ما الغاية؟

14 3 0
                                    

لطالما عجَّلتُ بمنيِّتي عند لحظاتِ يأسي، فلم تكن سوى مُنْيَتي التي أرغب وأرهب. سمعتُ عن مجرمٍ يذبح ضحاياه فيُرديهم قتلى بأبشع ميتة، لا جَرَم أنها مُنيته ولَذَّته، ولا شك عندي أن كل ضحيِّةٍ لاقت مُناها ومبتغاها. ليتني حللت محلَّ أحدهم، لعلِّي أرى الموت أقرب لي من أي شيء كان قبلًا، فما الذي أخشاهُ إن هانت عليَّ الدُّنيا وشريتها بالموت؟ آهٍ منه فَوَاحَرَّ شوقي ويا شغفي!

...

لا أقدر على عدِّ من أهلكت أبدانهم وجزَّرتُها، ولا أعرف أيُّهما أنا؟ لي زوجةٌ وبنات ألطف عليَّ وأحنُّ من أي شيء لاقيته قط، ومُتْن بين يدي على يدي بنشوةٍ لم تنفد وتنفكُّ عني. ولم أكن هكذا يومًا إلا ليلةٌ فاح فيها الدم كعبير الورد فلا أطيب منه طِيبٌ ولا أنعشَ منهُ عطرًا، فإذا بي أسفك دم أهل بيتي لأجد ريح دمائهن وما أحلاه من ريحٍ ودم!

من بعدهن.. من بعدهن كم لاقيت من جسدٍ؟ وكم سال عليَّ دَمُ؟ بتُّ أنام متسائلًا: ما أطيَبُ الريح؟ فلا أبرح ليلتي إلا وأنا أتحسس من تصلح مباغتته لعلي به أجد جواب السؤال لأنام متنعِّمًا قانعًا.

وفي ليلةٍ أيُّ ليلةٍ عندي، وجدت دمًا شذاه أطيبُ من ريح المسكِ، غير أنَّ المسك بعضُ دم الغزالِ وما شذى في أنفي كان بعضُ دم الإنسانِ. رأيتُهُ يبكي مفجوعًا قبل أن يراني، فما لَهُ من حزنٍ يعتريه في ليلةٍ ظلماء مسدلةً بظلالها على كلِّ جانب؟ فأحببت أن أنصت شيئًا لما يقول؛ لعلي بهذا أبلُغ في مقتله غاية التفنن كما اعتدت أن أصنع. فكان مما قاله: "سمعتُ عن مجرمٍ يذبح ضحاياه فيُرديهم قتلى بأبشع ميتة، لا جَرَم أنها مُنيته ولَذَّته". فسهوتُ لاهيًا للحظة لم تطُل، أهي مُنيةٌ ولَذة؟ فلم يبرح الجواب منتظرًا بل خرج على لساني بـ إي والله! وبعد فكرٍ سمعتُهُ يقول: "ليتني حللت محلَّ أحدهم، لعلِّي أرى الموت أقرب لي من أي شيء كان قبلًا، فما الذي أخشاهُ إن هانت عليَّ الدُّنيا وشريتها بالموت؟ آهٍ منه فَوَاحَرَّ شوقي ويا شغفي!". فكأن قلبي حينها طار فرحًا، أيظنُّ بأنِّي راحمه أو أنه جاهلٌ بقبيح فعلي؟

انتظرتُ نومه دون تخطيطٍ لمقتله؛ خشية انتحاره من مساوئ تفكيره، ولم يكن معي سوى بضع أدواتٍ أساسية ممتعة، ساطورٌ للعظام، وخنجرٌ أطعن فيه، ونصلٌ قصيرٌ له حدَّةٌ تفتك بالحديد البارد، وحبلٌ لا بد منه وما أسكته وأخرسه فيه. أيقظته مكتومًا وربطت ذراعيه ربطًا، وجررته معي حتى مساحة تتسع لاجتثاث أطرافه ورميها بعد استمتاعي بها. عرفني حين رآني، ويا لرهبته مني كأنّي أنا الموتُ لا الموتَ المعروف، فمسكت يده ويا لدفء دمه، أشهيٌّ كما أرغب؟ فأخذت خنجري وطعنتها بين كفِّه ومرفقه، ولم يشغلني صريخه واصطراخه ألمًا، ثم كسَّرتُ عظام أصابعه ومفاصله شيئًا شيئًا.

ويا لَذَّة صوته الذي انبحَّ وخبُت، فسالت دما أصابعه وكفِّه، فربطتها حتى لا يسيل أكثر، ولم أقِف ها هنا فقد أتيت بنصلي وببطءٍ مررته على مرفقه، حتى خبطت ذراعه بالأرض، وأوقفت نزيفه سريعًا وأمسكت بها، ويا لريحها وشذاها، يا لعطرها الأخَّاذ الماتع! نزعت جلدها وعصرت لحمها، وبتُّ كالمجنونِ عند دمائه! عدت له ولم أرَ من وجهه إلا الدموع التي تكاد تسيل دمًا، فما تركته مما فعلت إلا لمَّا لم يبق منه إلا البدن دون أطرافه، ولم أشبع منه ولكن علَّه يموتُ ميتةً لم تكُن لغيره إن شققت صدره وهو حي، فإني أريد قلبه، قلبه الذي أورد لي الدماء بأطرافه! وفعلتها ولم أكن بفاعلِها قبلُ، فبالنَّصلِ شققته وبخنجري طعنتهُ واجتثثته، وبتُّ ألعب به وأتمتع وهو مَيْتٌ كأنه لم يحيَ أبدًا، كان للقلبِ نبضاتٌ قليلةٌ أوَّل لهوي به حتى سَكَن، فسَكَنتُ معه وتنبَّهت، فأخفيت جُرمي وهربت.

...

أيقظني من منامي ما ابتغيته بلساني، فرأيتُ القاتل كاتمًا نَفَسي، شديد القوة لم أقدر عليه، نظرتُ له ولِما حولي بعينٍ ترى الموت لا مِريةَ فيه، فحَضَرني ما تعجَّبتُ منه: "بتُّ الضحية بعد أمانيَّ فما لي من سبيلٍ عليها؟". وبُرهة يقيني بضعفي وقلة حيلتي، سَرَت قشعريرةٌ أحسست بها على جلدي كمسرى الدم في وريدي، وكاد الخوف أن يُجري الدمع في عَيْنَيَّ، وليس لي من حولٍ أو قوةٍ لأنطق بحرف، فكنتُ أرى ما أرى بوعيٍ حتى علمت النهاية قبل كونها.

حينما أبصرتُ خنجره يرتفع بمترٍ عني اتَّسع بؤبؤَيَّ رعبًا، وفاضت مني كل دمعةٍ من ألم طعنته التي ثقبت ذراعي، فأدركت سوء أمنيةٍ خالجها العذاب في السير إليها! وما زاد بي ذعرًا إلا ساطورٌ يلمع بضيِّ بدر السماء، لامعٌ كأن لم يمسسه شيء، فَعَلا عُلُوًّا حتى نزل فاصلًا لكل مفصل، فأفقدني الوجع عقلي، وأوعى منه لاحظًا إصبعًا يطير من قوة ما حطَّمه عن كفِّي، والدمع بات كنزيف دمٍ تحرَّق مما ألمَّ بي من أذًى.

متُّ ألمًا في كل مرةٍ أرفع فيها جفناي، حتى لمحتُ من خلف الدموعِ نصلًا ينتصف صدري، يتحرك إلى عنقي ويرجع... إلى أن نَصَف ضلوعي بلحمها.

بَدَت معالم اليأس ومنتهاه على وجهي، غير أنَّها ظاهرةٌ فيما صُنع ببدني، أيُّ مُنيةٍ تمنَّيتُ حتى ألقى ما لاقيت؟ اسودَّ اليأس على محيطي، حتى أظلَّ بظلِّه على ما أحاط بي وصولًا إلى عيني، فـ متُّ حقًّا.

ما الغاية؟حيث تعيش القصص. اكتشف الآن