تبدين اجمل.. بلا احمر الشفاه..
_ انتابتني الدهشة حينما اخبربتني ياسمين، و هذا ما احضرني الآن بهذا الوقت المبكر..
_ من الجيد إن فضولك تركك لتنام الليل !
.. ضرغام ساخرا، بينما يضحك علي.. سرعان من خفتت ضحكته يطالع وجه ابن عمه و قد طاله العبوس.. تنهد مربتا على رجل الرجل القعيد مواسيا..
_ ستحل كل الأمور بأذن الله، لا تقلق يا ضرغام..
.. تنهيدة طويلة مرافقة لشرود صاحبها، مفضفضا ضرغام..
_ ابني تأذى كثيرا.. و أنا اكثر من أذيته.. لقد حسمت كل الأمور بما يقابل رؤيتي و اقتناعي أنا آنذاك.. بمنتهى الانانية و الاجحاف كنت انحر السعادة من قلب ابن قلبي ! آه يا علي.. ليتني أستطيع ارجاع الزمان..
.. ترنحت دمعات الأب الندمان فوق اهدابه يتابعه علي متألما على حاله لا حيلة في يديه للتخفيف أو التهوين.. جزء كبير منه يلوم ضرغام على اخفائه عن وحيده أمرا، لو كان صريحا به لقلص اميالا من الوجع تغذى منها فارس حتى تخم.. و بنى عليها عالما مظلما يسوده الغضب، و الوحدة.. يفهم علي جيدا أن الآوان قد آن الآن ليفتح ضرغام بعض الجراح إن اراد مداواتها من عمق الجذور.. ستترك بثرة بارزة اكيد في كيان ابنه، لكنها قطعا تقل بشاعة عن شق السكين المتقرح المحفور في روح ذات الابن.. لكن الأمر الاغرب، لم الآن ؟ لماذا انتظر ضرغام كل تلك السنوات ليقرب بين الاخوة، و ربما لاحقا الأم ؟ ماذا استجد ؟ و كأن ضرغام كان يقراء تعابير الحيرة على ملامح علي المقاومة لتقدم العمر فأوضح مجيبا على تساؤلاته الذهنية..
_ لم يعد لي الكثير من الوقت.. لن أعيش بقدر ما عشت، عللي خلال أواخر أيامي أصوب الأمور..
.. طأطأ الأب رأسه يضيف في ألم..
_ و أنا أجبن من كشف المستور.. تفرعنت بما مضى متسلحا بسلطتي، لم اشئ أن اخسر، لم اشئ ان ارخي كبريائي.. و الآن بعد ما فنيت صحتي و تلاشت سلطتي، هلك كبريائي.. لكنني لن ادع فرحة ابني تهلك معي، و لن اسمح لشرور نفسي بسحبه إلى حفرة الظلام أكثر.. كنت خائفا و لازلت..
.. تقدم علي بجذعه منه مهادنا..
_ لك عذرك يا ضرغام، لقد كان لك عذرك.. لم تشئ أن تخسر ابنك فيما لو عرف، يكفيه خسارة واحدة.. مالذي تغير الآن بعد كل ما مضى ؟ ألا تجد أن الآن اكثر وجعا سيكون على قلبه ؟
_ اخبرتك اني جبنت.. خفت و لا زلت خائفا و لن اجازف بأخباره ماحدث ! ستموت الحقيقة معي يا علي.. لكن..
.. هدر سريعا بأنفعال.. ثم ابتسم يردف لامع العينين..
_ لكنني احاول التصويب، بفضل ياسمين..
.. رمش علي بغير فهم و قد تاه منه القصد.. فأستفاض العجوز متهلل الاسارير تتسارع دموعه تسقي تجاعيده تصب بين تشابك لحيته البيضاء..
