🌼🤍🌼

0 0 0
                                    

     تمسكت بمقبض حقيبتها بشدة ، و أجالت النظر في ماحولها متوجسة ، حذرة ، غير مطمئنة ،  أناس من مختلف الأعمار يهرولون ، و قد بدوا لها جميعا غير أمناء ، سحناتهم مسودة الى حد غريب ، عابسة ، متجهمة ...
أبصرت القطار يقترب ناحيتها و هو يترنح على سكة الحديد ، فحمدت الله على مجيئه المبكر خلال هذا الوقت العصيب ،  و لما توقف ، تقيأ عدد كبير من الركاب ، كثيرون منهم شرعوا في جر حقائب ذات عجلات صغيرة فملأت الفضاء بصريرها المزعج  ، و رأت شيوخا و عجائز يحملون سلالا مثقلة بالمتاع ، و شباب يحثون الخطى الى حيث لا تعلم ، تفحصتهم فردا فردا لعلها تجده من بينهم ، فلم تعثر عليه ، حيث بدؤوا مختلفين عنه الى حد بعيد فهي كلما أبصرته ، تعتقد أنها ترى هالة مشرقة محيطة به فتميزه عن غيره .
مرت من أمامها حشود كبيرة من الناس متخذين سبيلهم بعيدا عن هذا المكان ، فإشتد خوفها ، و تصبب العرق على جبينها ، و أخذت الهواجس تنهش عقلها ، هل تراه قد تخلى عنها أخيرا ؟ هل فعلها ؟ ...
ارسلت نظرها بعيدا ، فإصطدم بالأفق الأرجواني الخجول ، بدأ و كأنه طفل يقتعد مقعدا في مؤخرة الصف ، يحاول قدر الإمكان عدم تأكيد وجوده رغم امارات الذكاء التي تبدو جلية عليه ، فيختبأ خلف أشجار السرو البعيدة و المباني الشاهقة .
ظل القطار ثابت دون حراك ينتظر المزيد من المسافرين ، و أحيانا ينادي عليهم من خلال تصفيراته المتتالية ، بل جعل يتوسل إليهم ! هكذا بدا لها ، أبصرت طفلة تمسك بيمينها مصاصة بطعم الفراولة تقوم بلعقها بين الفينة و الأخرى ، و أما يسراها فهي مشدودة الى يد سيدة  تحمل الكثير من المتاع ، تضم إليها صندوقا كبيرا يبدو أنه مثقلا بشيئ ما ، و تتدلى من على كتفها حقيبة ممتلئة، بدا الكل حاملا بيتا بأسره في حقيبة او صندوق له ! و كأنهم يستعدون للهجرة من هذا العالم التعيس كما ستفعل هي بدورها لولا تأخر ذلك الشاب عنها .
لم تتبقى من عقلها قطعة لم تنهش ، فطيور الهاجس الضارية تبدو أنها تتضور جوعا فوهبها الشيطان عقلها لتنال منه .
و هاقد أفلتت يد الطفلة المصاصة فهوت على الصخور المنحصرة داخل السكة ، فشرعت في النحيب ، و إمتلأ الفضاء بصوت النحيب و صرير عجلات الحقائب و همهمات المارة ووقع أقدامهم .... أصبح الوضع لا يطاق !
تكثفت الغيوم من فوقها مستعدة لذرف العبرات ، و تلثمت الشمس بها و كأنها تتهرب من وظيفتها المعتادة طلبا للراحة .
تجمهر سرب من الطيور في السماء المكفهرة ، بدا لها أنهم يبذلون جهدا جهيدا في عملية التحليق ، لعلهم يلهثون و يشتكون من آلام في مستوى الرئة ، و عضلات الأجنحة ، ساعين الى الوصول الى وجهتهم المقصودة في أقرب وقت ممكن ، لولا نظرها القصير لتسنى لها إبصار حقائب صغيرة تتدلى من أجنحتهم .

فجأة ،أحست بثقل على كتفها اليمنى ، احست بحر كفه ، فإستدارت لترى محياه الجميل ، إلتقت عيناهما في نظرة شغف مطولة ،  دون ان ينبسا ببنت شفة .
تجمعت العبرات في عينيها فحاولت جاهدة صدها  .
و لكن، دمعة ساخنة تسيل على خدها فتشق طريقا الى شفتها العليا ، إمتدت يده لتمسح أثارها الممزوجة بذرات الكُحل ، و إلتزم الصمت لدقيقة ، ظلا هكذا دقائق معدودة دون حراك .
تحرك القطار من مكانه و غادر المحطة ، و إختفت الطفلة و أمها و كأنهما لم يكونا هنا تاركين وراءهما مصاصة الفرولة تسيل لعابا على الحجارة، و إختفى الجمع الغفير من المارة و المسافرين و كأن العدم قد  إبتلعهم في جوفه ، فتحولوا الى ذرات غبار متناهية الصغر ، لا ترى بالعين المجردة ...
أخذ الحقيبة منها و غادرا المكان ، صوب الأفق ،نحو وجهة مجهولة ، أخذا يتمشيان بتؤدة و الصمت ثالثهما ، يتبعهما في هدوء تام !
إنتهت سلسلة المباني ، و إختفت الأعمدة الكهربائية التي كانت تنتصب بينها بشموخ ، و إختفى كل ما يدل على وجود الحضارة تدريجيا ،  و إتضحت التلال البعيدة و المراعي الممتدة ، نسي كلاهما ما يتعلق بصخب هذا العالم و إنشغلا بالإصغاء الى أناشيد عصافير الحسون ، و نعاب الحمام و حفيف اوراق شجر السرو ، تساقطت حبات مطر باردة ، و لأول مرة ، لم تكترث الفتاة بتسريحة شعرها كما كانت تفعل ، و لم تحاول تغطية رأسها بكنزتها القطنية حفاظا عليها ، لم تعد حريصة على مظهرها و الذي قد يبدو في جميع حالاته جذابا في نظر رفيق دربها هذا ، هوت قطرات الماء على مفرق رأسها فأخذت تتسلل الى خصلات شعرها المسترسلة و المصففة بعناية و لما تشربتها أضحت أكثر إلتواءا و لمعانا ،و مضت تقطر كغيمة مثقلة بالغيث، فتسيل إحدى قطراتها على محياها لتختلط بالكحل الذي حددت به عينيها الجميلتين  صبيحة اليوم ،  ليستقر خليطا من السخام و الماء  في المحجرين مما يضفي على هيئتها العامة مسحة من البؤس . بينما هو ، كان يمشي شارد الذهن ، أحيانا يرفع رأسه ليرى السماء من فوقه ، يحدق فيها مطولا و علامات الترجي على وجهه المبلل و كأنه يتضرع الى الله و يتوسل إليه بلغة غير مسموعة .
ظلا يسيران دون توقف و قد إنسجما تماما مع الطبيعة حولهما ، أضحيا كشجرتين مبللة الاوراق ، او كأخدود شقه الزمن على وجه الأرض و قد طفح بعبرات السماء ، و لكن لم يبدو عليهما أنهما من البشر ، لم يلتجآ الى غار للإختباء في جوفه ، و لم ينزع أي منهما كنزته للإحتماء بها ، بل ظلا يهيمان على وجههما هكذا و سرعان ما تحول الهتان الى شؤبوب متدفق كاد أن يسوي ما تبقى من اليابسة مع المحيط ، و رغم ذلك ، واصلا رحلتهما الى ربوة عالية ، تحف طريقهما الشاق شجيرات الإكليل و العرعار الجبلية ، داسا دون يعيا بذلك على ثمار البندق المتناثرة على الطين المبلل أسفلهما ، فتمرغت قدامهما بالوحل ، و لكنهما لم يعبآ بذلك ، لم يبدي اي منهما ادنى قلق من تقلبات الطبيعة و من نحيبها الذي يمزق نياط القلب .
إشتد الزمهرير في تلك البقعة من الأرض و إلتصق كسائهما بجسديهما المنقعين في الماء ، و قد بدا و كأنهما قد خلقا من حديد ، لا يرتجفان و لا يقشعران من لسعات البرد ، اعينهما مثبتة على الوجهة المقصودة ، و فجاة تباطئ سيرهما ليستقرا في مكان عال يطل على بساتين البرتقال المترامية ، أبصرا سيولا تتخلل الأشجار المثقلة بالثمار الحامضة ، و قد بدت و كأنها أنهار صغيرة ، بدى الكون في نظرهما اكثر حيوية و نشاطا من ذي قبل ، و أكثر كمدا أيضا ، فلم تعد تحتمل الارض مآسي العالم الذي تحمله على ظهرها فأنفجرت بالبكاء ، و أطلقت العنان لوجدانها المضطرب ، و هاهي السماء ترثي لها فتذرف الدموع من أجلها .
إقتعدا صخرة كبيرة ناتئة ، و إنشغلا بالتأمل في الطوفان أسفلهما ، لم يبصرا للتو أي مخلوق بشري يسير في هذه المنطقة النائية سواهما فيشاركهما التمعن في هذه اللوحة المغرورقة بالسيول ، كما لو أنهما آدم و حواء عند حلولهما هذا الكوكب المخضر و الخالي من كل ذي عقل  فلا مؤنس لهما سوى الضباع و السباع و الدواب المتوحشة  ...
وضع يده التي حولتها صبّارة الشتاء الى صفيحة جليد على يدها التي لا تقل قرا و تحجرا ، فتشابكت الأنامل طلبا للدفئ ، فإتقدت نار الصبابة بينهما مجددا و أضحت مضطربة و متوهجة أكثر من ذي قبل ، لطالما إعتقدا أن بإمكانها إحراق العالم بأسره ، و لكن يبدو أن العالم هو من سبقهما في ذلك ، فأضرم النار في قلبيهما المحبين ، و حولهما الى قطعتي جمر حاميتين .
لم يعودا قادرين على حمل هاتين الجمرتين مدى الحياة ، و قد إشتد قيضهما الى أن أصبح الإحتفاظ بهما تعجيزا !
و أخيرا ، برح الشاب عالمه الداخلي ليلقي كلمات لها مثل وخز الإبر وقعا و تأثيرا:
"الأرض على إتساعها قد عجزت عن ضم المتحابين أمثالنا في كنفها ، لم يعد هناك متسع لنا ، أنا و أنت ، لماذا يصر علينا الجميع ان نكون مجرد حلقة ضمن سلسلة لا محدودة من البشر ، حيث لا شيئ يميزنا  عن غيرنا  فتحتم علينا الظروف التخلي عن محبتنا ؟!  "
فعقبت الفتاة بصوت ناعم خفيض و هي تصوب نظرها تجاه  قطعة برتقال تتدلى من غصن رقيق يهتز على وقع الرياح ، تسيل على وجنتها المحمرة حبة ماء ، تعاينها و تقلبها ، تتخيل مذاق ابراجها الطرية الحامض على لسانها ، فتقول :
" اتتذكر كيف سعى الجميع الى تفرقتنا عن بعضنا ، مصرين على إعتقادهم بأن الحب قد مات ؟
فأجاب بهدوء تام :
يبدو أنه لم يتناهى الى مسامعهم خبر حياته التي لم تنقض بعد داخل قلوبنا النابضة ، إنه لم يلقى مصرعه سوى داخل قلوبهم المتحجرة و كأنها مقابر مقفلة معتمة لا يمكن ان ينفذ اليها النور .
فأضافت و هي تحاول إجتثاث زهرة بخور مريم من منبتها بطرف أناملها :
و هل بإمكانه أن يحيا داخل قبر مقفل بإحكام لا تخترقه ذرة نور ؟ و أنى للجنين أن يحيا داخل رحم أمه الميتة !
إلتفت إليها و ظل يحدق في محياها بإمعان ، و كأنه يرغب في سماع المزيد من بنات أفكارها ، او ربما قد إنطلق في رحلة إستكشافية تأملية متسلقا تضاريس وجهها متجولا بين معالمه الرقيقة ،تحمم بقطرة كانت منحصرة داخل مقلتيها ، و من ثم القى نظرة مطولة على شبحه المنعكس على  بؤبوتيها القاتمين ، فأشاحت ببصرها بعيدا و احنت رقبتها تجنبا لمواجهة أية نظرة إستياء محتملة يمكن أن تفيض من ناضريه الساحرتين ، و كأنهما جوهرتين مصقولتين تعكس صفحاتها الملساء بريق الكون ، فإختنق صوتها بالخجل الشديد و بات خفيضا يتعسر على الصاغي إليه إدراك ما يحمله من كلمات :
أعي ماترى ، شعري أشعث بعثرته رياح الجبل ، أظن انني ابدو كمشردة ، أليس كذلك ؟ لم يتوانى المطر أيضا عن مسح المساحيق عن وجهي ، لقد فعلها ، سأتدارك الأمر ...
إمتدت يدها الى حقيبتها بحثا عن علبة المساحيق خاصتها و مشط !
فمسك يدها محاولا صدها عما تعزم عن فعله ، و قال :
بل تبدين  هكذا في غاية الجمال ، لقد حولتك الطبيعة الى جزء منها !
مهلا ....
سحب من جيب معطفه دبوسا  تنبثق من وسطه زهرة فُل كبيرة ، و إستدار ناحية رفيقة دربه و كبح به جماح خصلة متمردة تتدلى على ناصيتها الناصعة كلوح شاحب لم يُخط عليه بعد .
تحسست نتوءاته الحادة بطرف أناملها ، و لم تتردد في إخراج مرآة لها من ظلمة الحقيبة المتكئة على إنحدار الصخرة التي تقتعدها ، ثم رفعتها إلى وجهها لتكتمل صورة الدبوس في ذهنها ، بدا لها هدية تستحق التقدير رغم بساطتها و تواضعها إذا ما قارناها بما إشتد غلاءا من الهبات المعتبرة التي يقدمها عادة الشباب لمن يودون الإقتران بهن و التي قد تكون غالبا قطعة قيمة من المسوغ  و لكن دون أن يضمروا حبا صادقا حقيقيا ،  إنه حقا يتمثل في عطاء كريم يسعد القلب و يرسم إبتسامة عريضة صادقة على شفتي المُحب القنوع ،  بتلاته البيضاء المتفتحة أضافت الى سحنتها الشاحبة إشراقا .
أثنت على كرم و جود رفيقها و رحابة صدره ، فكل ما يلامس يده الكريمة يتحول الى امر به شيئ من القداسة فلا تصح مقارنته بأي شيئ مهما ثقُل ميزانه في عالم المادة !
أسدل الشاب راحة كفه على خدها فإحمرت من الحياء ، ثم ارسل نظره بعيدا عنها ، حيث صفوف أشجار البرتقال مجددا و سيول الغيث التي إنحصرت في الأخاديد الضيقة من حولها ، بينما هي إنشغلت عنه بمراقبة الأسراب المحلقة من فوقهما ، يبدو أنها لم تصل الى وجهتها المنشودة بعد ، تحلق في عنان السماء متحدية قطرات الوابل التي قد تثقل حركتها، أو تيارات الريح التي قد تغير مسارها ، ورغم ذلك ، فمن المحتمل جدا أن تحط رحالها حيث شاءت دون أن تنال منها الطبيعة . مكنتها الربوة الشامخة التي ترفعها عاليا هي ورفيق دربها من رؤيتها بشكل أوضح و حينها ، أيقنت أن الطيور المهاجرة لا تحمل حقائب صغيرة كما خُيل إليها صبيحة اليوم ، بل تترك أعشاشها التي شيدتها و إعتادت عليها دون أن تكون مثقلة بالمتاع .

ألقى صخرة صغيرة على مياه بركتها الراكدة بصوته الذي بدا أقل تراخيا و أكثر جدية من ذي قبل :
لم يبقى ما يتوجب علينا أن نفعله هنا ، هل لازالتِ متمسكة بأذيال هذا العالم !
فأردفت :
لا ، لا ، لنرحل .
ألقى راحة يده على كفها و هما بالرحيل من مكان لطالما أحسا بأنه أشد ضيقا من علبة كبريت .

تم العثور على جثتين ممرغتين بالطين بين شجرتي برتقال في شمال بستان يمتلكه سيد مغترب عن وطنه ، قيل أنهما لشاب و فتاة في مقتبل العمر ، حيث إختلط نجيعهما المنبثق من جراحهما الفاغرة بسيول الأمطار فإطبغت بأحمر قان ، ملتحفين بطبقة ثقيلة  من الوحل !  تجمهر الناس حولهما مستفسرين عما يجري ، تصاعدت الحوقلة من حناجرهم ، و سقطت العبرات من أعين البعض منهم ، و نطت طفلة صغيرة ناحية جثة الفتاة بعد أن أدركت الدبوس الجميل المعلق على خصلة من شعرها و قد تحولت أخيرا الى حزمة من التل اليابس ، و سحبته بحذر و من ثم إبتعدت تجري لتنظم مجددا الى الجمهور !

































لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Sep 29 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

دبوس الشعر الأبيض حيث تعيش القصص. اكتشف الآن