- ما الذي سنفعله؟! لعلهم كما قلت يبحثون عن إبريز.
سأل حمزة في خضم حيرته، فأجبته وأنا أخفي ما أشعر به من ألم:
- يجب أن نعرف أولاً من هم ولماذا أتوا...
ثم نظرت إلى جلال ولم تكن فيه حركة سوى حركة أنفاسه، ولكنه كان كعادته أسرعنا تصرفاً فقام من على الأرض بصعوبة قائلاً:
- حمزة... فك قيدي.
أسرع حمزة لتنفيذ أمره دون أن ينطق بكلمة قبل أن يبتعد عن جلال مطأطئا رأسه، لقد شعر بشعور المتهم أمام القاضي.
- في كل الأحوال فإنهم لم يأتوا بخير... إما أنهم مرسلون من قبل الحاكم للبحث عن إبريز... أو يطاردون من بقي من المسلمين أحياء...
قال جلال ثم أكمل بعد أن كح كحة خفيفة:
- ولعلهم ذاهبون للنيل من أهل مدينة أو قرية ما... علينا التحرك... هلا أعنتي يا حمزة على السير؟.
سأل برفق، ولم يجد حمزة وسعاً لرفض طلبه فسارع يعينه على الوقوف.
نظر إلي عبيد يعاين حالتي ولم يكن ما رآه مطمئناً:
- جلال! إن حالة قيس تسوء... لقد عاد جرحه للنزيف.
سابقت جلال إلى الرد وقلت أخاطب عبيد:
- أنا بخير! ألا ترى؟ هذا جلال أسوأ مني حالاً ولكنه لن يرضى بالتفرج، هات يدك وأعني على الوقوف.
وبحركة سريعة فك عبيد قيده ثم توجه إلي يفك قيدي ويعينني على أمري، لم يرتح جلال لما فعلت، فقال لي:
- هل أنت متأكد من أنك بخير؟
- انطلق على بركة الله وأنا معك.
تمنيت أن أقوم بما عزمت عليه ولكني لم أستطع، شعرت كأني انقسمت إلى نصفين من شدة الألم فتهاوى جسدي على الأرض يطلب الرحمة.
- عبيد، اعتني به.
قال جلال لينطلق بعدها إلى بنغال يتأكد من سلامته، غير وضعيته ليجعله يضطجع مستريحاً ثم قام يأمر حمزة بالبحث عن المسن، وكانت منى نائمة في إحدى الزوايا بسكون واطمئنان لا تجده إلا في نوم الأطفال.
بإصرار شديد، طلبت من عبيد أن يسرع في مداواتي لألحق بجلال، نظر إلي في إشفاق لكنه لم يحاول أن يثنيني عن عزمي، كان جلال يطفئ أنوار سفينتنا، ولم أفهم ما الذي ينوي عليه.
- جلال.
استدار جلال ليرى فارسه المجروح يقف على قدميه وهو يكابر الألم، أحدهما سيخضع للآخر ولابد أن يكون الإنتصار للفارس، أقبل إلي ووضع يدي حول عنقي حتى أتكئ عليه، وكلانا ليسا في حالة يستحسن فيها بذل أي جهد، لكننا كنا نساعد بعضنا، شخصت ببصري للأفق، كانت سفينة العدو الضخمة تتجه نحونا، وبالتأكيد لن يصمد مركبنا البدائي أمامها بشيء، بمصابيحهم الكثيرة والموزعة في كل مكان استطعنا معاينة عددهم، لقد كانوا أكثر بكثير مما توقعنا.
- أطفئوا أي شيء ينبعث منه الضوء.
سرعان ما تحرك عبيد في الغرفة ينفذ أمر جلال، ولم يزل حمزة في البحر يبحث عن المسن بيأس، ولكنه قد أطال الغياب كأنه عزم ألا يعود حتى يواري نفسه عنا، أما جلال فكان يبتسم بمكر، علمت أنه كان يخطط لشيء فسألته عن ذلك، ليقول:
- السماء غائمة، بمجرد أن نمنع الضوء عن سفينتنا فسنختفي في الظلام وكأنه بلعنا...
- عندها لن يستطيعوا رؤيتنا!
- بالضبط، أسأل الله فقط أن تهب الرياح حتى نبتعد عنهم قبل شروق الشمس.
وبالفعل، امتزجنا مع ظلمة الليل حتى لم يعد بإمكان أحدنا تمييز أصابعه، كانت الإضاءة الوحيدة التي نراها تنبعث من سفينتهم، حينها أحسست بجسم يخرج من البحر وعلمت أنه حمزة من أنفاسه المتضاربة، فسألته عن المسن متلفهاً، لكنه قال:
- اختفى .. لم أجد له أثراً.
- هل أنت متأكد؟
- نعم، لا أمل في نجاته، لعل مخلوقاً ما أكله.
لم يرضني هذا الجواب، هكذا كان رده حين وقع جلال وكانت النهاية أنه نجى، فقلت:
- هذا مستبعد، عد إلى البحر لعل الله أن يهديك إليه.
فقال بعد تنهيدة قصيرة:
- لا أعلم لماذا أطفأتم المصابيح، ولكن لو أشعلتها ستراني بنفسك وأنا مغطى بالدماء...
سكتنا أنا وجلال منتظرين أن يكمل حديثه الذي أقلقنا.
- لقد قابلت مخلوقاً لا أعلم أحوت هو أم عفريت أم غير ذلك، لكني نجوت منه بأعجوبة.
سرعان ما سأله جلال وكأنه قد نسي، فعلاً، ما فعل به حمزة:
- الحمد الله أنك نجوت، هل إصابتك خطيرة؟
- ليس كذلك، سأعالجها سريعاً...
لم يكمل حمزة جملته حتى رأينا سفينة العدو وهي بدورها، تطفئ مصابيحها كلها وتغلق ستائر غرفها، طمحنا بأبصارنا متعجبين لا ندري ما يريدون من ذلك، ولكن بعد بضع دقائق من سير سفينتهم في الظلمة، قال عبيد وهو مقبل علينا كلمة وقع بها في قلبي تفسير محتمل لما يقومون به:
- هل هم حمقى؟! سيصطدمون في هذا الليل أو يتيهون.
- يحاولون إجبارنا على إضاءة المصابيح!.
أعارتني الأذان سمعها، فشرحت قائلاً:
- أعتقد أنهم يريدون وضعنا أمام خيارين أحلاهما مر... إما أن نضيء المصابيح فيهتدوا بها على مكاننا، أو... أو أن نطفئها فيفعلوا المثل، ولأنهم يتقدمون بالمجادف ونحن ساكنون، فقد يصطدمون بنا في أية لحظة.
أكمل عبيد في وجل:
- وبالطبع لو حصل الإصطدام بين سفينتنا البائسة وأصغر مجداف لهم، ستتحول سفينتنا إلى حطام...
عندئذ وجفت القلوب، وخشعت العيون، لا تثبت الأقدام إلا بدعوات ترسلها شفاه متشققة إلى السماء، ما الذي سنفعله؟!.
غير مصدق لما يقوله بنفسه، حاول عبيد إقناعنا باستحالة صحة ما توصلت إليه، وكان لكلامه حظ من أسماعنا:
- لا يمكن ذلك، مثل هذه السفن لا تخلوا من قوارب صغيرة تستخدم عند الحاجة، ألم يكن بإمكانهم المجيء بها إلينا؟!
سكتنا جميعاً حتى شعرنا بالأمواج وهي تحرك سفينتنا قليلاً، مما يعني أنهم صاروا قريبون منا جداً، ولم يثر هلعي إلا صراخ جلال المفاجئ:
- عبيد معه حق! أشعلوا المصابيح بسرعة!
وقبل أن يهبوا للتنفيذ أمرتهم بالتوقف قائلاً:
- لا لا، توقفوا... ثمة شيء خاطئ.
شعرت بالتشويش وأنا أحاول الإمساك بطرف تلك الفكرة التي خطرت لي، حتى أعادني صوت جلال إلى الواقع:
- قيس، هل أنت بخير؟
فقلت معتذراً:
- أستغفر الله... اعذرني لأني أعطيتهم أمراً فوق أمرك، افعلوا كما أخبركم.
لحظات حتى عادت الإضاءة لسفينتنا، والمفاجأة لم تكن في أن العدو فعل المثل، بل في أنه قد قام أيضاً بالإنحرف عن طريقه حتى لا يصطدم بنا، وأخذ في الإبتعاد عنا بكل سلام.
- ما الذي يفعلونه؟!
لم يستطع أحد الإجابة على سؤال عبيد، سقطت على الأرض فانحنى جلال فوقي، لم أسمع ما كان يقوله لي فقد كنت منشغلاً بمحاولة فهم ما يحدث، شعرت بالإرهاق يفتت خلاياي جراء العصف الذهني، لكني لم آبه به حين استقرت الفكرة في رأسي...
- جلال... جلال أين نحن؟ أيمكنك تحديد موقعنا؟
لم يحاول الإستفسار عن سبب سؤالي بل بادر بالجواب قائلاً:
- إن لم تكن السفينة قد تحركت منذ أن حبسنا، سنكون في بحر فانتوم، يفصل بيننا وبين بلدة جورج ليلة واحدة تقريباً.
- فانتوم؟ ياللهول...
همست لنفسي قبل أن أصيح بكل ما تبقى لي من قوى:
- أطفئوا المصابيح!
لكني كنت قد تأخرت، فبين غمضة عين وانتباهتها كنا جميعاً في الهواء وكلتا السفينتين قد حطمهما جسم ضخم، وكان اسمي على لسان جلال آخر ما سمعته قبل أن يحوطني الماء من كل الجهات.
أنت تقرأ
آخر الموحدين
De Todoفي عالمٍ مُدمر، حيث الظلم والكفر يلفان كل شيء، يقف قيس، الشاب التائه، على حافة الهاوية بعد أن فقد أسرته وأرضه في مذبحة وحشية طالت أمة الإسلام، ليجد نفسه مع بعض المرافقين وسط البحر، لا يصحبهم سوى شبح الماضي المؤلم وأمل خافت في المستقبل. لكن، يلتقي قي...