اشرب منه كل يوم )
كانت تراقب ابيها وهو يحتضر في لحظاته الاخيرة .
كانت حبيبة مصرة ان لا تمنحه تلك الفرصة فجاهدت ان تبقي عيونها ممسكة بتلك النظرة المكسورة وهو على فراش الموت .
سمعت حبيبة شخرة الموت اخيراً تصدر منه فايقنت لحظتها انه قد فارق الحياة .
عادت حبيبة الى المطبخ ببرود لتطفأ النار عن ابريق الشاي .
خارت قواها لتسقط على الارض وتنفجر باكية ثم تصرخ بعلو صوتها لتهرب من غابة القهر والالم .

🎉 لقد انتهيت من قراءة حبيبة 🎉
حبيبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن