العدو الخطير

26 3 20
                                    

نظرت إليها جهاد وسألتها في هدوء:
- من أخبركِ بذلك؟
وبصوت مرتفع أكثر، أجابت راشيل محتجة:
- أختي في النار، المعلم قال ذلك!
- قال أن أختكِ ماري في النار؟...
سألتها جهاد، فبهتت راشيل للحظة قبل أن تجيب متمتمة:
- الكفار في النار، هكذا قال...
- الكفار نعم، لكن هل قال أن أختكِ في النار؟
سكتت راشيل هنيهة ثم صاحت مجدداً:
- قال أن الكفار في النار، وأختي كافرة، إذاً هي في النار! لماذا ونحن لم نسمع أبداً عن الإسلام! لم نعرفه، لماذا تدخل النار؟!
- لا لا.
قالت جهاد بهدوء وهي تمسح يديها من آثار الطعام الذي كانت تأكله:
- المعلم قال أن الكفار في النار، وهذا في العموم، لكنه لا يعني أن كل كافر في النار، لا يعني أن ماري بالضرورة فيه، هذا استنتاجك أنتِ.
- لم ليست فيه؟ هي كافرة.
- لكنها ممن لم يبلغهم دين الإسلام، وحال من لم يصله الدين لا يستوي مع حال من وصلهم الإسلام بصورته الصحيحة فوعوه ولكنهم رفضوه.
- وماذا يحدث لهؤلاء الذين لم يبلغهم الإسلام إذاً؟
- الله أعلم... قيل أنهم يُمتحنون يوم القيامة...
-  إذن علي أن أعيش الآن حالة من اللايقين؟!
- كلنا يعيش في حالة من اللايقين...
في سبيل أن تعي راشيل كلامها، تركت جهاد فاصلاً بين جملتها السابقة والتالية:
- نحن نعرف أن الله وعد الصالحين بالجنة، لكن ما الذي يجعلنا نجزم بأننا من هؤلاء الصالحين الذين سيدخلون الجنة؟ وحتى لو كنا، ما الذي يضمن لنا أننا سنعيش هكذا حتى يتوفانا الموت؟! أنا، المسلمين، وأكثر رجل تقي يمكنك رؤيته، جميعنا نعيش في حالة من اللايقين حول مصائرنا، لكن هل تعرفين ما نحن متيقنين منه؟ رحمة الله... نحن متيقنين من أن الله أرحم الراحمين، وهذا اليقين يكفينا، بل إن هذا اليقين يجعلنا مرتاحين أكثر مما لو كنا نعرف مصائرنا، ولا نعرف عن رحمة ربنا شيئاً... إننا واثقون من أن ما سنجده على الجانب الآخر، أعني الآخرة، سيكون للكفار المعاندين كما يليق بعدل الله، وللمؤمنين كما يليق برحمة الله.
لم تقل راشيل شيئاً آخر لثواني، وعندما أدركت أن حججها انقطعت وقفت وهي تصرخ قائلة:
- كلام فارغ!
ثم انصرفت من الحجرة، لم تستطع جهاد إخفاء دهشتها من ردة فعل راشيل المفاجئة، لكنها سريعاً ما رجحت أن يكون تأثر راشيل من فقدانها لأختها هو السبب وراء تصرفاتها الغريبة.
سارت راشيل في الشوارع طويلاً وهي تلعن اليوم الذي ولدت فيه، وتنظر للناس في اشمئزاز واضح، لكنها أحست بعد هدوء ثورتها بفداحة خطأها، يفترض أنها هنا لهدف ما... لا ينبغي أن يشكفها أحد، ورغم انقطاع حجتها أمام جهاد، إلا أنها أقنعت نفسها بأنها مجرد تخاريف، وزعمت بأنها صارت واثقة الآن من كرهها لهؤلاء جميعهم وبغضها لهم، ثم أخذت تسترجع ما حدث معها في الميناء، حين توقفت السفينة لأجل التزود بالموؤن فذهبت راشيل للكنيسة... يومها حدث معها شيء لم ينتبه له قيس أو جهاد، يومها كان نقطة التحول في حياة راشيل، اليوم الذي قررت فيه أن تعيش لتنتقم.
