الفصل الخامس

4 0 0
                                    

قلب يخفق ، وعقل يرفض.. بينهما تمضي الحياة في صراع طويل ، ينتهي أو لا ينتهي.. الوقت فقط يمكنه أن يحدد ذلك...
..
في اسوان.. قبل بزوغ الفجر بلحظات كان جلال عامر يسير ضاحكاً مع طارق وحينما رأي عزت على مرمى بصره اختفت ابتسامته وتحولت ملامحه إلى الجدية التامة قائلا :
_ يبدو أن عزت قد جهز كل شيء..
نظر طارق إلى عزت المنتظر على بعد مترات منهم :
_ تارة يعجبني حماس هذا الرجل.. وتارة يقلقني..
قال جلال عامر دون أن يلتقفت إليه :
_ لا تقلق يا رجل.. كل شيء مخطط له بدقة..
تقدم جلال عامر ليسلم على عزت بجدية قائلا :
_ أتمنى أن يكون كل شيء على ما يرام..
قال عزت وهو يشدَّ على يده :
_ ليس عليك أن تتمنى بعد الآن يا سيدي.. كل شيء جاهز..
فترك جلال عامر يده بابتسامة واسعة :
_ إذاً أرنا " المطلوب "
بادله الآخر ابتسامته، ثم تقدمهم وظلوا يعرجون في طرقات متعرجة في باطن الجبل وكان أول خيط من ضوء الفجر قد ظهر حينما دخل مع عزت ذلك الرجل العجوز في سرداب ضيق، توغلوا بداخله وكلما تقدموا أكثر.. كلما أخذهم السرداب إلى طرق منحوتة بين الصخور ومسندة بأخشاب متينة من الأربع اتجاهات؛ حتى لا يتدمر المكان فوق رؤسهم، وصلوا إلى آخر الطريق المحفور في باطن الأرض وتوقف عزت حينما رأى العمال الذين وافقوا على العمل معهم مقابل مبلغ لا بأس به، أسرع العمال ومعهم العجوز - الذي يُعد رئيسهم في هذا العمل - وأحضروا مشاعل لتضيء لهم المكان، فأطفأ عزت وميض الكشاف الذي كان قد استخدمه للإنارة، ثم تقدم داخلاً مكان أوسع قليلاً..
برقت عيني جلال عامر بالفرح والانبهار حينما رأي تلك التوابيت الفرعونية الخمسة التي يبرق ذهبها، يصل طول أحدهما حوالي متراً ونصف وعرضه نصف متر تقريباً محفور عليه رموز ورسوم فرعونية وأقنعة ذهبية، بجوار هذه التوابيت توجد أكثر من خمسة عشر تماثيل صغيرة على شكل قطط وملوك فرعونية بجسد إنسان ورأس حيوان وأدوات أثرية أخرى..
كان وجه طارق يكاد يصيح فرحاً وانبهاراً بما يراه، حينما قال عزت :
_ أظن أنني فعلت ما طلبته مني يا جلال بيك..
أجابه الرجل :
_ ممتاز.. ولكن دورك معنا لم ينتهِ بعد..
_ أعرف.. ولكل دور حقه..
قال ذلك وهو يفرك اصباعيه الإبهام والسبالة مشيراً إلى الأموال التي سيحصل عليها، فهم الرجل قصده؛ فقال بابتسامة غامضة :
_ لا تقلق.. حقك محفوظ يا نسيبي..
فابتسم، بينما قال طارق بعدم ارتياح :
_ الخطوة القادمة أخطر من السابق بكثير.. أمامنا طريق طويل محفوف بالألغام والحركة ستكون بحساب..
أجابه جلال :
_ معك حق.. ولكن في المقابل سنجد ما يكفينا وأكثر من الأموال.. والآن لنجهز أنفسنا للقادم..
                                      & & &
وقع الخبر كالصاعقة على الحاج " عبد المنعم " الذي هرع مسرعاً في أرجاء المشفى، يسأل الأطباء بخوف وجزع على ذلك " الآسر " حفيده الأصغر، وبعدما عرف انه لايزال بغرفة العمليات ظل واقفاً يضرب كف بكف ولا يقول سوى :
_ لطفك يا الله..!
جاءت إليه إحدى الممرضات وأخذت تهون عليه بالكلام، ثم دفعته ليجلس على إحدى المقاعد المواجهة للغرفة، فجلس وهو لايزال يردد تلك الجملة وعيناه معلقتين بالباب.. ووقتها جاء بباله ولده رضوان وزوجته المتوفيان منذ أعوام فأغلق عينيه، ثم قال وكأنه يخاطبهما أو يخاطب نفسه :
_ سيكون بخير.. سيكون بخير..
                                   & & &
أمام إحدى مكاتب مكافحة تهريب الآثار توقفت سيارة سوداء ذات فخامة مهيبة، نزل منها برشاقة وهو يرتدي جاكيته الأسمر.. يعشق ذلك اللون الذي يبرز جسده المفتول العضلات ويمنحه مزيجاً من القوة والهيبة..
أخذ سلاحه ووضعه في الجيب الموصول بحزامه، خطا باتجاه المبنى الكبير برشاقة وهدوء وصعد درجات السلم ليصل إلى الطابق الثاني، حينما رآه العسكري أدى التحية العسكرية له؛ فأشار له الشاب بنفس الطريقة الروتينية التي اعتادها منذ خمسة أعوام، دق باب مكتب اللواء " عبدالعزيز " ثم دخل ليرى رجلاً في العقد الخامس من عمره، ابتسم له الرجل ببشاشة وقال :
_ في ميعادك بالضبط يا خالد..
قال خالد بتهذيب وهو يقف بجوار المقعد المواجه لمكتب اللواء :
_ لقد طلبت مقابلتي سيادتك..
_ بالفعل يا سيادة المقدم.. اجلس..
جلس الشاب ناظراً له بعينيه الثاقبتين، قائلاً :
_ خيراً يا فندم؟..
_ لديك مهمة جديدة..
ابتسم خالد باهتمام وشغف فهو العاشق الأول لعمله، بينما ناوله الرجل ملف القضية وهو يتلو عليه بعض المعلومات التي تساعده في الضبط على المشتبه الأول والذي لم يكن أحداً غير جلال عامر الذي وُضعت الكثير من علامات الاستفهام حول أعماله..!
قال خالد وهو في يغلق الملف :
_ لا تقلق يا سيدي.. سأفعل الواجب..
_ المهمة ليست سهلة.. ولكنني أثق بكفائتك.. وأتمنى ألا تخيب ظني المووينظرونبك..
أومأ له بابتسامة قائلاً :
_ ان شاء الله يا سيدي..
ثم استأذن وخرج من المكتب باتجاه مكتبه ماسكاً في يده ملف قضيته الجديدة..
                                  & & &
في الاسكندرية بالتحديد في منطقة المنشية كان هناك العديد من الأطفال المتزاحمين حول أحد " الجزارين " وهو يجر " عجل " ضخم للذبيح وهم يهللون ويصيحون، ووسط صيحاتهم نادى الجزار على مساعده ليأخذ العجل إلى إحدى المنازل الخاصة لصاحب النذر ويقوم بربطه في الساحة من الأعلىاجهة لها إلى أن يتفاهم مع صاحب النذر على السعر، وبالفعل نفذ مساعده ما أُمر به ولكنه لم يربط العجل جيداً..
في هذا الوقت كان في الطابق الثاني فتاة شقراء ذات عشرة أعوام ومعها شقيقتها الأصغر ذات سبعة أعوام، يمرحن ويضحكن مع بنات جارهم الثري صاحب النذر إلى العجل الذي يرفس بأقدامه وينعر بصوت عالٍ...
وفي المنزل المواجه كانت تلك الجميلة ذات العيون الزرقاء المائلة إلى الرمادية والشعر الأشقر والقامة المتوسطة الطول، صاحبة العشرون عاماً تعد الطعام إلى والدها النائم على سريره وبعدما انتهت، اتجهت إليه لتوقظه قائلة بمرح :
_ سميير!.. سمير هيا استيقظ..
تململ الرجل في نومته، وقال :
_ دعيني أنام قليلا.. الله الله!..
_ ودوائك؟!
_ لا أريد أي أدوية.. لقد مللت..
ذمت شفتيها بخبث :
_ هكذا إذا !!.. والآن؟..
قامت بنكش قدميه من الأسفل؛ تعلم أنه يغار من هذه الحركة وبالفعل نهض " سمير حاتم " من رقدته بضحك وهو يبعد قدميه عنها :
_ كفى مشاغبة!.. اتركيني أنام بهدوء أيتها المجنونة!..
_ كفاك أنت يا سمير.. انهض لتأكل وتأخذ ادويتك..
_ حسناً يا فتاتي المجنونة.. ولكن ابتعدي عن قدمي..
_ أتغار يا أبي..؟!
قالتها بضحك وهي تقترب من قدميه مرة أخرى؛ فقال وهو ينهض من على السرير بتعب :
_ أنا ذاهب إلى الحمام..
ضحكت أكثر، تعلم أنه يتهرب منها فقالت :
_ حسناً.. لقد توقفت.. ولكن؟.. أين الفتاتين؟.. لقد كانا هنا!
_ لقد نزلا للعب مع أحفاد عمك " غالي" .. تعلمين اليوم " سبوع " حفيده الأصغر.. و كعادته سيذبح عجلاً..
_ نزلا مجدداً.. لقد بذلت جهداً لأمنعهما من النزول.. حلال عليك يا أبي..!
_ انهن صغيرات يا ابنتي.. فليمرحن قليلا..
_ ولكن لديهن واجبات منزلية.. أنا لا أريدهن أن يستهترن بالدراسة مثلي..وها أنا بالنهاية التحقت بكلية التجارة..
_ وما بها كلية التجارة!.. ليس المهم بمستوى الكلية بل المهم أن تنجحي بها وتصلي من خلالها إلى أعلى المراتب.. كما أنه ليس بيدكِ.. فترة تعب والدتكِ ووفاتها وتحملكِ مسؤولية المنزل.. كانت صعبة عليكِ وأنتِ بالثانوية العامة.. ولكن تعلمين يا ابنتي.. أنتِ زهرة عمري لن أتواني للحظة كي أحقق لكِ ما تريدينه.. إلى أن تنهي دراسات عليا بعد الجامعة ان شاء الله..
نظرت إليه بدموع، وقالت :
_ أنت أجمل أب في الدنيا..
ضم الرجل صغيرته بحنان :
_ وأنتِ أجمل ابنة وصديقة وأخت وأم في العالم كله.. أتدرين؟..أوقات تجعليني أشعر أنني ابنكِ وليس أنتِ..
قالها بضحك؛ فابتعدت عنه قائلة بمشاكسة :
_ أنت ابني فعلا وهن بناتي.. صحيح!.. سأنزل لأحضرهن.. لن أرحمهن..!
قالت جملتها الأخيرة بغيظ وهي ترتدي حجابها فوق العباءة السمراء بعجل ونزلت للبحث عنهن، بينما ضحك هو بشده على بناته المجنونات وأثناء ضحكه انتابته إحدى النغزات القوية التي تصيبه في قلبه مؤخراً فوضع يده بألم على قلبه وهو يذكرهن " زهرات عمره" الثلاثة، يخشى أن يأخذه الموت منهن كما فعل بوالدتهن ووقتها لا يدري إلى أين قد يصل بهن القدر، قال الرجل بخوف من المكتوب :
_ استرها يا الله..!
في الأسفل أخذت ليليان تبحث بعينيها عن شقيقاتيها يميناً ويساراً في ارجاء الحارة ، حتى وجدت أولاد صغار يلعبوا في ركن ويتفقوا على اللعبة سويا فاتجهت إليهم وسألتهم عنهن، أشار احد الصبيان إلى منزل جارهما واخبرها انهن بالأعلى ليرون العجل الذي سيذبح، نظرت ليليان إلى المنزل بغيظ واتجهت إليه، وأثناء سيرها رأت ذلك العجل يركض باتجاهها والجزار ومساعده يركضون خلفه، تسمرت مكانها في البداية من الصدمة ولكنها بعد ذلك ركضت أمامه والعجل يركض خلفها والجزار ومساعده خلفه..
صرخت ليليان بشدة وهي تركض في الشارع وكان صوت نعير العجل أعلى من صوتها مما أرعبها، رأت شيء معدني أشبه بالسلم وضعه عمال الغاز لتوصيل الغاز لإحدى المنازل في المنطقة ،
فصعدت عليه بسرعة حتى وصلت إلى مسافة عالية، نظرت إلى الأسفل لترى العجل ينظر إليها بتحدي وكأنه يقول " لن تفلتي مني "!؛ فنظرت إليه بتحدي هي الأخرى بعدما تأكدت انها في موضع آمن ثم قالت بسخرية وغيظ :
_ لِمَ توقفت؟!.. هيا اصعد ورائي!.. هذا ما كان ينقصني!!.. أن يطاردني عجل سخيف مثلك.. لقد جعلتني اركض مسافة لم اركضها طوال حياتي.. أيها اللئيم ألم ترى غيري؟!..
نعر العجل بصوت عال وكأنه يرد لها الشتيمة فصرخت بخوف وهي تقول :
_ يا إلهي!.. يا سمير أين أنت؟!.. ألا يوجد أحد هنا ليأخذه.. لم تقفون بعيداً.. ؟!
كانت تصرخ على الشباب والفتيات والعواجيز المارين بالشارع يضحكون من الأمر ، تماما كعادتهم هذه الأيام.. المشاهدة من بعيد والضحك دون تدخل أو يصبحون فلاسفة ويبدأون بتحليل اللقطة.. كان من المفترض أن يحدث هذا.. هو أو هي مخطئة .. من أكثر الاقاويل التي يمكنكم سماعها منهم أيضا دون تدخل ، ولقد أصبح الأمر مثيراً للإشمئزاز.. كأن يقوم الناس بتصوير المشاهد ونشرها على مواقع التواصل الإجتماعي ؛ لجمع التعليقات السخيفة والاعجابات.. مما يعطي مشهد من مشاهد" السخرية الواقعية " التي نراها بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي وهو ما يسمى
ب" الترند "..!
ظلت ليليان مكانها لعدة لحظات تصرخ و تلعن العجل بغيظ والناس بغيظ اكبر.. إلى أن جاء الجزار ومساعده وسحبوه للذبح فزفرت بارتياح وهي تنزل بحذر ، أتى إليها صوت ضحكات مكتومة فنظرت الي شقيقاتها وقد ضاقت حدقت عينيها قائلة :
_ علام الضحك؟!.. كل هذا بسببكن..
قالت نور :
_ آسفة اختي.. لكن منظرك كان مضحكا..
وافقتها كاميليا :
_ أجل مضحكا جداً..
ضحكن مرة أخرى فسحبتهن بغيظ إلى المنزل قائلة :
_ ألم يكن مضحكاً ؟!.. لن ترن الشارع بعد الآن.. هذا عقابكن..
ضحكن الصغار على شقيقتهما الكبرى الغاضبة وهن ينظرن إلى بعضهما البعض ، ليليان ذات القلب الحنون لن تعاقبنا كثيرا..!
هكذا كان تفكيرهن..
                                        & & &
رن هاتفها للمرة الثالثة من نفس الرقم المجهول.. كعادت أمينة لا ترد على أرقام غريبه ولكن يبدو وكأن صاحب هذا الرقم يصر لتفتح معه المكالمة لهذا فتحتها، ولم تستطع أن تخفي دهشتها حينما سمعت صوت رؤي على الجانب الآخر من المكالمة فقالت :
_ رؤي؟!
_ أجل عزيزتي هذه أنا.. هل ازعجتك؟
_ لا.. أبدا..
_ حسناً عزيزتي.. لقد أصر حبيبي حسن على دعوتكما على العشاء اليوم ..
اشمئزت أمينة من قولها كلمة حبيبي وتذكرت عندما رأتها تتودد لمراد بطريقة مخجلة، قالت :
_  اليوم؟!... ولكن..!
قاطعتها قائلة :
_ لا عزيزتي.. لا نريد أي أعذار..
_ الأمر ليس بيدي.. يجب أن استشير مراد قبل أن أرد عليكِ..
_ لقد أخبره حسن بالفعل.. ولكن حسن أصر علي ان اخبرك بنفسي..
_ وما رأي مراد.. ؟
سمعت تنهيدة رؤي النافذة الصبر قائلة :
_ قال انه سيعرض الأمر عليكِ..
شعرت أمينة بنوع من الرضا حينما سمعت ذلك ، فقالت :
_ حسناً.. سنرى إذا كان العشاء مناسب أم لا.. ثم سنخبركم بقرارنا..
بعدما أغلقت أمينة الخط قال حسن الجالس أمام رؤي في حديقة منزله :
_ ماذا أخبرتك؟
أشعلت رؤي السيجارة التي في فمها وتنفستها بغضب ثم أعادت عليه قول أمينة بازدراء وعصبيه :
_ سنرى ان كان العشاء مناسبا أم لا وبعدها سنرد عليكم.. أنا فقط أريد أن أفهم ما الذي أعجب مراد بتلك الفتاة السخيفة والتافهة..؟!
نظر إليها حسن يود لو يخبرها بأن الرجال الحمقى هم الذين لا يُعجبون بأمينة ولكنه بالنهاية قال ليرضيها :
_ مرآة الحب.. عمياء..
_اتمنى حقاً ان يوافقوا على تلك الدعوة.. لن أدع زواجهما يستمر.. مهما كلفني الأمر..
                                       & & &
كان خالد في طريقه إلى سيارته تفقد هاتفه وفتحه أخيراً، وجد مكالمات كثيرة من هاتف شقيقه وجده ؛ فتوقع ان يكون شقيقه قلق عليه خاصة أنهما كانا قد اتفقا على تناول الغداء سوياً ، اتصل على هاتف جده أولا احتراماً له وبعد لحظات جاء إليه صوت الرجل يخبره بأن شقيقه الأصغر في المشفى في غرفة العمليات إزاء ذلك الحادث اللعين ليسقط قلبه وعقله إلى الهاوية ثم قال بصوت بالكاد يُسمع.. :
_ أنا آت يا جدي..
أغلق الخط وقاد سيارته بسرعة إلى المشفى..
                                        & & &
كانا قد انتهيا من شراء حاجاتيهما ويسيران في الشارع ، ولا تزال ملك تسترسل بشكوتها لرباب التي كانت تنصت إليها بشغف ثم قالت :
_ اقسم أنك ظالمة.. لا يعجبك العجب.. الرجل يفعل ما بوسعه لرضائك وأنت موقف واحد قلبت الطاولة رأساً على عقب..
ذمت ملك شفتيها عابسة ثم قالت :
_ أنت أيضا يا رباب !؟.. ماذا كنت سأفعل؟.. أنت لم ترين تلك الفتاة وكيف كانت تتقرب منه في ذلك المطعم..؟
ضاقت عيني رباب وهي تتسائل :
_ هل هي جميلة..؟
قالت ملك بغيرة :
_ فاتنة..
_ وما كان رد فعله..؟
_ للحق كان يحاول إيقافها وتعامل معها بتهذيب .. ولكنها لا تستحي.. وآخر الأمر نظر لها بغضب وبأسلوبه وضح لها أن تتوقف عما تفعل..
_ إذاً العيب ليس منه بالطبع..ولا منها.. العيب منك انت يا غبية..
نظرت إليها ملك بعدم فهم؛ فقالت رباب بعصبية :
_ ان كانت هي لا تستحي فلم استحيت أنت؟! .. كان يجب أن تبعديها عنه.. أليس هو خطيبك؟!.. ألست تحبينه؟!..هو حقك أنت.. يجب ألا تدعي أية فتاة مثلها تحاول - ولو مجرد المحاولة - ان تتقرب منه.. هذا ان كان فعلا كما تقولين..
اومئت لها ملك بفهم وقالت :
_ معك حق..
رن هاتف رباب باسم أمينة، ففتحت المكالمة وفتحت مكبر الصوت قائلة :
_ اهلا يا عروس..
قالت ملك :
_ عيب عليكِ يا أمينة.. تهاتفين رباب ولا تهاتفيني..؟
قالت أمينة :
_ انتما معا.. دون علمي يا أوغاد.. ؟
اجابتها ملك :
_ كنا نشتري مستلزمات وثياب للجامعة.. ولكن لا تهربي من سؤالي..
_ وهل يعقل ان انساكِ يا مجنونة؟.. وأين هنا ؟!
قالت رباب بضحك :
_ لقد وكَّلت لها والدتها مهمة المطبخ وطهو الطعام.. لذا تركناها في تجربتها الأولى..
ضحكن للحظات قبل أن تقول أمينة :
_ المهم يا فتيات.. أريد أن أسألكم عن شيء..
اخبرتهما أمينة عن دعوة رؤي وحسن إلى العشاء، وقالت لهما أنها خائفة ان يحدث شيء تخشاه من تلك اللعينة، ولكنهما اخبراها بأن عليها الذهاب لتكون على دراية بكل ما يحدث، رأت ملك متجر ساعات فقالت لهما انها سترى الساعة التي تريدها وبقيت رباب بالخارج تقول :
_ وما اخبارك مع مراد؟
_ عادية.. على الأقل لم نعد نتشاجر.. ولم اعد استثقل وجوده معي في نفس الغرفة.. اتعلمين أنا تائهة جدا يا رباب.. ولا أفهم ما أشعر به..
قالت رباب بمرح :
_ كلنا تائهون في تلك الحياة يا صديقتي.. ولكن لا تضعي شيء برأسك.. كوني مثلي.. فاقدة الشغف في الدراسة وفي عمل المنزل.. وفي الزواج والنوم.. ومع ذلك ابتسم للحياة ولا كأنني " تشارلي تشابلن" في زمانه.. أهم شيء " الواي فاي" يعمل والثلاجة ممتلئة..
ضحكت أمينة على الطرف الآخر ثم قالت :
_ معك حق.. أهم شيء " الواي فاي".. والثلاجة..
قالت رباب وسط ضحكها :
_ يا سلام! .. أنت تريدين الطلاق.. ولا تفهمين ما يحدث معك .. وملك تتشاجر مع خطيبها كل دقيقتين.. وأمي تريد أن تفرح بي.. أي فرح هذا يا أمي؟!.. افضل شيء قمت به في حياتي أنني لم أوافق على الزواج بعد.. ولن افعل.. الله الله!! .. لتأتي أمي وترى الزواج وجماله..
أخذت أمينة تضحك بشدة على سخرية صديقتها، ورباب كانت تضحك هي أيضا ولكن قطع تلك الضحكات صوت صراخ رباب عندما اصتدمت بسيارة مارة أمامها دون أن تراها....
قالت أمينة بقلق :
_ رباب انتِ بخير؟..
ولكن الخط كان قد انقطع، نهضت رباب بصعوبة ثم قالت بعصبية وهي تنفض التراب عن ثيابها :
_آآآآه ، ما هذا؟!.. هل أنت أعمى؟.. لا تجيدون قيادة السيارات فلماذا لتفعلوا..؟!
أتاها الصوت من خلفها قائلا :
_ آسف يا آنسة.. هل تأذيتي.. ؟
إلتفتت لترى صاحب العيون الثاقبة والوجه الصارم والجسد المفتول العضلات، وأيضاً المظهر الجذاب والرجولة الطاغية..! ،ولكن ذلك لم يخفف غضبها منه أبداً..؛ فقالت :
_ آسف؟!.. وبماذا سيفيدني أسفك إذا انكسرت قدمي أو يدي.. لا قدر الله.. لقد اتسخت ثيابي بسبب سيادتك.. أنظر إلى.. أتراني أليس كذلك؟!
قالت ذلك وهي تلوح بيدها يمينا ويساراً أمام عينيه، ثم قالت :
_ جيد.. لقد منحك الله عينين.. فلماذا لا تستعملها جيداً..؟!
جاءتها نظرته رادعة قوية بالإضافة إلى صوته الذي أصاب جسدها بالارتجاف :
_ مهلك يا آنسة! .. لقد اعتذرت عما حدث.. فما الداعي لكل هذا الكلام؟.. ولكي أكرر أسفي يمكنني أن أوصلك إلى أي مكان تريدينه..
اتسعت حدقتي عينيها :
_ ما الذي تظنه يا أستاذ؟!.. أنا لست من ذلك النوع يا محترم.. وفر توصيلتك هذه لأي فتاة أخرى غيري..
زفر بغضب، ولأنه كان على عجلة من أمره قال :
_ للمرة الثانية.. أقول أن لا داعي لهذا الكلام.. وتدرين؟.. أظنك بخير لذا انا ذاهب..
تركها مذهولة وقاد سيارته بسرعة البرق وغادر، شهقت رباب بذهول ثم قالت :
_ ما هذا؟!..ياله من متعجرف! .. أفسد يومي وعكر مزاجي لا سامحه الله..
خرجت لها ملك ورأتها تتمتم فسألتها واخبرتها رباب عما حدث، ثم إلتفتت يمينا ويسارا باحثة عن هاتفها وهي تكمل نفض ثيابها، ولكن ما جعلها مصعوقة هو رؤية هاتفها مكسوراً، ويبدو ان ذلك الرجل قد دعسه بسيارته.. حاولت ملك يائسة أن تفتحه لها ولكن الهاتف كان في خبر كان!!
صرخت بغضب تتوعده بالويل، بينما ملك تهون عليها مصيبتها...