_ اقتناع فارس بالزواج كان بارقة امل دعتني لأستئناف ماعزمت.. منذ أعوام طويلة و أنا أحاول جمع الاخوة لكن دون فائدة.. في كل مرة كان فارس يترك البيت و يرحل، إلى أن قطع ارجلهم من هنا.. اما الزواج فقد كان قطعيا لا مجال لأناقشه فيه.. مارس علي دكتاتوريته في كيلا الامرين.. إلى ان اعتنق واحد، فبات الثاني اسهل خصوصا اني الاحظ جيدا مدى انسجامه و راحته مع ياسمين.. ياسمين جعلت ابني يبتسم ياعلي ! ياسمين وحدها ارغمت تصلب وجهه على التنحي بعيدا.. رأيت بعيني ابتسامته حينما كان خلف شباك مكتبه يراقب فرارها من النحلات لما كنا نعتني بحديقة الورود أنا و هي.. كاد قلبي يتوقف فرحا يا علي، كنت سأكون الأوحد بين البشر من يموت بسكتة قلبية من كثر السعادة ! أنها تؤثر عليه، تترك فيه نفحة عطرية من اسمها و تعالج جروحه بوجودها الخفيف و لطفها الكبير.. حتى مسألة الإنجاب ستحل قريباً صدقني ! اؤوكد لك ان العام القادم سيكون حفيدي في حضني !
.. بمنتهى الابتهاج استرسل ضرغام يحكي و يتأمل.. و بقدر المستطاع دار علي عن عيني الآخر الحمراوين ذات الدموع احباطه و شفقته.. يرى تأثير وجود ياسمين على فارس هو الآخر لكنه لا يريد تعلية سقف تأملاته، فربما كل ما يفعله فارس تأدية للوعد ليس إلا.. لا يريد الوثوب في قطار الامنيات لكي لا يبعد عن محطة الواقع.. كسر قلبه حقا يقين ضرغام، ليتربط اكثر الآن بحبال العجز أمام ابن عمه و في قلبه وخز قلق من ما سيجلبه القادم من الأيام..
ابتسم بمرارة يجاري تطلعات الأب لغد مجهول المعالم، حتى استدار الرجلان على صوت يوحي بمدى نشاط و حصة صاحبه..
_ صباح الخير أيها العجوز.. اهلا، أنا يزن..
.. فتح علي عينيه غير مصدق أن من أمامه يزن.. استقام من مكانه بهدوء مبتسم بأنذهال يوزع نظره المتعجب على طول الشاب الفارع و هيئته الرشيقة.. التقط يده يرد المصافحة بعد أن قدم له الشاب نفسه بمنتهى الرجولة و الاحترام.. استحلاه و فرح به مترحما على روح ابنه يتخيل لو كان موجودا في الدنيا لشعر بما يشعر به الآن نحو هذا الولد الذي كبر بسرعة.. ابتسم علي اكثر قائلا بدفئ لمس قلب يزن..
_ و أنا علي، ابن عم ضرغام.. ما أحلاك يا يزن.. تسرني رؤيتك..
.. تأمله يزن قليلا لم يجد تفسيرا لتجمع الدموع في عيني الرجل الغريب الذي ما أن رآه يجلس مع الاب ضرغام في الحديقة حتى أسرع اليهم ليتعرف عليه.. لم تخرج صورته بالأمس و هو يحتضن ياسمين بمنتهى الحنان مواسيا، و الان هذه الدموع التي فطرت قلبه..
قاطع شرود الأثنين ببعضهما البعض صوت ضرغام السعيد..
_ اسعد الله صباحك عزيزي.. كنت تتمرن ؟
.. التفت له يزن منهيا ذلك التواصل البصري المحير، بينما يجلس على الكرسي بأرتخاء مجيبا بطريقته المحببة..
_ لقد خرجت للجري، ثم قاطعت طريقي فتاة شقراء ارغمتني على الانضمام لها !
.. يحرك حاجبيه بشقاوة جعل ضرغام يطلق قهقهات اطارت العصافير من فوق الاشجار التي حولهم ! مع ازدياد اعجاب علي بهذا اليزن و الذي يتمنى لو يتقبل فارس وجوده الجميل.. ليس بمنعطف الحديث بالتأكيد، إنما بخفة دمه و حضوره الخفيف.. ثم خرج صوت يزن ثانية راغبا بفتح حوار مع الرجل الغريب، أو الطيب كما احس من داخله..
_ حسناً، سيد علي.. أكنت تجري انت أيضا ؟ اراك مرتديا طقما رياضيا..
.. ابتسم و رد وهو يربت فوق كرشه البارز قليلا..
_ أنا فقط امشي، لتزول هذه الدهون.. لا أتذكر متى تكدست بهذا الشكل المنفر.. نمت و استيقظت لأرى طبقة مدورة ملتصقة فوق معدتي !
_ الدهون لا تخلق لوحدها.. نحن نصنعها بنمط تغذيتنا و حياتنا الغير منظم.. يمكنني أن اعين لك جدولا غذائيا و تمارين مناسبة لوقتك و نوعية جسمك لو أردت..
.. وقبل أن يجيب علي بالقبول على العرض، هتف ضرغام بحماس..
_ سيكون هذا رائعا ! و ليكن علي أول زبون في المركز الرياضي الذي تنوي تنشئته هنا..
.. نظر نحو علي يردف بنفس الحماس.. كأنه يريد أن يقنع من حوله و يكرر ليسمع نفسه ليعزز وجود يزين و يرغم فارس بتقبل الأمر الواقع..
_ لدى يزن مشروع ممتاز، يناسب تخصصه و رأيت انه يمكنه استغلال الأرض الغربية فبكل الأحوال المزرعة مهملة، لا فارس و لا أنا لنا في شؤونها.. لذا اقترحت عليه أن يجلس مع فارس ليضعا خطة لأستثمار الأرض..
.. ثم لف رأسه سريعا ناحية يزن يحثه على شرح فكرته، فتبسم يزن و اعتدل يدلي بوضوح صوته المميز..
_ اجل، هذه هي فكرتي كما قال تماما العم ضرغام الآن.. و اضيف، انه لن يكون مركزا صحيا و رياضيا نمطيا فحسب، بل سنقيم اسطبلا للخيول للتعليم، و تخصيص مكان لتشيد حوض سباحة داخلي.. تفحصت بالأمس المساحة، فتحمست اكثر لأمضي قدما بالفكرة.. سأوظف مدربين متخصصين لتعليم ارتياد الخيل، و ربما أيضا سننظم مسابقات ميدانية بكل الرياضات المتاحة في مركزنا..
.. استطرد ضاحكا بينما يعود متكئا على الكرسي..
_ كل ما قلناه مجرد هراء اذا لن يصادق السيد مستبد على الفكرة !
.. تحت ضحكات علي المتسلية، اعترض ضرغام يمثل الجدية..
_ تأدب يا ولد ! تحدث بأدب عن اخيك الكبير..
.. يزن متهكما وهو يرمقه بطرف عينيه، مع تصاعد ضحكات علي..
_ حقا !! لست مقنعا بدور الصرامة أيها العجوز !
.. ليتحفز سمعه و جسده و ذلك النابض على يساره حين زقزق صوت آخر يوازي جمال بداية الصباح، مقاطعا ضحكاتهم المستمتعة..
_ صباح الخير عمي ضرغام.. صباح الخير عمي علي..
.. و ببسمة و همسه رقيقة اغاضته جدا تطالعه بأستحياء صبحت عليه دون أن تضع قبلة على خده هو الآخر كما فعلت مع هذين العمين المبتسمين أمامه ! رفع عينيه لها يرمقها معاتبا كطفل صغير تجاهلته أمه.. يستمع لصوتها الناعم تجيب علي المستغرب استيقاظها بهذا الوقت المبكر جدا من الصباح..
_ أنا اصحو كل يوم بهذا الوقت يا عمي، لأوفر ساعة نوم إضافية لأمي.. و اساعدها بتحضيرات الأفطار و ماشابه..
.. رفع حاجبيه محتفلا فهذه المعلومة الرائعة لن تمر دون أن يستخدمها هو لصالحه.. استأذن واقفا من العمين و سار خلف الكتكوتة تمشي نظراته الوقحة على تقاسيم ظهرها المكتنز حتى وصل إليها لينحني برأسه بجانب أذنها هامسا بغيض تقصد أن يكون ظاهرا..
_ هل انت معتادة على توزيع قبلاتك على الخدود هكذا كل صباح ؟!!
.. و استمر بمشيته المتبخترة يتجاوزها إلى الداخل تاركا اياها متسمرة مكانها تحدق بأثره بفم مفتوح..
YOU ARE READING
بارقة امل
Contoفوق أرض جرداء تخطو، متشققة ارجلها .. لاهثة النفس عطشى الروح .. ياسمين، كرونق اسمها هي .. تصبو لتحقيق السعادة و العدل لمن حولها، تشع بالحب من تحت اكداس القهر .. عند محطة اليأس، ظهر هو .. فارس .. بمعدنه و اسمه .. من محرقة الماضي نهض، نافضا عنه رماد ال...