* * *
في يوم توقف السفينة، وداخل الشوارع الضيقة لتلك المدينة الصغيرة، سارت راشيل كسيرة الطرف تشعر بثقل لن يزيحه إلا انتقامها من ذاك الشاب دانيال، كيف استحال حبها السري له وإعجابها به إلى كره لو قذف في السماء لاسودت؟! لم تتساءل راشيل عن ذلك قط، ولم تبالي، كرهته فحسب وتمنت له الموت، كانت ستذهب تدعو لأختها، وعلى قيس أيضاً، لأنه كان السبب في كل شيء، كانت الرغبة في الانتقام قد تسللت إليها من ضعفها وتملكتها تماماً، ذلك الضعف الإنساني الذي يحيط بمن يصيبه سوء هو أو أحد أحبته ولكنه لا يجد من يلقي عليه اللوم فيختار أقربهم للحادث ويتهمه بأنه السبب في كل شيء، أي أحد يمكن إفراغ طاقة الغضب والكره والإحباط عليه.
ولكنها لم تبلغ غايتها أبداً... ففي الطريق خطفها بضع رجال وأخذوها دون مقاومة كبيرة منها، كانت في أشد أوقاتها ضعفاً، ولربما تمنت في لحظة ما لو يقتلونها، لكنهم لم يفعلوا، بل سحبوها إلى غرفة قليلة الإضاءة، وهناك أزالوا العصابة عن عينيها فرأت أمامها رجلاً ضخماً لم تميز ملامحه، لكن شعره ولحيته القصيرة كانا أحمرين، وعلى ظهره معطف صوف ثقيل، وحين سألته راشيل عن من يكون بفظاظةِ من لم يتبق له شيء يخسره، حتى ولو كانت حياته، أمر الرجل أتباعه فالتموا عليها وضربوها حتى قبل أن تستوعب ما يحدث... أقدام من كل مكان وأيدي تمتد لجسدها الهزيل حتى صارت تكح دماً وتحاول استنشاق الهواء.
- هل كان ذلك مؤلماً؟
سألها بعد أن أوقف رجاله بنبرة بدت لراشيل استخفافاً، لكنها كانت أعجز من أن تعانده أكثر، فسكتت عنه حتى قال لها:
- ما رأيكِ أن نذيق دانيال مثل هذا؟
تملكها اهتمام مفاجئ وسرت رعشة في جسدها حين سماعها لذلك الإسم، دانيال... لكن الرجل فاجأها قائلاً:
- اسمه قيس، وليس دانيال، احفظي هذا الإسم جيداً منذ اليوم.
- نعم، أريده أن يتألم حتى الموت!
قالت راشيل بغتة كأنها لم تُضرب قبل قليل حتى كادت تشل، فضحك الرجل وقتاً يسيراً ثم سألها:
- يمكننا فعل ذلك، لكن ما رأيك أن تكوني أنتِ من يذيقه ذلك الألم؟
ناظرته راشيل في اهتمام، هذا الرجل كان لديه ما يقوله، ورغم آلامها الفظيعة اعتدلت جالسة وقالت له:
- نعم، أريد ذلك، أريد...
- يعجبني إصرارك.
أخرج الرجل سيجاراً من علبة كانت بقربه ومده إلى أحد رجاله فأشعله له، استنشق منه قليلاً وعينيه مغمضتين في ارتياح تام، لتسأله راشيل بعد نفاذ صبرها:
- إذاً كيف سأنهيه؟!
- هكذا...
قال وهو يطفئ السيجار الذي أشعله للتو على الطاولة، ضغط عليه بقوة حتى خف وهجه، ثم قال لراشيل:
- لقد كان سبباً في وفاة أختك، لذا سنجعل موته بطيئاً... سنجعله يفقد أحبته وآماله أولاً، ثم نأخذ روحه.
انطفأت آخر قطعة مضيئة من السيجار بالتوازي مع عبارته الأخيرة، وسبب ذلك في صوت خفيف، صوت تخيله الرجل عالياً وممتعاً حين يكون صراخ قيس ذات يوم... ورغم أن راشيل كانت مستغربة من كم المعلومات التي يعرفها هذا الرجل، وما سيظهر لها لاحقاً أنه يعرف، إلا أنها تجاهلت كل شيء سوى حقيقة واحدة: هذا الرجل سيكون مفتاحها للانتقام.
- ما الذي تريدني أن أفعل؟
قالت راشيل ثم أردفت بصوت أعلى، وأكثر ثقة:
- ومقابل ماذا؟...
ابتسم الرجل ابتسامة شريرة لو رأتها راشيل لهربت منه، قائلاً بصوته الجهوري الخشن:
- الآن بدأتِ تفهمينني.
ومسنداً ظهره على كرسيه مستغرقاً فيه، ألقى أمام راشيل السيجار وهو يقول:
- قيس وأصحابه ذاهبون لمكان يسمى بلدة الموحدين، نريدكِ أن تذوبي بينهم، أن تظهري لهم الحب والولاء والطاعة حتى تدخلي بينهم وتكوني عيننا من هناك، سنسبب لهم الخراب من القلب، ولكن عليك البقاء مع جهاد، هي ستكون جسرنا لتحقيق ذلك.
- لماذا جهاد وليس قيس؟!
- أنتِ ستكونين مسلمة بعد الآن، ولا يمكنكِ في ديانتهم أن تلاحقي رجلاً غريباً أينما ذهب.
لم تتلكأ راشيل في إعطائه موافقتها بأكثر العبارات قساوة:
- سأنهيهم جميعاً!
- ليس جميعاً...
عارضها الرجل، ثم قال:
- لم نتحدث عما سأحصل عليه بالمقابل.
- ماذا تريد؟
- جهاد، تلك الحمقاء الصغيرة التي تعتقد أنها تعرف كل شيء... ستلاحقينها لأجل أن تحققي لنا غاياتنا، ولأجل أن تحرصي على حمايتها أيضاً.
- حماية جهاد؟! لماذا؟!
وبإشارة واحدة من الرجل وجدت راشيل نفسها تحت رحمة ركلات أولئك الرجال مجدداً، وحين أمرهم بالتوقف، قال في غلظة، وبصوت خفيض فيه شيء من الاستهزاء:
- علاقتنا علاقة تابع بأتباعه، ولسنا شركاء، إذا فهمتِ ذلك جيداً ستعرفين أن طرح الأسئلة جرم يستحق الموت يا راشيل...
سكتت راشيل خاضعة، وأدرك الرجل ذلك من لغة جسدها التي شابهت الآلاف الأجساد التي جعلها تخضع سابقاً، وقبل أن تنتهي الجلسة، قال لها أخيراً:
- لدينا جاسوس على السفينة، رجل بدين جشع يراقب هؤلاء بالفعل، ورغم أنه شديد الحماقة إلا أنه أيضاً أخبث من عرفت، يمكنك أن تتواصلي معه سراً إذا احتجت شيئاً...
هذا ما حدث، أما ذاك الرجل المسلم الطيب الذي زعمت راشيل بأنه استضافها وأطعمها ورغبها في الإسلام، فهو شيء لم يحدث أبداً، وكان بداية سلسلة الأكاذيب التي تعيش عليها راشيل.
* * *
في تلك الليلة الهادئة ذات الأجواء الجميلة، قررت أن أذهب إلى جهاد وأستشيرها في أمر جلال فلربما يمكنها أن تفيدنا بشكل ما... هكذا فكرت، فتوجهت حيث ظننتها ستكون، في نفس المكان بتلك الشرفة الجميلة، وحين لم أجدها قدرت أنني أتيت مبكراً فانتظرتها... انتظرتها كثيراً حتى آيست من مجيئها، ولأن الأزمة تنفرج دائماً بعد أن تشتد، ظهرت جهاد أخيراً حين كنت على وشك المغادرة، وبدت متفاجئة بي، فبادرتها قائلاً:
- أهلاً، جهاد... أنت أيضاً تأتين هنا إذن.
- آتي هنا؟ إنها المرة الثانية فقط، نحن لسنا هنا منذ أكثر ثلاثة أيام لو نسيت.
عم ذلك الصمت المحرج المكان، على الأقل بالنسبة لي، ولحسن حظي فقد قفز ذلك السؤال الملح إلى ذهني:
- جلال... كنتِ تعرفين أن القاضي هو جلال... لذا أخبرتني أن أحضر خطبة الجمعة... كيف علمتِ؟!
- وما أدراك أني كنت أعلم؟ ربما كنت أقصد أن تحضر الخطبة فيلهمك الله ببركتها.
ناظرتها بشك زاده نبرتها الساخرة، وكانت تعلم ذلك... لكنها لم تأبه بحيرتي كعادتها فقالت:
- انسى الأمر، هذه خبرة السنين وأسرار العمل.
- إذن أريد أن أستفيد من هذه الخبرة.
تمتمت هذه المرة جاداً، فأولتني اهتماماً وهي تقول بينما تتجه نحو طرف الشرفة:
- ما الأمر؟
- إنه يتعلق بجلال، يفترض أن يخلف الإمام... لكن سعيد ورجاله يرفضون ذلك!
- وماذا في ذلك؟ سيخلفه يعني سيخلفه، ورغماً عنهم، لأن الإمام هو من يقرر بغض النظر عن رأي أولئك المنافقين.
ظننتها ستظهر بعض القلق والحيرة، لكنها قالت تلك الكلمات بكل هدوء وكأني أسألها عن حالها، فتملكني شيء من الإنزعاج والغضب، وقلت دون أن أخفي ما شعرت به:
- هل فهمتِ ما قلته لك؟!
- بالطبع، لست صماء.
- إذن ما الحل؟
- سيأتي الحل في وقته المناسب، لماذا تستعجلون؟
- ماذا تعنين؟
- سيعود كل شيء لمكانه كما عادت مكة طاهرة مطهرة من الشرك... سيظهر ورثة رسول الله صلى الله وعليه وسلم ليكسروا الأصنام...
- نعم، لكن علينا أن نأخذ بالأسباب.
- وما هي تلك الأسباب؟
- هذا ما جئت أسألك عنه!
- وهل يبدو لك أنني أمتلكها؟
- لماذا لا تتركين أية فرصة إلا واستغللتها لمضايقتي؟
ربما لم أكن بتلك الجدية، لكن سؤالي الخارج عن السياق فاجأها قليلاً، وتفاجأت أكثر منها حين قالت:
- معك حق، أنا آسفة.
حركت نسمة هادئة أوراق الأشجار التي كانت أمامنا، وسكت طويلاً، ليس محرجاً هذه المرة، بل مقدراً لها صدق اعتذارها، ثم قلت مازحاً:
- تغيرتِ فجأة، ربما تحاولين أخذي لصفك لأنكِ في الحقيقة تتعاونين مع هؤلاء ضد جلال!
أطلقت بعدها ضحكة مدوية، لكن جهاد لم تعط أي ردة فعل، بل لم تكلف نفسها عناء الإلتفات حتى، فأيقنت أنه وقت الإنصراف، واستأذنها متمنياً لها نوماً هنيئاً قبل أن أعود لحجرتي.
* * *
مسحت جبينها وعينيها مفتوحتين على أشدهما... لثواني اعتقدت أنها كشفت بالفعل... وحين تأكدت من أن قيساً قد ذهب نظرت خلفها حيث اختفى، هامسة بأصدق وأرق نبرة صدرت منها منذ زمن:
- كيف علمت؟! قيس... لو كنت حذراً بقدر ذكائك...
"عاطفي كامرأة" هذا ما تذكرته جهاد لحظتها، شعرت بأن قيس ينافسها في الذكاء، لولا أنه يعتمد على قلبه وشعوره ويقدمهما على عقله كثيراً، يثق في الجميع سريعاً، ولو أنها كانت مكانه، وكان هو مكانها، لما شكت لحظة واحدة في أنه الفاعل، ومن جانب آخر، شعرت بأن حمى الغباء أصابتها منذ فترة، وربما هو الملل من التمثيل، لم تكن تعلم، بيد أنها أدركت شدة غبائها وهي تجيبه قبل قليل بكل ضجر ولا مبالاة.
- قيس ليس أحمقاً... يجب أن لا أستهين به.
قالت لنفسها قبل أن تتسلل في جلباب الليل نحو قلعة الإمام لتقابل أشخاصاً لا يعلم أحد أنها تعرفهم جيداً، سعيد... ذاك الذي كانت تتواصل معه منذ الأيام التي كانت فيها بدار التأهيل، علاقتها بكورنيليا منحت لها الكثير من الإمتيازات، ورغم أنها كانت تعرف خبث سعيد ونواياه السيئة إلا أنها اعتبرته فرصة، تواصلت معه في البداية لتأخذ منه معلومات، وتكون على مقربة من رجال الإمام، أرادته أن يكون مفتاحها للوصول، لكن سرعان ما أدركت من مراسلاتهما أنه الباب نفسه، ومفتاحها هي المال، السلطة، الحكم، وكل شيء يمكن أن يُوقع رجلاً جشعاً في شر أعماله وهو لا يعلم، فاستطاعت أن تكسب شيئاً من ثقته، حصلت على مودته، وصار يشعر أن بإمكانه الإعتماد عليها، لكنها كانت تعتقد أن عليها إخفاء الأمر عن قيس وأصحابه، وبصلابة ضميرها الذي لم يهتز لحظة ويؤنبها، استمرت في إبقاء الأمر بينها وبين كورنيليا، كانت تريد بلوغ غاية ما، شيئاً لم تكن واثقة من أن عليها أن تشارك أحداً غيرها فيه، كان يفترض أن لهم طرقاً خاصة بهم، يكفيها ما فعلته حتى أوصلتهم إلى هنا، هكذا كانت تعتقد، أو بالأصح هذا ما كانت تقوله لنفسها، وكعادتها في عدم الإهتمام برأي أحد، لم تضع خطة بديلة في حال كشفها قيس أو أحد أصحابه، لكنه كان، وككل مرة، عدم اهتمام مصطنع، لم يكن قيس يعلم ذلك، ولا أي أحد آخر، حتى هي لم تكن تدرك أن عدم اهتمامها شعور كاذب، كانت تفعل ما تعتقد أنه صواب دون أن تدع أي اعتبارات شخصية تؤثر على تصرفاتها أو آرائها، مما منحها القدرة على التظاهر بشيء لا تؤمن به أصلاً، وفي هذا استطاعت أن تخدع نفسها بمهارة، والحقيقة التي كانت في أعماقها هي أنها كانت تشفق عليهم من أن يتأذوا، يكفيها أن تخاطر بنفسها، لا ينبغي أن تراهن على حياة شخص آخر سواها... لا ينبغي أن تترك إنساناً غيرها يتوجع فيما يخصها، لها في لله سلوى ومواساة، وهذا ينبغي أن يكفي... كانت تشعر بدرجة عالية من ضرورة الإعتماد على الذات، ومنع أي أحد أن يتألم، لتمت وحدها في أرض فلاة... لكنها تأبى موت الجماعة معها وإن كانوا سيُدفنون في جنازة مُشرِّفة.
ومن حسن حظها، وصلت إلى القلعة دون أن تصادف أحداً تعرفه، فقط بضع حراس كانت غريبة بالنسبة لهم، ولولا أوامر سعيد لما سمحوا لها بالمرور.
حين بلغت دارهم عرفتهم على نفسها فرحب بها سعيد ورفقاؤه كأي رجال محترمين من شرفاء الناس، لكنها كانت اللحظات الأولية، تصَنُّع ما قبل الشعور بالأمان من أن شيئاً من الفضائح والأكاذيب لن تنكشف، ثم بدأ الدخول في الجد، وأسفروا لها عن وجوههم المُسوَّدة، كان أولهم سعيد حيث قال:
- حسناً فعلتِ حين اخترتِ صفنا.
كان هذا بمثابة اعتراف منه بوجود صفين متقابلين، خطين لا يلتقيان، أحدهما مستقيم والآخر معوج... كان هذا اعترافاً منه بأنه قد انسل وابتعد عن الجماعة الأولى، عن الغرس الأول، لم يكن خلافاً طفيفاً بسيطاً يُحافظ برغمه على الود كاختلاف الفقهاء، بل كان اختلافاً عميقاً كاختلاف الناس في العقائد والأديان.
هنأها البقية تباعاً إقراراً منهم بهذا الإختلاف، باستثناء واحد منهم لم تكن جهاد تعجبه، وكان شديد الشك فيها، لكن سعيد المغتر بجهاد، لم يستمع له يوماً، ولطالما صده ونهاه عن العودة في الشك بنواياها، فصار ذلك الرجل، ماهر، يحتفظ بشكوكه لنفسه منتظراً اللحظة المناسبة لفضح جهاد، وكانت هي تعلم ذلك جيداً، لكنها لم تكن تبالي به، فقد حدثت الأمور كما خططت لها وتوقعتها، فمنذ أن بدأت تراسل سعيداً قرأت بين سطوره مدى كراهيته للإمام ومن معه، ولم يخجل من الإفصاح عن رأيه في جلال وذكر عدم أهليته، فاستغلت الأمر أحسن استغلال، ولم يكن من العسير عليها أن تكتشف الطريقة التي تستفيد بها من الوضع، فقد كان من هواجسها الخفية منذ وقت طويل هو التساؤل عن كيفية الوصول لما سيصل إليه قيس، عبيد وسلام والآخرين، كيف ستضمن مشاركتها فيما سماه أدهم "ميادين الرجال" وليست منهم؟ كان يجب أن تثبت نفسها، وتكون الإستثناء الذي يسمح له بالدخول.
- يشرفنا أن تكوني معنا في هذا الطريق يا جهاد، طريق إقامة هذه البلدة كما ينبغي... فهؤلاء الشباب حمقى ومجانين يعتقدون بإمكانية الوقوف أمام العالم كله! علينا التصالح معهم بدل التصادم، علينا إعادة تشكيل العالم كما يريدون، حيث يسود الحب والمودة بين أتباع جميع الأديان.
أخذ الجميع يصفقون له ويمتدحون رأيه، حتى سألتهم جهاد فجأة عما أوقف تصفيقاتهم:
- ولكن ما هي الخطوة القادمة؟
نظر سعيد لرجاله واحداً تلو الآخر يحمسهم لما سيقول، وانتهى بأنظاره إلى جهاد قائلاً:
- الخطوة القادمة ترتكز على موسى، سيظهر التدين والاستقامة حتى يقتنع به أبوه.
- وهل تعتقدون أن الحياة ستمهله حتى يتأكد من أهلية ابنه؟
سكت الجميع وهم يتبادلون النظرات، لا تأثراً بحقيقة أن الإمام، وصديقهم القديم، قد لا يعيش طويلاً، بل انزعاجاً من مدى محدودية إمكانياتهم وخياراتهم، على موسى أن يقنع أباه سريعاً، فلا حل آخر أمامهم... أو هكذا طاب لهم أن يظهروا لجهاد.
ودون أن ينتبه أحد، دخل أحد الخدم في خفة ليقدم لهم الشاي، كان نحيلاً ذي نظرات ثاقبة، لكن سعيداً لم يحفل به، بل بدى أن مجيء الخادم أربكه، فسأله في ريبة:
- لم نطلب الشاي، لما أتيت؟...
لم يجبه الفتى بشيء، فازداد توجس سعيد منه، وهم أن يأمر رجاله بإمساكه لولا أن ذلك الأسمر النحيل اقترب من الإمام ومد له في سرية، مع كوب الشاي الصغير، ورقة مطوية، حينها فهم سعيد ممن يكون هذا الرسول على الفور.
شعرت جهاد بشعور غامض حين التقت أعينهما، كما يشعر الطفل حين يفعل شيئاً يعلم أنه خطأ لكنه يستمر فيه، مزيج من الخوف والجرأة والفضول، والتهديد، فكادت تنسى أخذ كوب الشاي وهي تحاول كسر الحاجز الذي في عينيه، الحاجز الذي يمنعها من النفاذ إلى عقله وفهم ما يدور في رأسه، فمد لها الخادم الكأس وانصرف، بنفس ذلك الوجه الدقيق، والملامح الجامدة، التي لا تبشر بأي خير.
نفضت جهاد عن رأسها تلك الأفكار وقالت تستأنف الحديث السابق:
- حسناً، ونحن سندير البلدة من خلال موسى؟ أتمنى ألا نفقد السيطرة عليه لاحقاً.
- لا تقلقي، ذاك الفتى لعبة حقيقية، يمكن إقناعه بأي شيء.
اتضحت لجهاد تلك الصورة التي في أذهانهم، لكنها لم تكن لتدعها تكتمل على أرض الواقع، هكذا أكدت لنفسها وهي تستشعر ضرورة فضحهم في أسرع وقت.
تنحنت ثم سألته، بأكثر نبرة عفوية وبراءة:
- بالمناسبة، ماذا فعلت برسائلي؟
- أحرقناها طبعاً، لا تقلقي.
أجابها ماهر من فوره قبل أن يسمح لسعيد بالإجابة، فلم تصدقه للحظة، بل تأكدت من وجود تلك الرسائل معهم حين أجاب ماهر، لا بد أنه احتفظ بها للضغط عليها لاحقاً، لقد كان هذا الرجل أكثر حذراً وذكاء من أن يمنحها ثقته.
وفي شك ومكر، سألها ماهر:
- وأنتِ، ماذا فعلتِ برسائل السيد سعيد؟
- أحتفظ بها حتى أريها للإمام.
قالت بلهجة جادة ثم ضحكت معهم على ما ظنوه "نكتة"، مع أنها لم تكن كذلك، ولم تكن كذبة أيضاً، ولكن الحقيقة الواضحة تكون في بعض الأحيان مضللة أكثر من الأكاذيب، وبالنسبة لجهاد، كانوا أغبى من أن تتكلف الكذب لأجل الإيقاع بهم.
تبادلوا الخطط والأفكار والوعود بالنجاح زمناً من الوقت، وحين خف وهج الحديث، استغلت جهاد الفرصة وطلبت من سعيد بكل تهذيب أن يخرج رجاله، تردد لحظة قبل أن يشير لهم بالخروج، عارض ماهر بلا فائدة، فخرج في النهاية على مضض، يلعن اليوم الذي ظهرت فيه جهاد.
أخرجت جهاد من حقيبتها صندوقاً صغيراً وضعته على الطاولة أمام سعيد، وما إن فتحته حتى كاد لعابه يسيل، جواهر ولآلئ ودرر بكل الأشكال والأنواع، قطعة واحدة منها تساوي ثروة وتعد بحياة مترفة بقية العمر، لكن سرعان ما تمالك نفسه ونظر إليها مستفسراً، فقالت له بتلقائية:
- أوه، لا شيء، أعطيك هذه الأشياء لأثبت لك ولائي فقط يا سيد سعيد.
- أ... أشكرك... هذا يجعلني واثقاً منكِ أكثر، قاتل الله ماهر ذاك، كيف أمكنه أن يشك فيك؟!
أراد أن يضع يده على الصندوق خشية أن تغير رأيها، لكنها كانت أسرع منه فأخذت الصندوق نحوها مجدداً، ونظرت له نظرات ثابتة، تقول بنبرة جادة:
- ليس هناك مقابل، لكن هناك شرط...
أعادت الصندوق لحجرها ثم أكملت:
- أن تخبرني بخطتك الحقيقة.
وقبل أن يتسنى لسعيد الدفاع عن نفسه قاطعته قائلة:
- أعرف أنك تكذب علي، لم تخبرني بالخطة الحقيقة، لأنك لا تثق بي...
مددت فتحة الصندوق ليمثل إغراء لا يمكن لعبِيد المال مقاومته، وبالفعل، استسلم له سعيد، وقال لها:
- معكِ حق، أنتِ حليف ذكي...
حينها نظر إلى الصندوق، قائلاً بصوت عميق وخافت يشي بعظم وخطورة ما يتفوه به:
- لكني لم أكذب عليك، كل ما فعلته هو أني أخفيت عليك نصف الخطة، فموسى بالفعل سيظهر لأبيه أن حاله انصلح... لكننا لن نراهن على رحمة القدر، سوف نقتل جلال حتى لا يكون للإمام خيار غير اختيار موسى.
عندئذ مدت له جهاد الصندوق، فأخذه متلهفاً ووضعه على جنبه ثابتاً ناظريه عليها، حتى اطمأن إلى كون الصندوق في أحضانه، الآن صار ملكاً له ولم يعد بإمكانها استعادته حتى لو أرادت، لكن جهاد لم تكن تفكر في ذلك، كان ذهنها في مكان آخر، هل وصلوا لرغبة قتل جلال؟!
لكن، كان عليها أن تظهر عدم تأثرها، فعادت لوضعها الطبيعي تحادث سعيداً عن أحلامه وخططه للاستيلاء على موسى، ومن ثم على الحكم، وحين تأخر الوقت، انصرفت جهاد مع التأكيد عليه بأنها ستعود في الغد.
سارت في روية هذه المرة وهي تفكر في كيفية فضحهم، والخطوة الأخيرة التي ستتوج بها خطتها التي طال أمدها، تحت نور القمر الذي كان قد اكتمل ليلتها، على أرضية معشوشبة يرتاح لها الناظر، في هدوء يلتذ لسماعه السائر، فكما أن الصوت يُسمع، فالصمت يسمعه أيضاً أولئك الذي تحتاج أرواحهم لراحة يعلمون أنهم لن يذوقوها حقاً إلا عند أول قدم يضعونها في الجنة.
ودون سابق إنذار، نبهها حسها إلى وجود شخص ما خلفها، وأكدت لها الخطوات الخفيفة التي سمعتها من صحة ظنها، لكنها لم تخف كثيراً، فقد كان سيئاً في الحفاظ على سرية وجوده، مما رجح عندها ألا يكون جاسوساً أو محارباً، على الأقل ليس ذا خبرة، وحتى تكشفه على حين غرة تظاهرت بأنها لم تنتبه لشيء، إلا أنها التفتت فجأة دون أي مقدمات مما أربك الشخص الذي كان يتبعها، وجعله، بخطة مرتجلة تماماً، ينسحب خلف أحد الأعمدة مختبئاً، فقالت له جهاد في حذر:
- رأيتك، هيا اخرج من مخبئك.
وكانت تظنه ماهراً جاء خلفها يلاحقها بحثاً عن أدلة، لكن من خرج إليها كان إنساناً جل عن خيالاتها وفاق تصوراتها أن يكون هو.

آخر الموحدينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن