لص السفينة

21 5 4
                                    

باغتنا جميعاً دخول فتى يحمل خبزاً بين يديه، كان وجهه مغبراً وعلى رأسه قبعة لونها بني كلون ثيابه الرثة، تفاجأة بنا كما تفاجأنا به لكنه لم يجد وقتاً للوقوف بسبب الحراس الذي كانوا يركضون خلفه وهم ينعتونه باللص، أسرع ليخرج من الباب الآخر لكن رجلاً من الأغنياء اعترض طريقه، ودون أن آخذ وقتي في التفكير جريت نحوه صارخاً:
- توقف مكانك أيها اللص!
محاولاً بكل قدراتي التمثيلية التي اكتسبتها في الأشهر السابقة، تظاهرت بأني أحاول القبض عليه في حين دفعت بظهري الرجل الغني فسقط أرضاً وخلا الطريق فهرب الفتى، أكملت الجري خلفه متظاهراً بأني أحاول الإمساك به، وعندما ابتعدنا عن الأنظار أمسكت به فعلاً وأنا أقول:
- اهدأ! أنا أحاول المساعدة.
لم يصدقني في البداية لكنه لم يجد إلا تصديقي حين أحكمت بيدي وثاقه وشددته إلي، نظر إلي وهو يقول مظهراً كل ما أمكنه من غضب:
- إذاً ساعدني!
حتى الأعمى كان بإمكانه معرفة أن الفتى مرتعب، أفلته بهدوء وابتعدت كي لا ينفجر قلبه من الخوف، لكنه هرب مبتعداً ولم يدع لي الفرصة لأقول شيئاً سوى كلمات قليلة:
- رقم غرفتي هو مئة وثلاثة، الطابق الثالث!
لا أدري إن كان قد سمعني، لكني تمنيت لو أنه يأتيني حتى أساعده بما أستطيع، لقد كان من الفقراء يبحث عن رزقه بلا شك، وربما له أم وإخوة يتضورون جوعاً، دعوت له في سري، وحين قابلت الحرس وسألوني عن المكان الذي اتجه منه، أشرت لهم إلى ممر مختلف عن الممر الذي ذهب منه فعلاً.
أخذ معظم الناس بالمغادرة بدءاً من الواحدة صباحاً، ورويداً رويداً خلت القاعة إلا من قلة لم يريدوا مفارقة هذه المتعة، وفي تلك الأجواء الهادئة استطعت أخيراً رؤية سلام، كان مع مجموعة صغيرة يضاحكهم ويبادلهم الحديث، وكنت أتمنى لو أكون من بينهم وأحظى بكلمة أسمعها من صاحبي، جهاد أيضاً كانت لا تزال حاضرة، لكنها كانت وحدها ترتشف القهوة وفي عينيها نظرة من يترقب شيئاً، اكتشفت أنها كانت كذلك حقاً عندما وقفت من مكانها متجهة نحو الباب، وحين كانت أمامي وقع منديلها على الأرض، كان كل شيء سريعاً لكني أدركت أنها تعمدت جعله يقع فأخذته ومددته لها قائلاً بكل لباقة:
- تفضلي منديلك يا آنسة.
شكرتني بصوت مرتفع قبل أن تهرب بضع كلمات من شفتيها:
- لا تبقى قابعاً في غرفتك أيها الأحمق!
لم نتحدث أو نلتقي منذ زمن ومع ذلك فإن أول ما تستقبلني به هو شتمي بالأحمق، لم يتسنى لي قول شيء لأنها ابتعدت فوراً بعد قول تلك الكلمات وخرجت، يا إلهي، حتى في أضيق الظروف ستجد طريقة لفرض أوامرها علي.
* * *
لماذا لا يشعر كل هؤلاء مثلي؟ لماذا لا يستطيعون إظهار أدنى اهتمام للفقراء؟ كنت طوال الوقت أرى طعاماً يرمى، لم يخطر لهم أن يعطوه للجوعى الذين تحتنا، أو ربما خطر لهم ذلك لكنهم لم يحسوا بأنه شيء مهم، مجرد بشر أدنى مكانة، هم والبهائم سواء، معذرة، البهائم أهم! لأنها تنفع بلبنها ولحمها وصوفها لكن هؤلاء مجرد حمقى عديمي الفائدة!
وإن كنت أكره ذلك، إلا أنني اضطررت للخروج من غرفتي في الأيام القادمة، غالباً في الصباح الباكر حتى لا اضطر لمخالطة أحد، وذلك درءًا للشبهات، لكني ظللت أتساءل هل كنا نحتاط أكثر من اللازم؟ أم كان لا بد منه وأكثر؟
وفي ليلة من الليال التي لم أتوقع فيها شيئاً غير اعتيادي، حصل شيء غير اعتيادي، فقد دخل أحدهم علي بغتة وأغلق الباب خلفه سريعاً، كان يلهث وجبينه يتصبب عرقاً، لم أحتج لأكثر من ثواني معدودة حتى أكتشف أنه نفس الفتى الذي أعطيته رقم غرفتي، اقترب قليلاً ثم خر راكعاً أمامي والكلمات تخرج منه بصعوبة بفعل بكائه:
- ماري... ماري... أرجوك سيدي... أرجوك أنقذ أختي ماري...
نزلت من فراشي إليه ووضعت يدي على كتفه قائلاً:
- اهدأ، ما الذي حدث؟
أخذ بيدي من كتفه وألصقها بوجهه يتوسلني:
- لا أعلم إن كنت صادقاً ذلك اليوم... ولم أكن لآتي لو لم أكن مضطراً، لكن أختي تموت يا سيدي، إنها تموت...
ثم فاضت عينيه كأنها نهر جار، وكادت عيناي تلحقان به لو لم أتماسك، لقد كان يشعر بمرارة الذل، الحاجة، العجز، شعر بكل شيء قد يقهر روح رجل لا يستطيع سوى الوقوف ومشاهدة الموت يأخذ أحبته، لقد كان هذا الفتى الذي اضطرته الحاجة إلى السرقة يوماً، يكاد الآن يوافق على تقبيل رجلاي لو طلبت منه من شدة ما هو فيه.
- قل لي ما اسمك؟
سألته ليقول متلعثماً:
- مارسيل... اسمي مارسيل.
- حسناً، خذني إلى أختك يا مارسيل!
قلت دون تردد ودون أن أسأله حتى عن حالتها وسبب قربها من الموت، قررت أني سأساعدها مهما كان الثمن ومهما تطلبه الأمر، نظر إلي غير مصدق لكني لم أمهله ليفكر بل وقفت آخذاً بيده ومتجهاً نحو الباب، إلا أنه استوقفني قائلاً:
- ستنزل معي للأسفل؟!
- نعم، لم يرك أحد أليس كذلك؟
أشار لي برأسه نافياً، قبل أن يسألني:
- لماذا تفعل ذلك؟ لماذا تساعدني؟
سحبته بقوة أكبر وأنا أقول له:
- ليس هذا وقته، يجب الآن أن ننقذ أختك.
بذلنا جهدناً حتى لا يرانا أحد واستطعنا ذلك رغم صعوبته، أنزلني مارسيل من درج يوصل إلى طابق تفوح منه رائحة القذارة والعفن وأكثر زواياه مظلمة، تماماً كأوجه من فيه باختلاف أعمارهم، لم تكن فيه غرف كغرفنا وإنما أماكن رثة للجلوس يتزاحم عليها الرجال والنساء، لكن لحسن حظ أخته فقد كانت الجالسة قربها شابة طيبة لم تمانع الجلوس على الأرض حتى تستلقي أخته، فوجئت بما لم أتوقعه عند رؤيتها، وكان هذا خارج تصوراتي وما يمكنني التعامل معه وحدي، كانت أخته حامل على وشك الولادة، لكن الأمور لم تسر على ما يرام فاحتاجت إلى تدخل طبي، لم أرد أن يشعر مارسيل بما راودني، فسألت في حزم:
- أليست هناك طبيبة هنا؟! أو قابلة؟ أي أحد لديه خبرة؟!
- بلى يوجد، يوجد هناك.