                                & & &
مضت ربع ساعة إضافية وهو لا يزال ينتظرها.. لا يفهم لِمَ يتأخرن الفتيات دائما في ارتداء ملابسهن؟! ، اطلق تنهيدة غير صابرة اكثر شيء لا يحبه في حياته الانتظار.. رغم انه بقى طوال حياته ينتظر..! ،ابتسم بسخرية على نفسه ثم لمحها آتية باتجاهه.. كانت مرتدية فستانا بسيطا من اللون الوردي الناعم، أعاد اليه ذلك اللون تلك اللحظة التي اصطدمت به وامسك بها قبل أن تسقط.. شرد للحظات فيها وأخذ يحدق في وجهها حتى الألوان بالنسبة إليه أصبحت مرتبطة بها في ذاكرته.. يا لهذا !!
ابتسم مرة أخرى على نفسه، وقفت أمامه بخوف تشعر بانقباضة في قلبها لا تعلم ما سببها، قال وقد قرأ ما في نفسها :
_ ما الأمر.. انت بخير .. ؟
قالت بتوتر :
_ شيء.. يعني لا أعلم.. دعنا لا نتأخر هناك حسنا..
لاحظ مراد توترها ؛ فقال :
_ انظري.. يمكننا أن نلغي العشاء إذا كنت لا تريدين الذهاب..
قالت متظاهرة بأن الأمر لا يفرق معها :
_ ولماذا؟.. لا يوجد ما يجعلنا نلغي العشاء..
_ قد لا يعجبك الجو.. أمينة انا بالأساس لا أريد الذهاب.. دعينا لا نذهب..
_ لا سيكون من العيب أن نلغيه الآن.. ومن يدري قد يعجبني الجو..
_ ماذا تقصدين؟!
نظرت اليه قليلا ثم قالت :
_ قد تكون استوعبت انها مخطوبة الآن.. ليتها تحترم خطيبها ولو قليلا.. ولكن مراد.. إياك أن تفعل شيء مخجل..
زفر مراد قائلا :
_ هل سنعود إلى نفس الموضوع مرة أخرى؟.. اخبرتك أن تلك الفتاة لا تعني لي شيئاً..
_تعني أو لا تعني.. إياك أن تسمح لها بأن تقترب منك ولو بالخطأ..
ابتسم قائلا بمشاكسة :
_ انظروا إلى صغيرتي.. هل تغارين ام ماذا ؟!
ضحكت أمينة وهي تتجه إلى باب السيارة لتركب :
_ ويقول غيرة؟!.. هيا لا يجب أن نتأخر ..!
قال وهو يركب بجوارها :
_ تغارين تغارين! .. ان لم يكن اليوم فغدا..
_ لا تحلم بهذا حتى..
_ سنرى!
قالها وهو ينطلق بالسيارة باتجاه منزل حسن ، يرجو بداخل نفسه ان يمر ذلك العشاء على خير..
                                      & & &
بعد دقائق وصلا أمينة ومراد إلى منزل صغير تحيطه حديقة تفوح منها رائحة الياسمين، دق مراد جرس الباب وفتحت لهما رؤي.. كانت جميلة بحق في ذلك الفستان الأحمر الصارخ.. بدون أكمام بالكاد يصل إلى ركبتيها تاركة شعرها منسدل على كتفيها وقد موجته بجهاز الشعر ، نظرت إلى مراد بطريقتها المغرية والمثيرة للاشمئزاز بالنسبة لأمينة، بينما مراد فكان ينظر إليها بلامبالاة وسخرية ولكن نظراته لأمينة كانت على النقيض تماما وكأنه يخبر تلك المغرورة ان محاولاتها تلك فاشلة مثلها!
مرت عدة ثوانٍ حتى قالت رؤي بغيظ مكبوت وهي تراه يتجاهلها :
_ أهلا بالثناءٍ الرائع..!
رسمت أمينة ابتسامة على وجهها وكانت راضية تماما من نظرات مراد المتجاهلة لرؤى، قالت رؤي وهي تتقدمهم في ردهة المنزل الواسعة ؛ لترد الصفعة إلى مراد :
_ لقد ذهب حبيبي حسن ليوصل والدته إلى المطار؛ فهي لديها رحلة عمل طويلة..
ضحك مراد في سره عندما سمع منها كلمة حبيبي؛ لا يوجد اكثر منه يعلم كذبها في تلك الجملة!..فقال مراد ؛ ليربح الجولة :
_ خسارة!.. كنت أريدها ان تتعرف على جميلتي أمينة.. ولكنني سأعوضها لك مرة أخرى حبيبتي..
نظرت اليه أمينة بارتباك فقد كان لكلمة حبيبتي منه أثرا مختلفا على نفسه ولكنها سرعان ما اثنت على تمثيله..
رفعت رؤي حاجبها الأيمن قائلة :
_ لابأس.. على كل حال ستعود يسرا هانم بعد أيام قليلة..
اشاحت وجهها عنهما قائلة للخادمة :
_ احضري العصير يا فتاة..
ثم التفتت إلى مراد بابتسامة وهي تقول :
_ ام احضر لك شراب خاص يا مراد.. ؟
نظرت إليها أمينة بعدم فهم ، ولكن ضحكة مراد اجابتها عن تساؤلاتها وهو يقول :
_ لست بحاجة إليه الآن..
ثم نظر إليها مردفا :
_ نظرة من عيني أمينة بمثابة ملايين الكؤوس من الشراب.. فتكفي لتنسيني العالم بأكمله..
ابعدت أمينة نظراتها المفزوعة مما قاله وسرعان ما وجهتها إلى الأرض، فقالت رؤي بنبرة حاقدة :
_ كفاك يا مراد!.. لقد جعلت عروسنا تخجل..
ضحك مراد قائلا :
_ وهل تخجل الفتاة من زوجها..؟!
ضحكت رؤي بسخرية؛ لتجاري الأمر ، واجبرت أمينة نفسها على رسم ضحكة على وجهها.. ،جاءت الخادمة لتضع العصير أمامهم ثم رحلت، قالت أمينة :
_ لقد كانت حفلة خطبتك رائعة يا رؤى..
نفشت رؤي ريشا وهميا كما الطاووس وهي تقول بزهو :
_ بالتأكيد!.. هذه حفلة خطبتي من الطبيعي ان تكون أكثر من رائعة!..
ندمت أمينة على جملتها التي أزادت غرور تلك الطاووس.. اقصد رؤي!.. ولكنها ابتسمت مجاملة لها ، استطردت الأخرى بحقد :
_ ولكنكم سرقتم الاضواء مني بتلك الرقصة.. كنتم نجوم الحفل..
تذكرت أمينة تلك الرقصة وما شعرت به وقتها وكان مراد هو أيضا مثلها فنظر إليها ثم قال :
_ مادمنا معا سنجعل أي شيء رائعا.. هذا اقل ما لدينا..
ابتسمت رؤي بغيظ وفي تلك اللحظة فُتح الباب وظهر من خلفه حسن، صافح مراد بحفاوة تمنى مراد لو تكون حقيقية ولكن نظرة الآخر الخاوية قتلت الأمل بداخله..
_ هل تأخرت عليكم؟
قالها حسن وهو يجلس، فأجابته رؤي بدلال انها اشتاقت اليه وضحك معها، بينما مراد كان يري الموقف بطريقة كوميدية تماما مثل " سى السيد وأمينة ".. ،وضحك بداخله اكثر وهو يتخيلهما يرتديان مثلهما في الفيلم ورؤى تقول " آخر مرة والنبي يا سي السيد"..، فلتت ضحكة منه فقال حسن باستغراب :
_ عساه خيرا!
قال مراد يحاول رسم الجدية على وجهه :
_ تذكرت شيء فقط.. صحيح متى تنويان الزواج انت ورؤى؟.. افضل شيء أن تسرع بترتيبات عقد القران والزواج كما فعلنا انا وامينة .. كي تكونا معا ولا يفرقكما شيء..
شعر مراد بالتسلية وهو يرى نظراتهما المتوترة والمرتبكة، فقالت رؤي قبل أن يُفسد حسن الأمر اذا تحدث :
_ في الواقع لم نحدد بعد.. تعلم هذا عرس حسن عامر ورؤى المنصوري.. يعني لن يكون عرسا عاديا أبدا.. سيتم كل شيء بروية كي نضمن أن ينبهر الجميع به..
نفشت ريشها مرة أخرى كالطاووس وهي تقول جملتها الأخيرة فنظرت إليها أمينة متعجبة.. كل ما تريده ابهار الناس وليس سعادتها!..، قالت  :
_ معك حق ما يفعله المرء بروية يكون رائعا.. ولكنني اظن ان تجدي سعادتك في ما تقومين به.. أعني ما دمت لا تغضبين رب العالمين ولا تؤذين أحد لا يهم الناس وافكارهم.. فالناس في جميع الأحوال لا يكفوا عن الثرثرة وليس من العدل ان تؤجلي سعادتك لأجلهم..!
صمتت رؤي ولم ترد عليها، بينما قال حسن بصدق :
_  ماشاء الله! .. لديكِ افكار مميزة أمينة.. اهنئك عليها..
نظرت رؤي إليه بغضب ؛ فقد شعرت بالإهانة مما قاله، وقالت بحدة وهي تنهض :
_ هيا يا جماعة.. لقد جُهز العشاء..!
                                       & & &
في مطار دبي نزلت أيقونة الجمال والأناقة بكل هدوء تسير بخطوات واثقة كعادتها، رغم سنوات عمرها الخمسين كانت تتلقى نظرات الإعجاب من حولها!.. انها " يسرا السعدي " زوجة المرحوم "شريف عامر" والتي تولت من بعده إدارة شركاته ومؤخرا بدأت تشاركها " سما "..
بعد عدة خطوات استقبلها احد فريق عملها وتبادلت معه الحديث حول العمل بكل صرامة وجدية.. ،أعطته بعض الأوامر ، ثم تركته وركبت السيارة التي تنتظرها أمام المطار ، ناولتها مساعدتها قدحا من القهوة الباردة ارتشفته على مهل؛ فقد تعلمت أن تتمتع بلحظاتها الصغيرة الخاصة بها قبل أن يحين انتهائها إذ لا تضمن أن تعيش لحظات كهذه مجدداً!..،جائتها مكالمة كانت تنتظرها بفارغ الصبر؛ فأجابت على الفور :
_ طفلتي الرائعة!.. كيف حالك؟
جاءها صوت سما قائلا :
_ انا بأفضل حال يا أمي ولدي لك أخبار اكثر من رائعة.. سأعود غدا يا أمي.. سأراكم غدا..
_ حقاً!.. ما هذا الخبر الرائع؟!.. سأكون بانتظارك من الآن..
_ حسنا يا أمي يجب أن أغلق الآن.. لدي الكثير من الأعمال التي يجب أن اقم بها والوقت قصير..
ودعت يسرا ابنتها وهي تتنفس الصعداء وأخيرا ستلتقي بقطعة من قلبها في الغد!.. ،صحيح انها السبب في سفرها ولكنها قبل أن تكون سيدة أعمال هي أم.. والأم تفعل أي شيء لمصلحة أبنائها حتى وان كان ذلك يؤلمها، كانت تعلم انها ستكون وحيدة ولكن ذلك افضل لسما..
بعد وفاة زوجها أو بالأحرى بعد انتحاره أصبحت العلاقة بينها وبين حسن وكأنه يعاقبها ويعاقب نفسه والجميع على ما فعله والده! ،فتحول الشاب اللطيف المرح إلى شاب مستهتر ومغرور.. وهذا أساس الخلاف بينه وبينها، هي التي عُرفت دائما بالانضباط والجدية في كل شيء! ، لهذا كان عليها أن تبعد سما عن كل هذه المشاكل.. ليس لأنها تخشي عليها من أن تتأثر بما حدث ولكن لأنها كانت تخشي على نفسها ان تبتعد ابنتها عنها أيضا كما فعل حسن..!
                                        & & &
بعد تناولهم العشاء أخذت رؤي أمينة إلى الحمام لتضبط حجابها وتغسل يدها، كان الحمام يقع في الردهة الجانبية للمنزل وكان بابه يطل على شرفة واسعة وتلك الشرفة تطل على الحديقة، تقدمت رؤي باتجاه الشرفة وهي تعبث بهاتفها بانتظار أمينة فرأت مراد واقفا في الحديقة أمامها يجري مكالمة هاتفية، جاء إليها صوت وقع أقدام أمينة المتجهة نحو باب الحمام؛ لتفتحه..
فلمعت تلك الفكرة الشيطانية في رأسها وهي تثبت نظراتها على مراد وسمعها مع خطوات أمينة المقتربة، وحينما سمعتها تفتح باب الحمام وضعت الهاتف على اذنها اليمني ثم ضحكت بصوت انثوي لكنه منخفض؛ كي توهم أمينة انها لا تريدها ان تسمع ما تقوله ولكنها حرصت على أن تكون كل كلمة واضحة بحيث تسمعها الأخرى وتدركها، قائلة بنعومة وهي تنظر إليه أمامها :
_ ما هذا؟!.. أما كان يمكنك الصبر حتى يرحلا؟!.. أنت غير معقول!
لم تهتم أمينة بالبداية ولكنها شعرت بالاستياء متوقعة انها تحدث شاباً آخر، متسائلة كم شاباً تعرف على خطيبها المسكين؟!، ولكنها شعرت بصدمة اوقفتها مكانها حينما سمعت الأخرى تقول وسط ضحكها :
_ كفاك يا مراد.. لقد دمعت عيناي من كثرة الضحك.. ولهذا انت تراقبني من حديقة المنزل؟.. لا تنظر إلى الأعلى قد يراك حسن..!
شعرت أمينة بتجلط في جسدها وانقطعت أنفاسها.. هل تقول مراد؟.. مراد زوجها؟!..، ارتجفت أوصالها ولكنها جاهدت لتتقدم ببطئ؛ حتى لا تلاحظها رؤي وبالفعل اقتربت من موقع رؤي واستطاعت ان ترى مراد واقفا على مرمى بصرها.. رأت ظهره العريض ويده اليمني الممسكة بالهاتف الموضوع على أذنه واضعاً يده الأخرى في جيبه واستطاعت ان تسمع ضحكاته الرائقة ، انتبهت رؤي إلى ما تفعله وهي تشعر بها على بعد متر ونصف أو مترين منها، تفائلت بأن فكرتها قد أوشكت على النجاح فقالت :
_ معك حق هذه الفتاة ساذجة جدا والتسلية معها ممتعة.. تذكرني بذلك الغبي الذي سأتزوجه.. ولكنك تمدحها كثيرا وتعاملها برومانسية أيضا؟
ترقرقت الدموع في عيني أمينة، لا تصدق أنه استطاع أن يخدعها بهذه البساطة، بينما ضحكت رؤي بصوت منخفض قائلة :
_ يعني تفعل كل هذا فقط لتكسر غرورها؟!.. أجل لقد فهمتك أنت ستتلاعب بها قليلا وبعد ذلك ترميها من حياتك كما تفعل عادة.. هذا مع كل الفتيات إلا أنا بالطبع.. اجل انا حبيبتك.. انا لا أفهم ألا تنظر لنفسها في المرآة تلك الغبية؟!
انزلقت دموع أمينة ثم ابتعدت بهدوء وبطئ متجهة إلى الردهة وهي تمسح دموعها، وآخر شيء سمعته من رؤي كان :
_ انا سأغلق الآن قبل أن تخرج زوجتك السخيفة..
وبعدها ضحكت رؤي لا تصدق انها قد نجحت بالفعل ، ثم قالت :
_ ياللمسكينة!! ..انها غبية بحق لو كانت دققت سمعها لكانت عرفت أنني أحدث نفسي..!.. هذا ممتع جدا !
بعد قليل من الوقت حرصت رؤي على أن تنضم إلى حسن وأمينة في نفس اللحظة التي رأت فيها مراد يدخل إليهما ثم تسائلت :
_ كنت أظنك لازلت في الحمام يا أمينة؟!
قالت صاحبتنا بابتسامة باردة تخفي تلك النيران المشتعلة في قلبها :
_ عندما خرجت كنتِ تتحدثين على الهاتف.. ولم أرد ان أزعجك..
تصنعت رؤي الارتباك وهي تنظر إلى مراد ثم إليها :
_ كنت اتحدث مع صديقتي..
قاطعتها أمينة بنبرة قوية :
_ لا يعنيني مع من كنت تتحدثين.. ولكنني ظننتك انتبهتِ إلى لهذا سبقتك..
اثنت رؤي على ثباتها الانفعالي ولكنها تأكدت أنها استمعت إلى ما قالته وهذا هو المطلوب، التفتت أمينة ناظرة إلى مراد الذي سأله حسن عن سبب تأخيره، فقال صاحبنا بصدق :
_ كنت اتحدث مع أحمد.. تعلم كم يحب مجاكرتي..
نظرت أمينة إلى عينيه الصادقتين تتسائل.. كيف لتلك النظرات الصادقة والابتسامة الحقيقية أن تكون كاذبة إلى هذا الحد؟!، استمرت تنظر إليه ببرود وهي تعتذر لنفسها عن حماقتها وقد عاهدت نفسها علي أنها لن تنخدع بما يفعله بسهولة..
والآن لقد فشلت خطتك يا مراد بيك وعليك أن تتقبل الهزيمة..!
نظر مراد إليها وقد تبددت ابتسامته، وشعر بالحيرة من تلك النظرات الفاترة في عينيها، بينما لمعت عيني رؤي ببريق الانتصار هي ترى ثمار نجاح خطتها أمام عينيها، نظر إليها حسن مستفسرا فغمزت له بعينها اليسرى دون أن يلاحظها أحد؛ هز رأسه ببطئ فاهماً أن رؤي قد قامت بأمر ما هو ما ازعج أمينة..
بعد لحظات قالت ناهضة وهي تمسك حقيبتها :
_ ألم يحن وقت الرحيل يا مراد؟
فقال ناظرا إليها باستغراب :
_ أجل لقد تأخر الوقت ويجب أن نذهب..
قال حسن :
_ مازال الوقت باكرا!
نظرت اليه بإشفاق على ما تفعله رؤي من وراء ظهره وقد شعرت بالاختناق، قالت :
_ عذراً.. لكنني انام باكرا.. وشكرا على هذه السهرة الرائعة..
فقال مراد :
_ كانت سهرة جميلة وأرجو أن تتكرر مرة أخرى عندي في المنزل..
اجابته رؤي :
_ بالتأكيد..
رمقتها أمينة بنظرة استياء قبل أن تتوجه إلى باب المنزل آملة خروجها بأقصى سرعة من المكان قبل أن تنفجر، وقد تبعها مراد حائرا مما يحدث معها!
                                        & & &
بعد دقائق كانا قد وصلا إلى المنزل ففتحت أمينة باب السيارة ونزلت منها ، رآها مراد تصعد درجات السلم داخلة بسرعة، فنزل من السيارة وأغلق بابها باستغراب مما تفعله، وبعدها دخل هو أيضا ثم رآها صاعدة السلم متجهة إلى غرفتها.. لا ! لن يتركها تتقوقع على نفسها مرة أخرى وهو بالكاد استطاع ان يخرجها من قوقعتها، فقال وهو يسرع؛ ليلحق بها :
_ أمينة..!
توقفت ثم إلتفتت إليه قائلة بنظرة باردة :
_ نعم؟
توقف على بعد درجتين منها ثم قال :
_ ما بك؟!
أجابته بابتسامة شاحبة :
_ وما بي أنا ؟
_ هل ضايقك أحد هناك ؟
_ وهل يبدو على وجهي الضيق..؟
نظر إليها محاولا إيجاد تلك الفتاة البريئة والحقيقية التي اختفت تحت ستار برودة نظراتها وفتور ابتسامتها، قال :
_ أجل.. يبدو ذلك..
_ لا.. انت مخطئ
صمت لبرهة يستشف الحقيقة من ملامح وجهها، فأدرك ان احساسه صائبا.. لقد حدث شيء بالتأكيد :
_ حقاً؟
كان عتابا اكثر من كونه سؤالا؛ لأنها لا تفصح له عما يحدث لها، في المقابل تولت عنه صاعدة درجات السلم وهي تقول :
_ أجل.. تصبح على خير..
ظل واقفاً مكانه لا يفهم ما الذي حدث لتتحدث معه بهذه الطريقة الباردة؟!
دخلت أمينة الغرفة وبعدما أغلقت الباب عليها اتكأت بظهرها عليه وانزلقت دموع حارقة على وجنتيها، لقد تمالكت نفسها طوال الطريق والآن لا تستطيع أن تتمالك نفسها أكثر، وأثناء بكاءها اتخذت قراراً واضحا.. ألا تعطي له مساحة للاقتراب منها أبدا
                                       & & &
كان مراد لا يزال جالسا في الردهة حائرا حينما رن هاتفه، كانت المتصلة رؤي.. اعتلت الدهشة في نفسه من اتصالها به! ولكنه على كل حال لم يرد عليها، وبعد عدة رنات لم يُجيبها وصل إليه رسالة منها تردد قليلاً قبل أن يفتحها..ثم فتحها ليقرأ بصوت بالكاد يُسمع:
" انا في حديقة منزلك الخلفية ان لم تخرج إلى الآن سأخبر زوجتك بكل ما بيننا وسأريها الصور التي تثبت علاقتك بي، وأنت تعرف جناني جيدا يمكنني ببساطة أن أخرب لك كل شيء، أمامك خمس دقائق لتأتي إلى وإلا سأفضحك."
زفر مراد بضيق بعدما قرأ تلك الرسالة المجنونة، فكر ألا يخرج فأمينة بالفعل تعرف كل شيء ولا يريد أن يجعلها تظن أنه تحت رحمتها، ولكنها مجنونة بحق وقد تفعل أي شيء وهو لا يريد أن تتوتر العلاقة بينه وبين أمينة اكثر وفي نفس الوقت يجب أن يضع حدا لهذا الجنان وليغلق هذا الأمر معها إلى الأبد، اخذ نفسا عميقاً ثم نهض ليراها....
خرج إلى الحديقة الخلفية حيث كانت تنتظره رؤي والتي ما ان رأته حتى ارسلت رسالة لإحدى صديقاتها محتواها " لقد جاء مراد.. تعرفين ما عليكِ فعله "، ثم اخفت هاتفها وهي تراه يقف أمامها قائلا بغضب مكتوم مشيراً إلى هاتفه :
_ما الذي أرسلتيه إلى منذ قليل؟!.. تعرفين جيداً أنني لا اتأثر بهذه التصرفات..!
_ مراد.. هذا يكفي.. أنت حبيبي أنا..
فاجئه ردة فعلها ولكن؛ لأنه اكثر من يعرفها قال بسخرية :
_ حبيبك؟!
ضحك بغضب ثم قال :
_ يبدو أنك نسيتِ مع من تتحدثين.. أليس كذلك ؟! علي من تضحكين ؟!.. اتظنينني أبلهاً أو طفلا صغيرا لتتلاعبي بي؟!..
انظري إلي!.. انا اكثر من يعرفك يا رؤى..
نظرت اليه بدموع التماسيح خاصتها قائلة :
_ مراد.. اعرف أنك تحبني كما أحبك..
نظر إليها لا يعرف إلى أين تريد أن تصل من تلك المسرحية، وقال ضاحكاً :
_ ألا توجد لديك غير هذه الجملة؟!.. ما هذا السيناريو الفقير..؟!
ثم اكمل ضحكه بينما هي استمرت في التمثيل أمامه..
                                       & & &
كانت أمينة قد بدلت ثيابها حينما رنّ هاتفها، إلتقطته ثم نظرت إلى الشاشة المضيئة لترى رقما غير مسجل لديها، فلم ترد ثم رنّ الهاتف مرة أخرى، فأجابت :
_ مرحبا..
اجابها صوت فتاة ولكنها لم تميزه :
_ مرحبا.. أمينة؟
_ أجل.. من معي؟
_ ليس مهما أن تعرفي من أنا.. ولكن المهم ان تكوني على علم بما يفعله زوجك..
قلقت أمينة وهي تتسائل :
_ ماذا تقصدين؟!
_ زوجك يخونك..
صمت أمينة للحظات، ثم قالت :
_ ما الذي تقولينه أنت ؟!
_ الحقيقة!.. واذا لم تصدقين كلامي يمكنك أن تنظري إلى حديقةالقصر الخلفية.. وسترين كل شيء بعينيك..
_ من انت؟!
_ اخبرتك أن هذا ليس مهما.. ولكن إذا أردت أن تسميني.. فسميني فاعل خير إذا..
أغلقت الفتاة الخط وظلت صاحبتنا لعدة لحظات مصدومة لا تعرف ان كان ما تقوله صحيح ام لا.. ووجدت نفسها تتجه إلى الشرفة لتنظر إلى الخارج..
                                       & & &
أمسكت رؤي يده وهي تقول باكية :
_ انت تعرف جيداً انني احبك.. انت تعني لي الحياة ولا يمكنني أن أعيش بدونك..
لمحت رؤي أمينة تفتح باب الشرفة الزجاجي فأسرعت تعانقه باكية، انصدم مراد مما تفعله بينما تسمرت أمينة مكانها وهي تراهما يتعانقان ولم تر وجهه المصدوم، كل ما رأته كتفيه العريضين ووجه رؤي الباكي...
                                       & & &

                                       & & &

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.
هي وابن الأكابر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن