على المحك

23 4 4
                                    

أنكرنا الأمر بلا ريب، لكن لم يكن لذلك أي فائدة، فقد ساقونا إلى إحدى الزنازن ورمونا بها جميعاً دون أن يستمعوا لأقوالنا، حتى جهاد التي كانت ذات يوم محترمة من قبل هؤلاء وجدت نفسها وهم يقودونها بغلظة وشدة إلى زنزانة مظلمة.
جلست على طرف خشبة عريضة مرتفعة عن الأرض، وجلست جهاد على الطرف الآخر، بينما لم يجد عبيد وسلام مانعاً من الجلوس على الأرضية المتسخة، أخذ الاثنان يتحدثان حول الوضع الراهن في قلق، ويسألان جهاد عما سيفعلونه لكنها لا تجيب إلا بإجابات سريعة مقتضبة.
أما أنا... فقد كنت محطماً، لا يعلم ما في قلبي إلا الله، الآن علمت أنه كان غباء مني أن أصررت على موقفي، لقد كنت مخلصاً لأصدقائي فوق المعقول فانقلب ذلك الإخلاص علي، انخدعت من إبريز منذ مدة وجيزة، كيف لم أتعلم مما حدث وتركته يتكرر؟! آن الأوان لإصلاح كل شيء.
أغمضت عيناي وأخذت أفكر جهدي للتوصل إلى الحقيقة، وأنا أقوم بجمع الخيوط والنظر إلى الأدلة مرة أخرى وكلي شك في صاحبي، لا، بل ثقة كاملة بأن أحدهما مذنب، وأسرع كثيراً مما تصورت، اكتمل النسيج في ذهني.
قلت وسط ذعرهم وقلقهم بصوت هادئ لا يناسب الحال التي نحن فيها، وفي نبرتي أثرة من حزن:
- لم أتوقع أن تصل إلى هنا أبداً... كنت مستعداً لتحملك مقابل سلامتي، لكن الآن وأنت تهدد نجاة الأمة، لم يعد الخيار بيدي.
التفتت إلي الرقاب، جهاد في دهشة لم تستطع إخفاءها، ولسان حالها يقول: أخيراً!
أما الآخران ففي استغراب واضح، لكن استغراب أحدهما مصطنع يخفي تحته خوفه وقلقه الذي وصل لذروته حين ثبت عليه أنظاري المرهقة وأنا أقول:
- لم كشفت خطتنا؟ لم تركتني أعاني من ذلك المهاجم؟ لماذا فعلت كل ذلك؟!
فأجابني مستدفعاً التهمة عن نفسه بجدية تشوبها نبرة مازحة:
- ما الذي تقوله يا قيس؟! هل تظن أنني من بعث ذلك المهاجم وأبلغ عن خطتنا؟! كيف لي أن أفعل ذلك؟!
أشحت بوجهي عنه، كان من الصعب جداً النظر إليه دون أن يهتز شيء ما في كياني، ليس لأننا أصدقاء فقط، بل إخوة دين وسالكي طريق واحد، لنا هدف واحد وغاية مشتركة.
أجبته بنفس النبرة المتألمة:
- بدأ كل شيء من ذلك المشروب الذي أعطيته لي، كان مخلوطاً بمادة تجعل الإنسان يرى تخيلات وأوهام لا وجود لها بشكل واضح كأنه حقيقي، فيحس بملمس ما يراه ويشم رائحته ويسمع صوته، لأنها عشبة قوية التأثير، فقد كنت أحس بالآلام لا وجود لها، وكان الطبيب بعد كل هجمة أتأذى منها -أو هكذا تخيلت- يقول بأنني سليم... لأن المهاجم كان وهماً.
أجل، لذلك لم يكن لذلك المهاجم ظل، لم يكن له وجود إلا في رأسي، هكذا قلت لنفسي قبل أن يقطع حبل أفكاري بقوله:
- حتى لو كان ذلك صحيحاً يا قيس، يمكن لأي أحد غيري فعل ذلك، لماذا من بين كل الأعداء الذين نعيش وسطهم تتهمني أنا؟!
إنها أسئلة متهم يحاول بها تبرئة نفسه، ولكن الحقيقة مهما طال اختباؤها لابد أن تظهر، أردت أن أجيبه لكن جهاد فعلت ذلك عني قائلة:
- هنا يأتي دور خطئك في إثبات إدانتك، لقد كنت حريصاً دائماً عندما كنت واثقاً، لكنها انقلبت إلى توتر في وقت ما لتقوم بأغبى شيء قد خطر على بالك، وهو سرقة جميع الزجاجات التي تحمل تلك المادة من قسم الأدوية والسموم خوفاً أن يخطر لنا أن ما يراه قيس هو مجرد هذيان فنبحث عنها، ثم خبأتها في خزانتك بطريقة عشوائية ويبدو أن أحداً ما كان قادماً حينها.
- يمكنك أن تبحثي في خزانتي إذا أردتِ! لن تجدي فيها شيئاً.
- لقد بحثت بالفعل.
عندها، اختلط خوفه من كشفنا له مع غضبه على جهاد لأنها فتشت في أغراضه دون إذن، لكنها لم تهتم لنظراته بل أكملت:
- أنت تطلب أن أبحث في خزانتك الآن لأنك واثق بأنني لن أجد شيئاً، فقد أعدتها بعد يوم واحد فقط وقد أدركت فداحة خطئك، للأسف كان منها واحدة ويبدو أنك لم تنتبه لها، انكسرت وانسكب ما فيها في الخزانة، هذا، وحتى لو فرضنا أنك مسحت آثارها فإن معلوماتي هذه آتية من أستاذ القسم، رآك تأخذها وتعيدها بحجج واهية، علمت ذلك منه بالأمس فقط، وكنت قد طلبت سابقاً من صاحبك هذا أن يبحث لي في تركيب بعض الأدوية وتأثيرها، وكان من ضمنها تلك المادة المسببة للإحساس بمحسوس غير موجود.
قالت مشيرة إليه، لعل ذلك ما كان يهمسان به يوم سمعتهما أمام الباب، على كل فأنا لم أكن أعرف عن هذه النقطة، بل كانت عندي دليل آخر يثبت أنه المسؤول دون غيره:
- هل تذكر قولك يوم جاءت الأميرة في المرة الثانية "أنت بالتأكيد تلعن اليوم الذي جاءت فيه الأميرة، لأن المهاجم جاء ليلتها!" أو شيئاً قريباً من ذلك، لماذا ربطت بين مجيء الأميرة ومجيء المهاجم بنفس اليوم؟ مع أن ذلك كان ظهوره الأول الذي لم يهاجمني فيه، بل ظهر وهو يتحرك في أرجاء الغرفة ولم أخبر أحداً عن رؤيتي له ليلاً ظناً مني أنني أتوهم، أخبرتكم عند الهجوم الأول في الليلة التالية، فما أدراك بأني رأيته قبل الهجوم إن لم تكن أنت المسؤول عن ذلك؟ بلى، أعطيتني يومها مشروباً غريب الطعم وشربته مجاملة لك فانقلبت مجاملتي علي.
يبدو أن كل تلك الأدلة لم تقنعه، أو أنه كان يكذب على نفسه بأنه لم يفعل شيئاً فصدقَته، حيث قال:
- لكن ألم يقل بنيامين أن الأمر تكرر قبل سنتين، ولقد كانت الدار هي المسؤولة عن إرسال المهاجمة، ربما بنفس الطريقة يريدون أن يفرقوا بيننا فوضعوا الزجاجات في خزانتي و...
لم أسمح له بالإستمرار، كان يؤذيني وقوفه بكل تلك الجرأة ودفع التهمة عن نفسه بعد كل الذي فعله، أردته على الأقل أن يعترف ويتعذر، فقلت له في أسى:
- كفى! لن ينفعك ذلك، أنا أيضاً كنت أعتقد أن هذا الحدث يثبت براءتك، لكن العكس هو الصحيح، هو يثبت أنك الفاعل لأنه يفترض بك وأنت هنا منذ ثلاث سنوات أن تخبرنا بأن شيئاً كهذا وقع هنا قبل سنتين بهدف إرشادنا إلى أي شيء قد يفيدنا لإنقاذي، لكنك لم تفعل لسبب ما، أليس كذلك...
ثم رفعت رأسي نحوه بنظرات تحمل الحزن والخيبة وأنا أكمل:
- يا سلام؟
عندها استسلم للأمر الواقع وأنزل يديه كناية عن خسارته كما ينزلها آخر جندي في المعركة، اعتلت وجهه علامات الحزن والندم، لكنني لم أكن أعلم إذا كان ذلك تمثيل أو حقيقة، حتى قال:
- تريد أن تعرف لما فعلت ذلك؟! لأنني أغبى خلق الله على الأرض.
استمعنا إليه وفي أنفسنا أنه كما قال من أغبى ما خلق الله:
- لعلكم تذكرون حين أخبرتكم أن العدو قتل أخواتي الخمسة... لقد استدعاني القسيس ديفيد قبل أيام من قيامي بفعلتي الشنعاء وأخبرني بأنهم عثروا على واحدة من أخواتي، وأنها الناجية الوحيدة! لكنهم طلبوا مقابل حمايتهم لها أن...
- أن تضع تلك المادة في شرابي فوافقت؟
قلت مستبقاً الأحداث لأتفاجأ به يصرخ صرخة الغريق مدافعاً عن نفسه:
- لا، أقسم لك أن الأمر لم يكن كذلك! لا لقد طلب بالمقابل أن أضع في شرابك مادة منومة، ذلك أنه يخاف أن تهرب ليلاً حسب زعمه فأرادك نائماً، لكنه كذب! أعطاني مادة صنعت من أعشاب طبية، ومن أجل أختي... فكرت أنه قد لا يكون ضاراً أن أضعها في شرابك فهي مجرد مادة منومة، على أن أعتذر إليك عندما نغادر المكان وأطلعك على الأمر.
شعرت بأن هذه القصة مألوفة، كأنها مرت علي ولكني لا أستطع أن أحدد أين سمعتها من قبل.
بعدها، نظر إلينا سلام على أمل أن يرى فينا بوادر التصديق، وكان سكوتنا بمثابة إشارة له ليكمل، فقال:
- وبعد الهجمات التي تكررت، فوجئت بالقسيس وهو يخبرني أن ما أعطاني إياه لم يكن كما قال، وبأنه سيخبرك بما فعلته إن لم أستمر عليه، لقد هدد بكشف أمري، فخفت إن علمت أن تعتبرها خيانة... وهي كذلك بالفعل، لكن لو علمت، لربما هربتم وتركتموني هنا بسبب ما أقدمت عليه، فزين لي الشيطان أن أستمر على ذلك حتى نهرب، ثم أخبرك بكل شيء.
عندها اعترضت عليه جهاد سائلة:
- إذا كنت تتنتظر هروبنا بهذا الشكل كما تقول، فما هو إذاً سبب فضحك لنا وإخبارهم عن خطة الهروب؟
- الخوف...
لم نقل شيئاً، بل انتظرناه أن يوضح لنا الأمر، لكنه لم يفعل بل بقي ساكتاً في مكانه كأنه مشرد جثم هم الفقر والمرض والبرد على ظهره، ومن نظر  جهاد، بدى أنها الوحيدة التي فهمت مراده، فطلبت منه أن يوضح قصده، ليقول بخفوت:
- لقد خفت... جاءت في بالي ألف وسوسة، ماذا لو فشلت الخطة فأعادونا وعرفوا أني كنت معكم؟ ماذا لو فضحوني عندها؟ ماذا إذاً لو قتلوا أختي؟ ألا يمكن أن قيس علم بأمري أصلاً ويخطط لتركي وراءه؟ لقد خفت، خفت فقررت أن بقاءنا أفضل، ولو حبسونا سنجد طريقة للخروج ونهرب معاً.
الآن فهمت قصة نظرات جهاد، هي لم تسأله عن سبب فضحه لنا إلا لتتأكد من أن خطها نجحت، نعم... جعلتنا نخاف ذلك اليوم وهي تخبرنا عن الخطة ليس تشاؤماً أو عبثاً، لقد قصدت أن تخيفنا حتى يفضحنا الخائن ويكشف أمرنا، وبما أن شكوكها كلها كانت حول سلام، عرفت أن إخافته سيخدم غرضها لأنه كما اعترف لنا بنفسه سابقاً، جبان.
- لماذا إذاً حبسوك معنا؟
سألته ليقول بنفس الصوت المنكسر:
- أنا من طلب ذلك، لم أرد أن يكشف أمري ولا أن أترككم، لذلك جئت... إذا كان الهرب فالهرب، وإن كان الموت فأنا ذاهب معكم.
عندما بدى أن الجميع لم يعد لديه ما يشرحه وأن الستار قد أنزل فما من شيء آخر ليقال، ثار عبيد ثورة أخذت لبه، ذلك الفتى مرهف الحس رقيق الشعور صفي السريرة، قام كأنه ثور هائج وأمسك بياقة سلام صارخاً فيه:
- هذا لا يبرر لك ما فعلته يا سلام! لماذا خنت؟ هل تعلم كم تألمت وأنا أرى قيس يتعرض للأذى بينما أقف عاجزاً عن مساعدته؟! كم تألمت وأنا أرى جهاد تحرضه أن يشك فينا؟! فيني أنا؟!
ثم أفلته كأنه اشمئز منه وقال مشيراً لسلام:
- دعونا نقتل هذا الخائن!
لم تجب جهاد بشيء كأن لسان حالها: فعلت ما علي والباقي شأنكم، أما أنا فقد تذكرت أخيراً أين مر بي هذا المشهد، نعم... إنها قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسل لقريش يخبرهم بقدوم النبي صلى الله وعليه وسلم لفتح مكة حتى يحمي لأهله، كما فعل سلام حماية لأخته، فقلت بعد تذكر ذلك مبتسماً قليلاً:
- لا بأس، لقد قبلت عذره.
نظر إلي عبيد وسلام في تعجب واستنكار أشعرني بأنني نطقت بكلمة الكفر، فسارعت قائلاً:
- لا تدري لعل الله اطلع عليه وهو يجاهد كفرهم ثلاث سنين فغفر له ما تقدم من ذنبه.
لم أكن أعلم إذا كانت القصة سبب عفوي عنه أو أنني وجدت عذره مقبولاً، لكني لم أجد عليه شيئاً في قلبي، وقد بدا عبيد مستاء من ذلك فجلس في زاوية من الزنزانة صامتاً، عكس سلام الذي شكرني في امتنان وخجل دون توقف حتى ظننته سيستمر إلى أن أخبر الله يوم القيامة بأني عفوت عنه.
تذكرت أنني لم أعلم بعد عن دافع ذلك القسيس للإقدام على ما فعله، فسألت سلام قائلاً:
- صحيح أنت لم تخبرني، لماذا أمرك القسيس بذلك؟
- لا أعلم، لم يقل شيئا عن الأمر.
ثم سكت هنيهة وهو يتذكر ما مضى مستدعياً ذكرياته، حتى قال:
- ولكني أتذكر أنه قال عنك بعض الأشياء، أظنها ما دفعته ليستهدفك، كان ذلك في إحدى المرات التي كنت فيها بغرفته...

آخر الموحدينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن