ترك القيادة لقدميه تنقله إلى حيث تشاء. هذه الاستراحة والمساحة التي مُنِحت له على حين غرة أربكته وأخلَّت بنظامه، يشعر أنَّه تائه سُلِبت منه الخيارات ووُضِع في مواجهة بقية اليوم دون إعداد مسبق.
تحسس بأنامله الورقة ذات القيمة الكبيرة المخبأة في جيبه ثُمَّ شدد قبضته عليها، رغم صعوبة الأمر وشعور الفراغ الفظيع الذي ملأه سيَفي بوعده. لن يعود إلى السوق ولن يعمل هذا اليوم، قد أعطى كلمة لذلك الشاب الطيب وسيلتزم بها، إلَّا أنه لا يعرف طريقة أخرى لإمضاء الوقت.
توقف هنيهة حين وجد نفسه على أطراف السوق على بعد خطوات من الحشد، لقد حفظت قدماه الطريق وقادتاه دون إدراك منه. شعر بوخزة ذنب في صدره وهو يخطو لينخرط بين الناس، قد أضحى السوق - ويا للأسف - جلَّ حياته، هذه الساحة أرضه والناس جماعته وحدود المكان جدران منزله وليس قادرًا على ترك منطقة راحته مجددًا.
زفر محررًا رئتيه من الضغط الذي كان يخضعهما له دون قصد وهو يُحاول أن يُصفِّي عقله من الضجيج الذي يعصفُ به ويجعله سارحًا هائمًا لا يُنصت لشيء سوى صوت أفكاره.
هذه المرة الثانية التي يرى فيها السوق بكامل طلته، يراه بعين متجول سائح لا يختلف عمَّن يغوص في أوساطهم، ليس فارسًا الحمَّال الآن، ولا من يسعى لرزقه بعرق جبينه. هل كان السوق بهذا الجمال دائمًا أم زادته الغيوم المنتشرة في السماء بهاءً؟ لم يدرِ أنَّه سيختلف كثيرًا إن جاء له كضيف.
التقطت عيناه حدة نظرات أحد الباعة وحقده المتجلي في ملامحه؛ أشاح فارسٌ بوجهه فورًا وقد انقبض قلبه. لا لم يختلف، قد أوهم نفسه بما لا يمكن أن يحدث. انعطف وعيناه على أطراف حذائه هاربًا من شرارات ذلك البائع التي أحرقته، سار مطأطئ الرأس لمسافة يسيرة وأبصر من بين العربات حصيرة فُرِشَت على الأرض وَوُزِع فوقها ملابس بمقاسات عدَّة.
توقفت قدماه عند طرفها وأخذ ينظر للبضاعة بافتتان، لقد نسي حاجته إلى ملابس جديدة تقيه تقلبات الجو غير المنتظم وتُدفِئه في ليالي البرد المتفاوتة. جلس القرفصاء قربها وعيناه تتنقل بين الأنواع بتركيز ويداه تختبر جودة أقمشتهم ومدى متانتها، عليه أن يختار شيئًا يصمد أمام ما يقاسيه كل يوم ولا يهترئ بسهولة فهو لن يتمكن من التجديد كلما أراد ذلك، غير أنَّه ليس ملمًا بجودة الأقمشة كي يتخيَّر منها.
كوَّر شفتيه مفكرًا وقد توقفت يداه عن التفحص قليلًا فيما استمرت عيناه في عملها، أمسك بطقم بنيٍ محمر بسيط المظهر، استشعر بيده مدى سماكته حتى يتأكد أنَّه مناسب لهذا الجو ثُمَّ بسطه كي يلقي عليه نظرة شاملة. كأنه طقمٌ رياضي ويذكره نوعًا ما بملابس النوم لكنَّه يراه مناسبًا.
سأل كبير السن الذي يجلس على مقعد بلاستيكيٍ قرب الحصيرة وهو يمسك بالطقم:
- كم سعر هذه يا عم؟