قال مارسيل وأشار لمكان سيدة عجوز بشعة المنظر ترمقنا بغضب، فسألت مارسيل متعجباً:
- لماذا لا تطلبون منها المساعدة إذاً؟!
لم أدع مارسيل يشرح لي الوضع بل ذهبت نحو العجوز مسرعاً، فقالت فور اقترابي:
- اغرب عن وجهي.
- الحالة طارئة يا سيدتي، لماذا لا تريدين المساعدة؟!
- ليس لديهم مال!
صعقت من ردها، ستدع امرأة وطفلها يموتان لأنهما لا يملكان بضع قطع لا تشترى بها حياة؟! أين نحن؟! ما هذا المكان؟! وما هذا الجنون؟! لم استطع منع نفسي من الصراخ عليها:
- فقط بسبب المال؟!
- فقط؟! أنت كلب يتبرز الذهب لذا تستطيع أن تقول "فقط"، أنت لم تعش ما عشناه ولا تعرف معنى الفقر والجوع والحاجة التي تجبرنا على مثل هذه الأفعال، أنا أتقوت من عملي هذا فإما أن آخذ أجراً أو أموت.
حتى قبل أن تُسأل عن ثمن عملها، وجدت العجوز صرة من المال بين يديها قد أُلقت مني، اكتفيت بنظرة حزم وتصميم، بينما علا وجهها نظرات لم أعتقد أني سآراها إلا على وجه أهل الأعراف إذا دخلوا الجنة، سارعت دون تعليق إلى أخت مارسيل وطلبت المساعدة من أخريات، وعدتهن جميعاً بأجر يغطي نفقاتهن حتى نهاية السنة، فأصبحت ماري فجأة محاطة بالكثير من النسوة اللاتي يحرصن على حياتها كما يحرص الخادم على آواني سيده.
ابتعدنا أنا ومارسيل وجلسنا في أحد الأماكن الفارغة ننتظر البشرى، الحق أن تلك العجوز كانت صاحبة لسان سليط وكلمات بذيئة جداً، لكنها كانت بارعة في عملها ومتقنة له، سمعتها تلقي أومر غاية في الدقة ورأيتها تتصرف وتفكر باحترافية.
بالنسبة لنا كان ما تطلبه الأمر من وقت هي ساعات طويلة، لم يكن كذلك فعلاً لكن قلة صبرنا وتشوفنا لما يطمئن من أخبار أوهمنا بذلك، لا أعلم على وجه التحديد كم انتظرنا حقاً، لكن ما أعلمه أنني كنت قلقاً على ماري وكأنني أب الطفل! وكنت أساند مارسيل كأنني أخوه، أمسكت بإحدى يديه وشددت عليها حين رأيته يحركها في توتر، وأتبعت ذلك بنظرة حانية هدأته قليلاً، ولكنها جعلته يتوتر توتراً مختلفاً، كأنه شعر بالخجل، هل كان خجلاً من كونه أصيب بالقلق في موقف يتطلب الثبات؟ لم أعرف جواب ذلك، ولم يكن الوقت مناسباً للتفكير فيه.
أخيراً، استهل الرضيع صارخاً وجلجل صوته في المكان، وثبنا أنا ومارسيل فرحين كأننا أبطال ينادى عليهم لمكافأتهم وهرولنا نحو العجوز، أعطتني الطفل الذي كان في غاية النعومة والبراءة فقربته مني بكل رقة وحنان بينما اكتفى مارسيل بقبلة على رأسه وتوجه بعدها إلى ماري التي لم تكن بكامل وعيها:
- ماري، ماري هل أنتِ بخير الآن؟
لم تفتح عينيها لكن صوتاً ضعيفاً خرج منها:
- راشيل...
فوجئت من الإسم الذي سمعته، أو ربما لم أسمعه بشكل صحيح؟ مما بدا لي أن الفتى توجس من نطق أخته لاسمه خطأ، ولم آبه بذلك حتى كررت أخته قائلة بصوت أوضح:
- راشيل... راشيل...
انتفضت سائلاً الفتى في ذهول:
- أنتِ فتاة؟!
نظراته أكدت لي ما خطف ذهني، إنها فتاة متنكرة على هيئة صبي وقد حرفت اسمها من راشيل لمارسيل، لهذا كانت تخجل كالفتيات! عجز لساني عن التعبير ووقفت متصنماً بينما بدأ الطفل في البكاء، أخذته العجوز لتعطيه من يرضعه وأنا لا أتساءل إلا حول شيء واحد: لماذا؟!
* * *
أعطيت للنسوة ما وعدتهن به، وتُركت ماري لترتاح بعد أن علمنا أن حالتها مستقرة وستتحسن بمرور الوقت، لكن لم يتنهي كل شيء هنا، كنت أقف أمام الدرج للذهاب وأنا لم أخاطب راشيل منذ علمت أنها فتاة، لكنها استوقفتني واضعة يدها على كتفي فكادت تطيرني من مكاني، إنها ليست فتى بل فتاة، لا يمكنها لمسي بعد الآن.
فهمت راشيل من ابتعادي عنها أني غاضب منها، فانحت بكامل رأسها وهي تقول:
- آسفة جداً!
- أنا... أنا لست منزعجاً مما فعلته.
رفعت رأسها قليلاً وهي تسأل:
- لكنك لم تكلمني، بدوت متضايقاً.
تنهدت في أسف ثم قلت:
- لا يا راشيل، لقد صدمت فقط متسائلاً عما جعل فتاة صغيرة مثلك تضطر للجوء إلى هذه الحيلة.
- أنا لست صغيرة سيدي! عمري ستة عشرة سنة!
أجابت وهي ترفع جذعها بكل حماس ونشاط، أسعدني أنها كانت تبدو أحسن حالاً، لكنها لم تجب عن تساؤلاتي، وحين اعتقدت أن علي الانسحاب لأن هذا لا يخصني، قالت:
- إنها الظروف يا سيدي، لم أستطع إيجاد عمل في المدينة وأنا فتاة، ولكن حين تنكرت كصبي وجدت عملاً، وحتى في السفينة قبلوني للعمل مع البحارة... لأنهم يعتقدون أنني صبي.
- آسف من أجلك، لكن لن تضطري للعمل مع البحارة بعد الآن، يمكنني أن أتكفل بنفقاتكم في السفينة.
نكست رأسها وهي تشكرني بامتنان، لكنها أضافت:
- حتى لو فعلت ذلك الآن فأنت لن تظل معنا للأبد، سأستمر في العمل مع البحارة لأني سأحتاج هذا المال لأنفق علي وعلى أختي... وابنها أيضاً عندما نصل إلى البر.
تألم قلبي على حال هذه الفتاة، ما الذي تقاسيه وسط أولئك الرجال؟! وكم من فتاة أخرى مثلها لا يعلم عن معاناتها شيئاً إلا الله؟..
- وأنت! لم تقل لي لماذا؟!
سألتني راشيل فجأة لينقطع حبل أفكاري، سألتها في استغراب عن قصدها فقالت:
- سألتك سابقاً لكنك لم تجب، لماذا تساعدني يا سيدي؟!
- أها.
أرخيت كتفي مبتسماً في لطف، وأجبتها:
- لأن النبي الذي أؤمن به يأمرني بذلك.
- ومن هذا النبي؟ وما دينه؟
تأملتها قليلاً قبل أن أقول بشجاعة مفاجئة:
- الإسلام... لماذا؟ مهتمة به؟
- لا، ولم أسمع به من قبل، لكن نبيك شخص متحضر وعطوف جداً.
تمنيت لو أنها أبدت اهتماماً بديني وسألت عنه أكثر، لكن ذلك كان آخر ما تفوهَت به قبل أن تشكرني وتنصرف، من يدري، لعلها أول خطوة لطريق الهداية.
* * *
كنا لنصل إلى وجهتنا في موعدها لولا أن الرياح توقفت تماماً ونحن وسط البحر، فاضطررنا لانتظار هبوبها من جديد، كانت ساعات هادئة، وسكن فيها الناس كسكون الريح، فقررت أن أخرج إلى السطح لأتأمل البحر، ولم يخب ظني فقد رأيته أجمل مما تصورته، كان يلمع بفعل انعكاس أشعة الشمس عليه وأمواجه تتحرك بهدوء بعضها فوق بعض، استنشقت الهواء حتى ملأت رئتاي وأحسست بالإنتعاش المحبب إلى النفس.
- يا لك من ضعيف! أسرع في حملها هيا!
نظرت خلفي إثر ذلك الصوت المرتفع، كان صاحبه بحاراً ضخم الجثة حليق الرأس، ورغم أن من كان يقف أمامه هو جسد نحيل هزيل إلا أنه لم رحمه، بل أخذ يشتمه ويعنفه ليعجل في نقل صندوق إلى المستودع، هالني أن ذاك الضعيف الذي كان يعامل معاملة قاسية ما هي إلا راشيل، ونال ذلك من نفسي، إلا أنني بقيت أراقب بصمت دون أن أتدخل حتى تعدى ذلك البحار في تعنيفه من الكلام إلى الضرب، فلم أشعر بنفسي إلا وأنا أقف بين البحار وراشيل الممدة أرضاً وأقول في حزم ممزوج باللين:
- سيدي من فضلك، الفتى صغير ولا يمكنه حمل الصندوق وحده.
نظر إلي كأنه يقيم مظهري ومكانتي، وبعد أن تبدى له أنني من النبلاء، انصرف وهو يأمر رجلين بحمل الصندوق، شعرت بالحنق، ياله من سيء خبيث قاسي القلب، الآن عندما يتعلق الأمر بالبحارة وليس الفقراء يريد أن يحمل الصندوق رجلين؟!
جثوت على ركبتي لأكون بمستوى راشيل وسألتها إن كانت بخير، حكت رأس أنفها وقالت في مرح لم أتوقعه:
- لا عليك أنا معتادة على ذلك.
ثم وقفت في نشاط قائلة:
- والآن علي الذهاب ومساعدتهم وإلا رموني في البحر!
- انتظري...
وقفت ثم سألتها والتألم من أجلها لم يفارقني:
- لا تترددي إذا احتجت أنت أو ماري للمساعدة.
عبس وجهها مع ذكري لاسم أختها، وتمتمت:
- ماري... نعم، إنها تحتاج المساعدة، ولا أعرف كيف أساعدها.
- ما المشكلة؟ ما الذي تحتاج إليه؟ هل الطفل بخير؟
- هو بخير، لكن ماري... أصابها حزن شديد لم يفارقها منذ ولدته.
أطلقت تنهيدة نقلت عدوى الإطمئنان لراشيل التي قالت:
- لا تبدو قلقاً، ما الأمر؟
- راشيل، لا تخافي، هذا أمر معتاد حدوثه، فالمرأة بعد أن تضع طفلها تشعر بالمسؤولية، خصوصاً إذا كانت فقيرة نوعاً ما فستشعر بعبء النفقة والتربية.
ثم أضفت مشجعاً:
- ولكن ما دام لديها أنتِ فعليها ألا تقلق من شيء، أخبريها بذلك.
ابتسمت راشيل ابتسامة عريضة وهي تخبرني بأنها ستفعل قبل أن تظهر في عينيها نظرات لم أستطع تفسيرها، قالت:
- أنت ذكي.
- أنا؟
- نعم، ذكي وشجاع وقوي ورائع وكريم، ومن النبلاء أيضاً، أنت رجل مثالي، لا شك أن الفتاة التي معك محظوظة.
- أي فتاة تقصدين؟
نظرت إلي مستغربة قبل أن تسأل:
- حبيبتك، أليست عندك حبيبة؟!
تباً، كنت من النبلاء، ومن المنطقي أن يكون عند هؤلاء ما تسميه "حبيبة"، ترددت وتلعثمت قائلاً:
- لا، ليس عندي...
- حقاً؟! رجل مثلك وليس عنده حبيبة؟ لا بد أنه القدر إذاً.
لم تكن تقولها بتعجب بل بسعادة، على الأقل كما بدا لي، رفعت قبعتها وهي تستأذن ثم ركضت مسرعة لتلبية أوامر البحارة.
نسيت حوارنا هذا وأنا أستذكر ما قالته عن أختها، ولسبب ما قررت زيارتها، فلم أكن مطمئناً عليها بالقدر الذي أوحيته لراشيل، ليس فقط لأني أخبرتها بشيء لست متأكداً منه بخصوص أنه أمر معتاد حدوثه للنساء، بل لأني كنت أريد أن تحل هذه الحكاية قبل أن نصل إلى البر، حتى أكون مطمئناً تماماً على هذه العائلة الصغيرة.
- رحمتك يا رب...
قلت ذلك بالعربية وأنا لا أشعر بنفسي، فلسبب أجهله، أصابتني قشعريرة مفاجئة واستولى على فؤاد وعقلي نفس الشعور الذي خالجني قبل أن تنقلب سفينتنا ذلك اليوم، حين رأيت جلال لآخر مرة وهو يقاوم الموج، وهو ذاته الشعور الذي شعرت به قبل أن يفتك بنا الكفار على الميناء، إنه نفس الشعور الذي أشعر به قبل حدوث أي شيء سيء للغاية...
أسرعت الخطى نحو ماري ولم آبه كثيراً بألا يمسك بي الحرس، أقصى ما كان في أيديهم فعله على كل حال هو تحذيري من خطورة أولئك "المشردين عديمي القيمة" على حد تعبيرهم.
كانت ماري جالسة تنظر للفراغ بينما طفلها نائم في حضنها وبكفه الصغيرة كانت هناك خصلة من شعر أمه الطويل، كأنه يطلب منها أن تتماسك بالحياة كما يتمسك هو بها.
سمحَت لي الشابة الجالسة أمامها بالجلوس في مقعدها ريثما أتحدث مع ماري، شكرتها ممتناً ثم هممت بالجلوس لكنها أوقفتني وهي تهمس:
- حالتها سيئة، إنها لا تكاد تأكل شيئاً ولا تتحدث إلا قليلاً، حتى أننا اضطررنا لإيجاد من يرضع طفلها ويهتم به لأنها لا تريد فعل ذلك، بل إنها تشك أحياناً بأن الطفل ليس طفلها!
كان طمئنتي لراشيل ضرباً من الخداع، أختها لم تكن تمر بحالة معتادة مما تمر به النساء، الأمر أكبر من ذلك بكثير، لو علمت أنها غير آبهة بطفلها حتى، ما الذي يفترض بي فعله الآن؟ حسناً ما دمت أتيت إلى هنا، سأجلس معها على الأقل فربما يمكنني المساعدة بشيء ما.
كانت جفونها السوداء تدل جلياً على حقيقة أنها لم تنم منذ أيام، حاولت أن أفتح معها حواراً، لكنها بدأت تبكي بقوة وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة، حتى أن طفلها استيقظ وبدأ بالبكاء هو الآخر، أخذته الشابة الجالسة قربنا وابتعدت بالطفل فهدأت ماري، حينها اقتنصت الفرصة وسألتها:
- آنسة ماري، أرجوك أخبريني ما المشكلة؟
- ما المشكلة؟! كل شيء مشكلة! ألا تفهم؟!
صرخت بذلك ثم عادت للبكاء، فهمت عندئذ أن وجودي لن يزيد حالتها إلا سوءا فأسرعت بالذهاب، تخيلت في طريقي لغرفتي كل الحلول الممكنة، هل أكلم جهاد؟ أم أنها ستقتلني لأني حشرت نفسي في هذه المشكلة منذ البداية، وهل ستعرف أصلاً كيف تتعامل مع ماري؟ آل قراري في نهاية المطاف أن ترك ماري وحدها لفترة سيكون العلاج الأفضل لها، ولكن ذلك الشعور السيء، لم يفارقني رغم ذلك.
قررت أن أخرج لأستنشق الهواء لعله يذهب عني ما أجد، فوقفت أتأمل البحر متحضراً ليالي السمر التي تمتعت بها مع جلال، كم كانت أيام قصيرة ومعدودة، الآن، أتعجب من نفسي كيف كنت أتمنى أيامها أن نصل للبر بدل البقاء مع جلال في البحر إلى الأبد...
لسوء حظي رآني ذلك الرجل الذي راقص جهاد في الحفلة، ولسبب ما أقبل إلي ووقف قبالة البحر معي، لم يقل شيئاً في الدقائق الأولى حتى كدت أذهب.
- إلى أين؟
- غرفتي.
- ألن تقف معي؟ لدي أخبار عن تلك الفتاة.
- لا أعرف عن أي فتاة تتحدث.
- نعم بالطبع، لكن أتعلم لقد دخل أحد إلى غرفة جلنار بالأمس.
تبدل مزاجي الجيد إلى ظلمات من الغضب، لقد كان هذا الرجل يقصد ذلك، فبذلت جهداً جباراً لكتم غضبي، لكني لم أستطع إخفاء اهتمامي:
- متى؟ ومن ذاك الشخص؟!
- إنه أنا بالطبع.
لم تسعفني الشتائم، هل يحاول استفزازي أم أنه جاد؟! ولماذا يخبرني بذلك؟ لأهدأ قليلاً، فحتى لو كان ذلك صحيحاً، جهاد ستريه أن النساء يمكن أن يصبحن خطيرات في بعض الأحيان، لكن تباً! ماذا لو أنها كعادتها السخيفة ذهب التمثيل بها كل مذهب؟!
استغفرت، لقد كانت تلك شكوك التي تأكل عصبي في غير محلها، بل كانت الجنون بعينه، استدرت تاركاً الرجل وأنا أخبر نفسي أنه كاذب، لكنني كنت الكاذب الذي يخدع نفسه، اتجهت إلى غرفة جهاد وطرقت الباب بقوة لكن أحداً لم يجب، فوضعت يدي على قبضته لأفتحه لكنه كان مغلقاً.
- نعم؟
التفت نحو جهاد التي كانت خلفي، واقتربت مني بهدوء بينما هرولت نحوها أسألها في حدة:
- من دخل غرفتك أمس؟!
أجابتني باستغراب:
- معذرة سيدي، لا بد أنك أخطأت في رقم الغرفة.
- جهاد كفاكِ تمثيلاً، لا أحد هنا.
تلفتت حولها مذعورة قبل أن تصب جام غضبها المكبوت علي:
- غبي، غبي، أنت والله غبي! من الذي سأدخله لغرفتي؟!
شعرت بالغباء فعلاً، وبالاحراج الشديد يهبط علي فجأة، ما الذي دار في خلدي؟ ولما اندفعت هكذا؟ ما الذي يحدث لي فجأة! ابتعدت وأنا أتمتم بكلمات الاعتذار، لاعناً في نفسي المكان الذي التقيت به ذلك الرجل الخبيث الذي لم يكن له من هدف إلا نشر الفساد، هل كان كذلك؟ حين هدأت قليلاً وجلست مع نفسي لاحقاً أخذت أتساءل لما يسعى ذلك الرجل ورائنا بشكل محموم هكذا، وهل كان ذلك طبعه أم يتعمد فعله معنا لأهداف خفية؟..
* * *
هبت الرياح التي انتظرناها طوال اليوم، لكن بغير ما تشتهيه السفن، فقد كانت مصحوبة بعاصفة تزدادت شدتها شيئا فشيئاً، أخذ القبطان يلقي أوامره الصارمة على البحارة الذين كانوا يتحركون بسرعة ويتعاونون بشكل غير معهود كأنهم يد واحدة، وبقدر ما كان تناغمهم مطمئناً، أثار قلق الناظرين، لأن الإنسان -خصوصاً مثل هؤلاء المعتدين بذواتهم- لا يقهر كبره وعناده إلا في أوقات الخطر.
اسودت السماء تزامناً مع اشتداد تحرك أمواج البحر، وبدأ قلق حقيقي يلف جميع الركاب، وكنت منهم، لكني لم أشأ أن أعود إلى غرفتي، قررت البقاء على السطح ومشاهدة ما سيحدث، لا لأنني مستمتع به، بل لأنه أكثر منظر يعيد ارتباطي بجلال ويجعلني لصيق ذكرياتي معه، جلال الذي فقد يوماً في أجواء مشابهة... أو هكذا اعتقدت أنها كانت، أجواء مشابهة، حتى كشف لي البحر عن أخطر ما فيه، ربما انتقاماً مني على إهانتي التي تمثلت في قراري بالمشاهدة، وربما تلطفاً بي حتى أعيش الأجواء أكثر، لكنها كانت على كل حال أسوأ بكثير من أي عاصفة شاهدتها، تجاوزت الأمواج كل قواعد المنطق وارتفعت علينا كأنها جبل، أخذ الماء في جر كل شيء لم يكن متمسكاً على السطح، وكدت أكون منهم لولا أني تمسكت بإحدى الصواري، كان البحار يخاطرون بحياتهم كل مرة يتحركون فيها دون شيء يمسكونه، آنذاك لمحتها، أبرقت السماء بريقاً دام ثواني مكنتني من رؤية راشيل رأي العين، كانت تشد حبلاً قبل أن تمر موجة عالية وتحاول أخذها معها ناحية البحر، لكن قبل أن تسقط من السفينة أمسكتُ بحبل كان حول الصارية وسبحت نحو راشيل ممسكاً بالحبل، شعرت به يدمي أصابعي من قوة الشد، لكني لم أكن في تلك اللحظة آبالي بشيء سوى إنقاذ راشيل، وقبل ثانية من تجاوزها حدود السفينة أحكمت يدي على ياقتها وقربها مني حتى أمسكتني، عدنا إلى الصارية والتصقنا بها كأننا جزء منها، ولو لم يكن في السفينة أصحابي لقلت بأنني الرجل الوحيد الذي يدعو الله فيها بالنجاة.
- لقد أنقذت حياتي... شكراً!
قالت راشيل بأعلى صوت أمكنها ثم عانقتني بقوة، لم أعرف أكانت تفعل ذلك تمسكاً بي حتى لا تسقط، أم أنها كانت تحضنني، وبقدر ما شعرت بالضيق، علمت أني غير قادر على إبعادها في هذه الظروف، لكني تظاهرت بأني أحاول حمايتها وأبعدتها عن عنقي أحتويها بذراعي عوضاً أن تفعل هي ذلك.
ظللنا هكذا وقتاً لا نعلم مداه حتى ظهر شبح إنسان يمشي على السفينة، لم يكن كالبقية يحاول التمسك بأي شيء والهروب من سلطة البحر، لكنه كان يتجه نحوه بقدميه، ومع اقترابه أكثر وأكثر بدأت صيحات طفل رضيع تتعالى، كان رأس راشيل حينها على صدري وذراعي فوقها، لذا لم تسمع شيئاً مما سمعته، كما لم ترى الشيء الذي رأيته، ماري ومعها طفلها تقفز في البحر!
كان إنقاذها قبل أن ترمي نفسها في البحر مستحيلاً بكل المقاييس، احترت في ذهول لما لا يتعدى الثانية الواحدة وأنا أتساءل إن كان علي ترك راشيل والذهاب لإنقاذ أختها مع الطفل، لكن قفزها دون تردد كان الجواب الذي أرغمت على قبوله.
- ما... ماري!
في تلك اللحظة بالذات، رفعت راشيل ناظريها ورأت أختها بوضوح وهي تقفز، كان صوت راشيل وهي تنادي مبحوحاً ومليئاً بشيء نسميه عدم التصديق، حاولت دفعي واللحاق بأختها لعلها تنقذها لكني قربتها مني أكثر وأحطتها بيداي، ولو لم أكن مشودواً بالحبل حينها لذهبنا مع الأمواج، ولكم تمنت راشيل ذلك، لكني لم أسمح بحدوثه حتى حين بدأت تلكمني وتضربني في كل مكان بقوة لم تملك نصفها أثناء العمل، أصابت أذني بكوعها فأصدر طنيناً صدع رأسي، لكني تحملت جميع ما كان يصيبني منها وأنا أعرف جيداً ما تشعر به في تلك اللحظة، لقد عاينت هذه المشاعرة ورأيت كهذه المناظر يوم الميناء، ولكن حتى هذه الفتاة الهزيلة كانت أشجع وأقوى مني... لقد هربتُ يومها للسفينة بإرادتي بينما تريد هي الهروب من السفينة رغماً عن إرادتي.

آخر الموحدينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن