الفصل السابع

0 0 0
                                    

بعض الجروح لا تشفي..  مهما مر عليها الزمن..!
فهناك أشياء عميقة جداً لا يستطيع الوقت أن يداويها.. ولا يمكن اصلاح الزجاج بعد كسره.. وان حاولت سيجرحك!

كان مراد يتدرب على تمارينه الرياضية حينما رن هاتفه، اتجه ناحيته ثم أجاب على الفور بصوت يشوبه لهاثه الشديد :
_ هذه أنتِ.. كيف حالك يا حبيبتي؟ .. لقد اشتقت إليكِ..
سقط قلبها حينما سمعته يقول هذه الكلمات.. "حبيبتي"؟!.. هل من يتحدث معها رؤي ام فتاة أخرى؟!،
جميل!! ما تلك الضحكة العريضة التي تزين وجهه؟!، يبدو أنه يحبها وكثيرا ولكن من هي؟!، هكذا كانت تفكر وازدادت تلك الأفكار التي أخفت ورائها غيرتها حينما قال :
_ حقاً.. بالتأكيد سآتي.. انتظريني وسآتي إليكِ بقوة الصاروخ..
بقوة الصاروخ؟!.. ألهذه الدرجة؟!.. انت حقا صائد فتيات يا ابن الاكابر.. تستحق بالفعل هذا اللقب..
_ انا أحبك جدا.. أنت أجمل أم في العالم كله.. قبِّلي لي أحمد إلى أن أراه..
" أجمل أم "؟! ، إنه يتحدث مع والدته!! ،انظري إلى أين أوصلك شيطانك يا أمينة، حلال عليكِ!! .. ما دخلك انت؟!، حتى وان كان يتحدث مع فتاة، لا يهم ولا تتدخلى فيما لا يعنيكِ.. أفهمت ؟!
أغلق المكالمة وابتعدت هي بهدوء إلى غرفتها..
                                       & & &
بعد قليل دق مراد الغرفة ثم دخل بدون حتى أن تأذن له؛ كانت تمشط شعرها أمام المرآة ؛ لذا قالت وهي تنهض من جلستها :
_ أهذا أنت؟!
_ اوه!!.. ومن يمكنه أن يدخل هذه الغرفة غيري؟!
قالها بسخرية فعقدت ذراعيها وهي تقول :
_ هل لاحظت إلى أي مدى أصبحت تخترق حريتي؟!
تأملها مراد كانت مرتدية " بيجامة" سمراء وشعرها البني منسدل على كتفيها وجبينها، بدت في غاية الجمال واللطافة عدا تلك النظرات الصارمة والباردة التي لاحت في عينيها، اشتاق إلى نظراتها القديمة.. تلك النظرات البريئة والطفولية التي كانت تهزه هزاً حينما يراها، ولكن ليس عليه، يعرف جيداً كيف يُعيدها إلى طبيعتها..؛ لذا اقترب منها قائلا بمشاكسة :
_ إلى أي مدى يا صغيرتي..؟!
قالت بارتباك :
_ أرجوك.. أريد أن تكون لي مساحتي الخاصة..
اقترب اكثر قائلا :
_ أوليست لك مساحة تكفى؟!
ابتعدت وهي تنزل يديها بجانبها في توتر، وقد عادت تلك النظرات التي يعشقها تطل في عينيها :
_ لا.. لا تكفي أبداً..
كتم ضحكته واقترب اكثر منها، ثم قال :
_ والآن؟!
نظرت اليه واضطربت أنفاسها :
_ لا تخرج عن الموضوع..
تقدم اكثر وهو يراها تبتعد عنه :
_ أي موضوع..؟!
خفق قلبه وهو يرى احمرار وجهها ونظرات الخجل التي توجهها هي إلى الأرض، نظر إليها طويلا ، حياؤها وبراءتها.. تلك الصفات البهية  تزينها وتزيدها جمالا في نظره، تقدم بخطوات اكثر قائلا :
_ أجيبيني..
قالت بنفاذ صبر :
_ هذا يكفي يا مراد.. رجاءً إلزم حدودك معي..
ظل يتقدم منها حتى حف الجدار في ظهرها، ثم ككل مرة وضع يديه على الحائط بجوارها من الجانبين، وفي عينيه لمعة جميلة لا تنكر انها تمثل خطراً من نوعٍ خاص عليها..
_ابتعد..
اقترب اكثر حتى أنها شعرت بأنفاسه الدافئة تلامس وجهها؛ فقالت بحدة :
_ ابتعد يا مراد!
_ آسف يا صغيرتي.. انا مرتاح هكذا..
_ ولكنني لست مرتاحة..
_ كاذبة
_ مراد!!.. لم يعد لدي طاقة لتصرفاتك المجنونة..
_ وكأنك أنت العاقلة.. لقد كنت " تبقبقين " في حمام السباحة صباحاً كالأسماك الصغيرة.. ولولا تصرفاتي المجنونة هذه لكنت في خبر كان..
تصنعت الدهشة وهي تقول بسخرية مبتعدة عنه :
_ أااه!!.. لقد أنقذت حياتي.. ما الذي كنت سأفعله من دونك..انت بطل.. بطلي الخارق..
ضبط مراد ياقة قميصه وهو يقول بغرور متصنع :
_ لا داعي للشكر.. لا أحب أن أتحدث عن نفسي كثيرا..
_ لا تحلم بأن اشكرك حتى.. هذا واجب عليك.. ألست زوجي..؟
نظر إليها بقرف وهو يقول :
_ أجل.. عندما يكون لديك مصلحة اكون زوجك.. وعندما تنتهي المصلحة يكون زواجنا على الورق أليس كذلك؟،.. انت من نوعية النساء اللائي يتحولن إلى ملائكة في بداية الشهر فقط.. لقد كشفتك على حقيقتك يا ابنة عبدالرحمن..
قالت أمينة مدافعة عن نفسها :
_ لا انا لست كذلك.. ولكنك قلت انه كون زواجنا على الورق لا يمنع ان يكون لدي حقوق عندك.. هل ستتراجع عن كلامك.. ؟
_ بالطبع لا.. ولكن يجب أن يكون لي حقوق عندك انا أيضا..
_ مثل ماذا؟
_ أولاً ان تحترمي حديثي..
همت لتقول انها بالفعل تحترم حديثه ولكنه قال :
_ ثانياً ألا تقاطعيني أثناء التحدث..وألا تصرخي في وجهي كل لحظة.. ان أشاهد كرة القدم كما اريد خاصة أن كأس العالم سيبدأ قريباً.. وان توافقي على أن نمضي اسبوعاً مع امي.. موافقة؟!
كانت ستعاند معه ولكنها تذكرت كيف كان سعيدا وهو يتحدث مع والدته؛ لذا قالت :
_ حسنا.. موافقة..
ضاقت عيناه ثم سأل ليتأكد :
_ موافقة..؟!
_ أجل..!
ضحك وهو يصيح بتعجب :
_ يا لهذا!!
ثم مط خديها بحركة عفوية جعلتها تضحك وهو يقول :
_ هكذا أريدك انا دائما يا زوجتي العزيزة..
ثم تركها واتجه إلى باب الغرفة وهو يقول :
_ جهزي ثياب لك سنغادر غدا باكراً.. تصبحين على خير يا صغيرتي..
نظرت إلى أثره بضحك، ثم قالت :
_ وأنت من أهل الخير..
                                       & & &
كانت يسرا قد عادت إلى منزلها متعبة منهكة؛ فلقد كان يوما شاقاً طويلا عليها وأوجاعها الجسدية تزداد يوما بعد يوم، نظرت حولها عمال المنزل بالتأكيد قد غادروا في ميعادهم عند التاسعة وسما قد تكون نائمة ، عندما دخلت إلى الصالة كانت تتأوه بصوت مسموع..
_ سلامتك أماه..
نظرت أمامها بتفاجؤ ورأت حسن بانتظارها، ويبدو عليه الإرهاق والقلق..
_ حسن ؟!.. انت هنا؟!
تنهد حسن بحزن بادٍ، ثم قال :
_ انتظرك هنا منذ مدة..
تملكها قلقها وارتيابها وهي تراه حزينا بهذا الشكل؛ فقالت وهي تضع يديها على كتفيه بحنان :
_ حسن.. يا بني.. ما الذي أصابك؟!
رفع حسن رأسه إلى السماء بصمت وقد بدأت دموعه تتلألئ داخل عينيه، ثم قال باختناق :
_ لماذا لم تخبريني؟
_ ما الذي تقصده؟
ابتعد عنها حسن وهو يقول بغضب :
_ لماذا لم تخبريني؟!.. ما الذي كنتِ تنتظرينه؟!
_ بني أنا لا أفهمك.. عما تتحدث انت؟!
ابتسم بغيظ وغضب ثم قال بصوت باكي :
_ أتعلمين؟.. لقد قابلت الدكتور عز الدين اليوم..
الآن فهمت ما يشير إليه، لم تكن تريد ذلك.. لم تكن تريد أن تُّحمل همها لأولادها.. ولم تكن تريد أن يروها هزيلة ضعيفة..
لم يستطع حسن أن يخفى ألمه أكثر من ذلك؛ فقال بعصبية :
_ لماذا لم تخبريني.. ألست ابنك؟! ألستِ أمي؟! ما الذى كنتِ تنتظرينه؟!.. انت أيضا؟!..تختارين الموت بإرادتك تماما كما فعل أبي؟!
جلست على الاريكة المواجهة له بضعف وقد بدأت دموعها تنهمر على وجنتيها ببكاء مرير، نظر إليها حسن ثم بغضب ضرب بقبضة يده الجدار المجاور له قائلا وهو يحاول إيقاف دموعه :
_ أنت تفعلين مثله تماما.. هل أنا سيء لهذه الدرجة؟!.. تفضلون الموت على البقاء معي؟!.. لماذا يا أمي؟!
لم تستطع مرة أخرى الإجابة على سؤال ابنها، ولكنها اكتفت بجملة واحدة من بين شهقاتها :
_ لم أردْ ان أُحملكم همي يا حسن..
قال وقد فاض به الكيل :
_ لماذا؟!.. ألسنا أبناؤك؟!.. من يجب أن يحمل همك غيرنا.. ؟!
ساد الصمت للحظات طويلة وهو لايزال ينظر إليها بغضب بينما هي كانت منهارة.. وانهيارها أمامه - وهي التي لطالما كانت صامدة كالجبال - قهره؛ لذا اقترب منها وجثا أمامها على الأرض، ثم قال ببكاء :
_ ليس لك الحق في الاستسلام هكذا.. ستخضعين للعلاج الكيميائي بمزاجك أو رغماً عنك.. أفهمت؟!..لن ادعك ترحلين بسهولة..
نظرت إليه يسرا وهي لأول مرة منذ زمن ترى خوفه عليها بهذه الطريقة، رغم الألم الذي يحل بها كان قلبها يرقص فرحاً؛ لأن ابنها لم يتغير كثيرا عن الماضي..
اومئت بإيجاب، مبتسمة وسط دموعها، اعتدل واقفا وابتعد عدة خطوات ثم قال آمراً :
_من الغد ستتابعين مع دكتور عز الدين.. وستأخذين اجازة هذه الفترة من العمل إلى أن تتماثلي للشفاء.. وأنا وسما سنتولي جميع الأعمال هنا وفي الاسكندرية نيابة عنك..
كانت هذه أكبر مفاجأة لها، مفاجأة جعلتها تحلق فوق الغيوم من السعادة، تذكرت المرات الكثيرة التي كانت ترجوه فيها أن يتولى معها ولو جزء بسيط من العمل، لو كانت تعلم أن خبر مرضها سيجعله يقول هذا لكانت أخبرته من البداية..
نهضت لتواجهه بفرحة عارمة قائلة :
_ هل حقا يا حسن؟!.. ولكنك لم تتعامل مع أمور الشركة من قبل.. كيف ستدير كل شيء..؟
تنهد حسن ثم قال :
_ سأتعلم يا أمي.. لقد فكرت في الأمر.. سما ستدير فرع الشركة هنا لأنها افضل مني وستحسن إدارة المركز الرئيسي .. وانا سأدير فرع الشركة في الاسكندرية.. أعماله أقل وسأستطيع معرفة كل شيء عن العمل من الألف إلى الياء .. ولكنني أريدك أن تستقري معي في الاسكندرية.. المكان هناك جميل وسيساعدك على تحسين مزاجك.. كما أن سما تحضر رسالة الماجستير ولا يجب أن نضغط عليها يكفي العمل بجانب الدراسة.. ما رأيك ؟!
_ معك حق..
_ ولكن المسافة بين القاهرة والاسكندرية ستكون طويلة على سما؟
ساد الصمت للحظات ثم قال :
_ سأتحدث معها غدا في هذا الأمر ونتفق .. لا تقلقي..
_ لم أعد قلقة يا بني..
نظر إليها مطولا، ثم قال وهو يصعد درجات السلم :
_ بالمناسبة.. سأعود للعيش هنا.. مرة أخرى..
قالت بفرحة عارمة غير مصدقة :
_ ماذا قلت؟!
إلتفت إليها حسن بوجه جامد قائلا :
_ ما سمعتيه أمي..!!
صعد هو باقي الدرجات التي تؤدي إلى الطابق الثاني تاركاً يسرا تضحك بصوت مسموع وبفرحة كبيرة لدرجة أنستها  أوجاعها وجعلتها تنام لأول مرة منذ فترة طويلة دون حزن أو قلق، نامت حامدة ربها مرددة الآية الكريمة..
" وَعَسَى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ "
                                        & & &
عند السابعة صباحاً كانت قد جمعت ما يلزمها طوال هذا الأسبوع،
وحينما انتهت من ارتداء حجابها الزهري اللون، دق مراد باب الغرفة ثم فتحه قائلا بسخط طفولي :
_ هل سأنتظرك كثيراً..؟!
حملت الحقيبة قائلة :
_ لم أتأخر لهذه الدرجة!!
وبعد عدة دقائق انطلقا باتجاه منزل سالم المسيري زوجة والدته أحلام، مضى ما يقارب عشرون دقيقة وبعدها وصلا إلى المنزل، دعس مراد بأصابعه على زمور السيارة مرتين؛ ليُعلمهم بمجيئهما، جاء إليهما - وهما ينزلان من السيارة - صوت طفولي يصيح بفرحة قائلا :
_ مراااد!
ترك مراد الحقيبة التي بيده وهو يخطو باتجاهه بفرحة، قائلا وابتسامه العريضة ترتسم على وجهه:
_ " سيمبا "!.. ها أنت ذا...
نظرت إليهما أمينة بابتسامة جميلة، وهي ترى جسد نحيل صغير يهرول راكضاً باتجاه شقيقه، ضاحكاً بصوت طفولي مرح بينما انحني مراد حينما اقترب منه حتى وصل ذلك الجسد النحيل ليستقر بين ذراعيه، أدركت أمينة مدى عمق العلاقة بينه وبين شقيقة الأصغر وخاصة وهو يجاكره أمامها بهذه الطريقة ويداعب شعره الذي يشبه شعر شقيقه الأكبر كثيرا  بخلاف لونه الأشقر، قال مراد بعدما ابتعد عنه :
_ ما هذه الأناقة الرائعة يا رجل؟!..
إلتفت صاحب الوجه الصغير الذي وضع بديه في جيبي بنطاله الأسمر بغرور عاهدته أمينة مسبقاً وتعرفه جيداً؛ فنظرت إلى مراد لترى كم طبع على شخصية الفتى الصغير الذي يبدو وكأنه نسخة مصغرة منه.. حركاته، كلامه، ملابسه، وحتى تسريحة شعره، ما يجعله مختلفاً عنه السن بالطبع..،شعره الأشقر وعيناه الزرقاوتين..، وقال :
_ وهل تظن أنني سأقابل زوجة أخي للمرة الأولى بثياب المنزل؟!.. يجب أن أريها كم تبلغ أناقة نسيبها..
قال الفتى كلماته الأخيرة بلباقة ومشاكسة وهو ينظر إليها بابتسامة
، بينما هي رفعت حاجبيها بدهشة ناظرة إلى مراد ؛ تريد أن تسأله.. ما الذي فعلته بالفتى؟!، ضحك مراد وتقدم الصغير باتجاهها ثم مد يده؛ ليصافحها قائلا :
_ مرحبا يا زوجة أخي .. أنا أحمد.. وان كان لك شقيقات لن أمانع أبداً مقابلة إحداهن ان كانت جميلة مثلك..
مدت يدها تصافحه بدورها وهي تنحني مقاومة ضحكها :
_ مرحبا بك يا سيمبا.. وانت الأجمل بالطبع
ضحك الصغير ثم قال مجاكرة لشقيقه :
_ انتبهي! لا تغازليني كثيرا.. لأن حبيبك غيور..
صاح مراد بسخط مصتنع :
_ اوووه!!.. لا تصدقينه
ضحكت أمينة.. وهي تراهما يمازحان بعضهما، لقد احسن مراد تأسيس علاقة ودودة وجميلة بينه وبين شقيقه الأصغر.. رغم فارق السن والمكان، جعل الصغير يتعلق به لدرجة انه يقلده في كل شيء فقط لأنه يحبه! ، ولكن عفوا هل قلت الصغير؟!
لقد أخبرها مراد أن عمره ثمانية أعواماً ولكنه رغم ذلك يبدو كرجل في الثلاثين من عمره، ولأول مرة تر طفل ليس فيه ذرة من الطفولة، اعتدلت بقامتها ونظرات الدهشة تعلو وجهها فضحك مراد عليها، بينما قادهما الصغير بهدوء ووقار إلى الداخل حيث تنتظرهم " صاحبة السعادة " وهو اللقب الذي أطلقاه مراد وشقيقه على والدتهما، ضحك مراد مرة أخرى ثم قال هامساً :
_ ما بك مندهشة هكذا ؟!
قالت بهمس هي الأخرى :
_ هل قلت أن عمره ثمانية أعوام فقط؟!
_ أجل ولكنني أوقات كثيرة أشك في هذا..
_ ما أراه يجعلني أدرك أنك خطر على الأطفال..
_ وما دخلي أنا؟!.. أنا اجعلهم يحبوني فقط..لهاذا خافي على قلبك يا طفلتي..
تركها ودخل بينما هي قامت بحركات طفولية ساخرة من كلامه، بعد لحظات رأت أمينة تلك السيدة المحجبة الجالسة على كرسي متحرك تبتسم إليهم بإشراق، تأملت أمينة وجهها المشرق وفي ذاكرتها كانت تلوح أمام عينيها صورة والدتها بابتسامها ونظرتها الحانية؛ فدققت أمينة نظرها لترى صورة أخرى تشبه صورة والدتها تماما..
انحني لها مراد وقبل جبينها وبعدها انحنت بابتسامة صافية، قبلت الخدين الناعمين وهي تقاوم مشاعرها وحنينها إلى والدتها، تحسست احلام خديها بيديها، ثم قالت بحنان جميل مثلها :
_ مرحباً بك يا طفلتي الصغيرة
تنهدت أمينة ثم قالت :
_ كيف حالك سيدتي؟!
_ بأفضل حال.. وكيف حال طفلي الشقي معك؟.. آمل انك لم تزعجها..
ابتسم مراد، ثم قال بمشاكسة وهو يستند بذراعه على كتفها الأيمن  :
_ أنا؟!.. حرام!.. أنا ملاك لا ازعج احد.. هل ازعجك يا زوجتي العزيزة ؟! ..
يعلم ان تقربه منها بهذه الطريقة يزعجها وخاصة أنه يضعها امام الأمر الواقع وهي التي كانت تسخر منه منذ قليل تقف بجواره تخفض نظراتها أرضا خجلا وقد احمر وجهها، كتم ضحكاته بينما قالت والدته :
_لقد احمر وجهها خجلا!.. هذا أمر لم يعد مألوفاً في عصرنا الحالي ..  تعالي يا طفلتي اجلسي هنا بجانبي قبل أن ابكي..
ضحك الجميع ثم قال مراد :
_ لقد فزت بحب أمي منذ اللحظة الأولى.. وهذه بشري جيدة..
نظرت صاحبتنا إليه محاولة فهم قصده ولكنها وجدت في عينيه غموض، واستطرد :
_ صحيح!.. لم يأتي أبي بعد من العمل..؟
تعجبت صاحبتنا ولو كنتِ مكانها لتعجبتِ أيضا؛ فالكلمة التي لم يدعُ بها والده الحقيقي دعا بها زوج أمه!، أجابت والدته :
_ لم يأت بعد.. ولكنه على وصول..
_ اسمعي يا أمي!.. لقد عرضت على زوجة أخي منذ قليل عرضا رائعاً.. ولكنها لم تقبله..
قال أحمد فضحكت أمينة ثم قالت :
_ بشأن شقيقاتي فأنا ليس لدي شقيقات للأسف.. ولكن هناك صديقاتي الثلاثة ما رأيك بهن؟..
_ جميلات؟
_ أجل..
_ أااه!.. كل الجميلات أكبر عمرا مني!!
قال جملته الأخيرة بحسرة، فقالت أمينة :
_لا تقلق.. انت وسيم وستجد فتاة جميلة في مثل عمرك بسهولة..
_ أرأيت يا مراد؟.. يجب أن تعترف أنني أجمل منك؟
قال مراد وهو يستعرض عضلات ذراعيه :
_ ولكنني أكثر عضلات منك..
_ كل الحكاية عدة أعوام وستصبح عضلاتي أيضا قوية.. ووقتها سيتوافدن علي الجميلات أكثر منك وسترى..
_ وما شأني بالجميلات.. تكفيني جميلة واحدة فقط..
قال جملته الأخيرة وهو يغمز لها بعينه اليسرى.. فتملكها الخجل وقاومة ابتسامتها، بينما ضحكت احلام قائلة :
_ هذا الولد مشاغب جدا.. عزيزتي.. أخبريني شيئاً عن عائلتك.. الأم؟.. الأب؟..
تنهدت أمينة وقد تبددت ابتسامتها ثم قالت :
_ في الواقع عائلتي متمثلة في أخي عزت.. وهو كل ما عندي..والداي.. كلاهما ميت ،مات ابى وأنا في السابعة من عمري.. ولحقته أمي وأنا في التاسعة..
نظر مراد إليها نظرة عميقة؛ فهو لم يكن يعرف مسبقاً أن والديها توفيا وهي في عمر صغير..، أكملت :
_ وأخي عزت.. هو من تحمل مسؤليتي..
قالت المرأة بابتسامة حنونة :
_ الأب والأم لا أحد يعوضهما.. ولكن الرضا بالقضاء والقدر هبة من عند الله..
قال أحمد منتهزاً فرصته :
_ والآن يا صاحبة السعادة.. بما أن زوجة اخي هنا.. يجب أن يكون هناك احتفالا أليس كذلك..؟!
نظرت اليه والدته، ثم قالت :
_ انت لا تفوت فرصة للاحتفال أبدا..
نظر احمد إلى مراد وقال :
_ ان فوَّت فرصتي..
اكمل مراد له جملته :
_ لا أضمن ان تأتي مرة أخرى..
ضحكت والدتهما ثم قالت :
_ حسناً.. سنجهز كل شيء قبل أن يأتي سالم من العمل ونفاجئه..
وقالت أمينة مبتسمة :
_ وأنا سأعد لكم والكعك والعصير..
صاحا بمرح وضربا كفيهما بخفة، ولأول مرة تراه أمينة بهذه السعادة وبداخلها تمنت ان تراه سعيد هكذا دائما..
                                       & & &
عند الثالثة عصراً في مدينة اسوان الدافئة، وبالتحديد أمام شركة جلال عامر، كانت تلك السيارة السوداء تقف بعيداً على جانب الطريق، وبداخلها لا يوجد سوى خالد رضوان الذي كان يتواصل مع مساعدينه عبر سماعات خاصة بهم، ومن داخل الشركة اجابته مساعدته " ضحى ".. التي استطاعت بجمالها العمل في شركة جلال عامر بل واصبحت " السكرتيرة " الخاصة له..
_ أهناك جديد؟!
قالها فأجابته :
_ لقد بدأ اجتماع مغلق بين جلال عامر وطارق.. ولكن عزت ليس موجود..
_ وانت يا حسين؟
اجابه مساعده الآخر الذي تولي مراقبة عزت :
_ عزت لا يزال جالسا في مقهى في وسط البلدة.. يتحدث مع رجل كبير بالعمر..
_ تمام تتبعه ولا تدعه يفلت منك.. واعرف لي من ذلك الرجل..
وانت يا ضحى.. أخبريني عندما ينتهي ذلك الاجتماع..
_ أمرك يا فندم..
قالتها ضحى قبل أن تغلق معه، بينما بقى خالد لمدة نصف ساعة بانتظار الأخبار الجديدة..
جائته مكالمة من ضحى التي أخبرته ان الاجتماع قد انتهى في نفس اللحظة التي رأي فيها طارق يخرج من باب الشركة ، وعلى بعد عدة مترات رأي في مرآة سيارته مساعده الثالث يركب دراجته النارية وينطلق بها خلف سيارة طارق ، و بعدها جائته مكالمة من حسين، الذي أخبره أن عزت دخل فندق صغير في وسط البلدة ، وأخبره عامل الفندق - بعدما أخذ نفحة خاصة - أنه حجز غرفة له ولجماعته لمدة أسبوعين.. ففهم خالد أن العملية ستتم خلال هذه الفترة.. يجب أن يبقى متيقظا.. إلا سيخسر مهمته وهو الذي لم يخسر مهمة واحدة أثناء مسيرته المهنية..
                                       & & &
عند السابعة مساء جاء إلى مراد الذى كان واقفا قرب الباب صوت سيارة سالم الذي توقف بها أمام باب المنزل ، لذا وبسرعة أطفأ مراد أنوار المنزل..
_ أحلام هذا انا.. ما هذا الظلام.. ؟
قالها الرجل قبل أن يضيئ صاحبنا المصابيح والجميع يصيحون بفرحة، تراجع الرجل خطوتين إلى الوراء باندهاش وهو يدقق نظره من خلال عدسات نظارته الشفافة، ثم قال وقد امتلئت ملامحة بتعابير الفرح والسعادة :
_ أاه!.. ولدي العزيز!!.. تعال إلى هنا..
انطلق مراد بطفولة؛ ليرتمي بين ذراعي الرجل الطويل ذو الشعر الأبيض؛ ليحصل على جرعة كبيرة من الحنان الأبوي الذي لم يجده من والده ذات نفسه..
كانت أمينة مؤمنة بأن الله لا يمنح للإنسان نِعمٌ ناقصة.. دائما يعوضنا بشيء آخر يعوض ما ينقصنا.. ولو تأخر يأتي بطريقة أجمل مما طلبناه في دعائنا ، ولكنها الآن ترى ذلك بعينيها.. في نظرات ذلك الأب الذي فهم وقدر معنى الابوة..، وذلك الإبن الذي لم ير منه سوي تلك المشاعر الابوية ولم ينظر له كسارق أمه !..، وهذا الأمر جعلها تبتسم..
استقبل سالم زوجته بقبلة على جبينها كالعادة، وبعدها رحب بأمينة وكأنها ابنته ثم اضاف :
_ انا فخور بكِ .. لأنك أوقعت ذلك الشاب الشقي في الحب..
ثم قال ناظرا لمراد :
_ وأرى أن الزواج اعطي لوجهه رونق خاص..
_ مهلك يا أبي!.. انا وسيم من يومي.. أليس كذلك يا أمينة..؟
وكأنه يفعل كل ما بوسعه ليحرجني!.. هكذا فكرت أمينة وهي تحاول إخفاء خجلها بارتباك ؛ فضحكوا جميعاً ثم بدأت احتفالهم الصغير وتناولوا غدائهم ، ثم مزيد من الكعك والعصائر والشيكولاته، والنكات الضاحكة من مراد وتمثيله لتلك المواقف المضحكة التي مر بها مع رفاقه، حكاوي سالم المرحة وتعليقات أمينة وأحلام المضحكة، ضحكات أحمد الرائقة..
مرت الساعات وهم يمرحون ويضحكون لأول مرة بهذا الشكل الأسري ألفه الجميع ، وآخر الأمر تجمعوا في حديقة المنزل حول النيران التي قام مراد بإشعالها ؛ للتدفئة قليلاً وقد بدأ الجو يبرد،
كانت أمينة شاردة في عالمها للحظة تخيلت لو كانا والديها لا يزالا على قيد الحياة.. لو كانا الآن يجلسان معهم يشاركان بحكاويهما التي لن تجد افضل منها.. لكان الأمر أجمل مما تتخيل ولكانت الآن أسعد مخلوقة على وجه الأرض ، ولكن لو من الشيطان!..؛ لذا استغفرت ربها..
قطع تفكيرها صوت أحمد الذي كان مصراً على أن يعزف مراد له تواً أغنيته المفضلة، فقال مراد هامساً :
_ سأفعل ما تريده.. ولكن في نهاية السهرة..
اجابه الآخر هامساً أيضا :
_ تود ان تنهي السهرة بطريقة شاعرية إذاً ؟
_ سريع البديهة يا رجل!.. مادمت تفهم لا تفسد الأمر على شقيقك..
_ همممممم!.. مقابل ماذا..؟
_ منذ متى هذه الانتهازية؟!.. ماذا تريد !؟..
_ ستأخدني إلى السينما..
_ حسناً..
_ والملاهي.. وستشتري لي المزيد من الألعاب..
_ لك ما شئت..
_ متى ؟..
_ ليس غدا بالضبط.. ولكنك تعلم أنني لا اخلف وعدي معك..
قبله أحمد بحماس، وهو يقول :
_ أحبك يا صاح ..
اعتدل الصغير في جلسته، ثم نظر ضاحكا إلى صاحبتنا التي كانت تتابع همسهما ولكنها لم تسمع منه شيئاً، جذب انتباهها سؤال سالم لها :
_صحيح يا أمينة.. كيف تعرفت على مراد؟
تذكرا الاثنان في نفس اللحظة المرة الأولى التي إلتقيا فيها أمام المدرسة، نظرت إليه لترى ذلك الحرج الذي بدا على وجهه، فشعرت بالرضا من ذلك وبرقت عيناها ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة متلاعبة، وكأنها تقول له " هل أقول؟ "، هزَّ رأسه رافضاً وكأنه يترجاها ألا تنطق بشيء.. ،ضحكت أمينة بداخلها وفكرت أن تنتقم منه على كم الحرج الذي تعرضت له بسببه طوال اليوم ؛ لذا قالت :
_ انظر يا عمي.. في يوم استاعنت بي زميلتي؛ لأن هناك شاب يطاردها.. ولا يدعها وشأنها.. ،هذا الشاب جاء وتوقف أمامنا بسيارته.. بدأ يتشاجر معها وانا بدأت أدافع عنها..
قالت احلام باستياء :
_ يعني.. لحق بزميلتك وتشاجر معها ومعك أيضا.. ما هذه التربية؟!
.. وماذا حدث بعد ذلك.. ؟
نظرت أمينة إلى مراد بشماتة وهي تكبح ضحكتها بصعوبة، بينما كان صاحبنا منكمش على نفسه، ينظر إليها بتوسل وغيظ في نفس الوقت!.. واستطردت قائلة :
_ أخذ يصيح في وجهه.. ولا تصدقين كان سيضربها!
تعلم انه كان يخيف زميلتها وقتها وليس اكثر، ولكنها قالت ذلك؛ لتغيظه، فقال سالم :
_ يضربها؟!.. عجباً!.. من يكون هذا الوقح؟!
كوَّب مراد وجهه بكفيه متوقعاً أن تلك المجنونة ستخبرهم - وبكل بساطة - من يكون ذلك " الوقح والعديم التربية " ، والله أعلم ماذا ستكون السبة التالية ! .. آآآآآه!.. فاليريني فيكي يوماً يا ابنة عبدالرحمن..
نظرت اليه، ثم قالت :
_ هو.. هو..
كتمت ابتسامتها وهي تراه أمامها بهذا الشكل، وقد رأت أن هذا كافياً عليه، لذا قالت :
_ لا اتذكره.. ولكن مراد هو من اوقفه عند حده..
رفع مراد يديه ناظراً إليها بتفاجؤ، ثم ابتسم زافراً بارتياح وقد أدرك أنها فعلت هذا لتغيظة و - الحمدلله - لم تفضحه، قال أحمد بعفوية :
_ وبعدها وُلدت قصة الحب.. الذكريات رائعة أليس كذلك يا أبي؟
قال سالم بابتسامة :
_ بل رائعة جداً يا بني.. وما الحياة إلا ذكريات سعيدة وأخرى مؤلمة.. ونسير معها في الاتجاهين..
أضافت احلام :
_ وهناك ذكريات تظل معنا إلى آخر العمر.. وذكريات أخرى تمضي وكأنها لم تكن..
تنهدت أمينة وهي تسترجع ذكريات الماضي في ذهنها بطريقة جعلت قلبها يخفق بألم ؛ حنينا لما فات، وقالت :
_بالنسبة للذكريات!.. لدينا خيارين.. اما ان نتذكر كل شيء بكل تفاصيله.. وآلامه، واما ان ننسى كل شيء ونضيع مع ما نسيناه.. مشكلتنا الحقيقية هي أننا نرفض ذكرياتنا ولكننا لا ننساها!
نظرت إليهم لتقابل نظراتهم المهتمة ونظرات مراد العميقة، ثم أكملت :
_ يبدو أنه يجب علينا أن نتقبل ذكرياتنا باستسلام.. ولكن
ابتسمت بسخرية :
_ أراهن أنهم اذا أتاحوا للبشر يوماً للبكاء.. يدعون فيه كل فرد أن يتذكر شيء ويبكي عليه - ربما - ستتصاعد أصوات البكاء من الكرة الأرضية بشكل فظيع.. وربما أيضاً سيستمر البكاء ليومين أو لثلاثة أيام ؛ لكثرة ما جعلنا نتألم ونحن تركناه يمضي وكأنه غير مهم.. ولكنه بالتأكيد يجرحنا.. نتعامل مع معظم الأمور بمبدأ اللامبالاة ولكن كلما تجاهلنا كلما تعمق بداخلنا .. لذا اعتقد أن كل ما نحتاج إليه هو المواجهه.. لا يوجد عيب في البكاء.. هذا حقنا كبشر من لحم ودم.. يمكننا التعبير عن مشاعرنا.. يمكننا أن نبكي.. نصرخ.. صحيح الاعتراف بالألم مؤلم ولكنه أرحم من التغافل عنه..
تنهدت واتجهت نظراتها لا إرادياً إلى مراد الذي كان ينظر إليها طويلا، وكادت أن تقرأ ما لم تقرأه أبدا في تلك النظرات، بينما قال سالم :
_ صحيح.. النسيان فعلاً نعمة..!
مال مراد إلى الأمام ناظرا إلى النيران المشتعلة أمامه، فبرقت في عينيه لمعة تيقنت أمينة أنها دموعاً قام بحبسها قبل أن تتخطى رموشه، قائلا :
_ أكثر شيء استغربه في النسيان أننا ننسى الفرح بسرعة.. لكن الألم يأبى النسيان أن يعطف علينا وينسينا إياه.. إلا بعد وقت طويل من العذاب.. ويغادر الألم تاركاً ندبة عميقة بداخل الروح .. بمجرد ان نتذكرها يعود الألم أقوى مما سبق.. لماذا؟!.. هل يتلذذ بعذابنا؟!.. أم نحن من نتلذذ بالوجع؟! .. فنعذب أنفسنا بأشياء كان يجدر بنا أن نساعده في محوها من حياتنا بأكملها وليس من الذاكرة فقط.. وكأنها كانت حلما.. أو ربما كابوساً.. رأيناه في منامنا.. ونسيناه عند استيقاظنا..
وتنهد ثم أكمل :
_ النسيان نعمة.. ولكن إذا استخدمناه في مكانه الصحيح..
تابعت صاحبتنا ما قاله حرفاً بحرف.. وشيء بداخلها كان يؤكد لها أن ذلك الشاب المغرور " ابن الاكابر صائد الفتيات" سراً لا يعرفه سواه، ومرة أخرى عادت كلماته التي لم تنساها بعد تصرخ في أذنيها.. " انت لا تعرفين عني شيئاً.. ولا أحد يعرف عني شيئا "
بينما نظرت أحلام إلى ابنها يحزن وهي تعرف ما في نفسه، فضغط سالم علي كفة يدها بابتسامة مطمئنة لتردها له بأخرى ممتنة ..
_ حسناً جداً.. لقد اكتفيت من هذه الدراما المملة ! .. ماذا مراد؟!.. ألن تغني لنا شيئا يكسر هذا الملل..
قال هذا أحمد الذي قد شعر بالملل من حالة الدراما التي اكتسحت مجال سهرتهم فجأة، فابتسم شقيقه ثم التقط جيتاره وقد اختار اغنية " مين فينا مرتاح " لوائل جسار..
أخذ نفسا عميقاً ثم نظر إليها وكأنه يقول لها " هذه الكلمات إليكِ "، ثم انطلق بالعزف وخرجت الكلمات من فمه بصوت ملائكي رائع يتناغم مع الموسيقى بنعومة، فسحب احساسه العميق وصوته الجميل شيئاً في أعماقها وهي تتأمل وجهه وضوء النيران المشتعلة يتراقص عليه مما أبرز لون بشرته البرونزي، وقد بدت في ملامحه
لمحة من الغموض أثارت عقلها وأيضا قلبها؛ فوجدته جذاباً إلى حد خطير وتعلقتا عيناها به، بدأ بنبرة هامسة ثم بدأ يرتفع بطبقة صوته شيئاً فشيئاً، فكان صوته بين الهمس والجهر والهمس مرة أخرى، وكان في ذلك ماهراً، حيث نشر في المكان جو شاعري رقيق يلفه الغموض والحيرة وتمكن من إخراج احساسه ببراعة مع كل كلمة يغنيها، ظلت أمينة تستشعر المعنى الذي يقصده من الكلمات لها، تشعر بقلبها يستجيب لكل المشاعر المتدفقة منه وكأن الحياة تدخل عليه من جديد، فأخذت نفساً عميقاً مرتجفاً.. وهي مستمرة في النظر إليه..
أحلام زال عنها قلقها حينما رأت تلك المشاعر المتبادلة بينهما.. وأخيراً ذلك الطير المغترب وجد موطنه؛ ليسكن إليه.. دون خجل، دون خوف..،و تمنت بداخلها حياة هانئة لهما.. إلى الأبد..
رأي سالم جفنيها المثاقلتين فقال لها هامساً :
_ مضى وقت على موعد نومكِ.. لنصعد نحن ونترك الأولاد..
ابتسمت له موافقة وبعد عدة لحظات اختفى الرجل ذو الشعر الأبيض وزوجته بعدما أشار لمراد بأنهم سيصعدون للنوم، بينما كان مراد مستمراً في تلك الأغنية إلى أن وصل إلى..
  محتار وياك..
بهرب من قلبي وألا انا ماشي وراه..؟
ونسيت الماضي..والا نسيتني معاه..؟
وطريقي اختارته ولا دا كان مكتوب..؟
وقتها فقط كان من الصعب أن تتحكم في تلك الدموع الساخنة التي برقت في عينيها، .. كيف تخبره انها أيضا لا تعرف؟! .. لا تفهم ما يدور بداخلها، تريد أن تراه دائما.. ابتسامتها لا تظهر إلا عندما يكون بجانبها، .. تعلم انها ربما تكون معجبة به.. ولكن هذا خطأ..!! خطأ بحق نفسها.. ربما هو لا يحبها.. ربما هي وحدها فقط من تشعر بهذه المشاعر له وهو لا.. انها تؤذي قلبها عمداً.. وهي تعلم أن الطريق نحوه ما هو أشواك لن تجرح سواها..، هذا خطأ.. لا ينبغي أن تشعر بما تشعر به الآن.. بل لا ينبغي أن تبقى معه هنا اكثر..
انتهى مراد من الأغنية بينما هي أخفضت نظراتها أرضا، تحاول أن تستجمع ذاتها، ثم نهضت مسرعة إلى الداخل؛ فقال بسرعة حائرا :
_ أمينة؟!
توقفت ثم قالت دون أن تلتفت إلية وبنبرة صوت جاهدت أن تبدو طبيعية :
_ تصبح على خير يا مراد..
ثم تركته صاعدة وظل هو مكانه ممسكاً جيتاره وسط كومة من الأفكار والمشاعر الحائرة، وقال بألم لا يعرف سببه :
_ أود أن أعرف فقط.. ما خطب تلك الفتاة ؟!
فاق من تفكيره على صوت شخير خافت صادر من الفتى الذي غاص في نومه؛ فقال مراد :
_ تستعجل على الرجولة.. وجذب الفتيات الفاتنات.. ثم تأتي فتاة واحدة تجعلك تلتفت حول نفسك.. آآه ما الذي تعيشه أنت الآن يا مراد..
                                       & & &
كان جلال عامر منصتاً إلى ما يقوله ذلك الشخص عبر الهاتف قبل أن يبتسم بسخرية، ثم قال بلهجة الواثق من نفسه :
_ لا تقلق.. اعتاد على هذا.. انا بالأساس أقوم بكل الاحتياطات الأمنية.. والبضاعة ستُسلم أمام أعين الجميع.. وهل افعل شيء خارج القانون..؟
ضحك قبل أن يرد على كلام الرجل الآخر :
_ حسناً.. أخبرنا بكل ما هو جديد..
ثم أغلق الخط معه، وبعد دقائق دخل طارق مكتبه، ثم جلس وقال :
_ العميل سيصل إلينا غداً.. ماذا سنفعل؟..
ابتسم ثم قال :
_ لا تقلق سأتولي الأمر..
                                        & & &
تنفس الصباح و تلألأت قطرات الندى فوق أوراق الشجر، خرجت الطيور من أعشاشها مسبحين بحمد الواحد الأحد وآشعة الشمس بدأت تلف المكان بالدفيء المريح..
وهو كان لا يزال مستيقظاً في فراشه مستلقياً على جنبه الأيسر، يتأمل تلك النائمة على السرير المواجه له، غارقة في النوم باسترخاء جميل كالأطفال.. ،لا يستطيع إخفاء حيرته.. شيء غريب يربطه بها، يوجعه وجعها ويفرحه فرحها حتى ولو بمجرد ابتسامة،
مرَّ عليها من الفتيات أشكال وألوان ولكنه لم ير فتاة مثلها، ناعمة جداً رغم قساوتها، جميلة لا تستخدم أدوات التجميل إلا لتجمل قلبها ! .. بريئة جداً وهذا أكثر ما يميزها عن باقي الفتيات، ذات حياء ساحر، تلقائية.. استطاعت ببساطة أن تترك أثرا في حياته..
تنهد طويلا ثم فكر..
معها حق عندما لم تثق بي فما سمعته عني وحده كافياً !، ولكنني لست ذلك الشخص الذي سمعت عنه.. ولا أحب أن أكون هكذا، انها تتألم أعلم ذلك، وأنا أيضا أتألم.. كل منا يعيش ألمه وحده ولا يقبل أن يشاركه مع الطرف الآخر، صحيح انها فتاة قوية ولكن قلبها ليس حجرا ! ، ربما تتحمل الوجع بدون إظهار ضعفها ولكنها لن تتكمن من الصمود هكذا طوال حياتها، هي فقط تحتاج إلى من يفهمها ويهتم بها.. وردة جميلة بقيت سنوات دون رعاية أو اهتمام.. وكل ما أريده هو أن اعيد تلك الوردة للحياة..
تملكه حنان جميل تجاه تلك الفتاة النائمة أمامه، وكأنها تنتمي إليه بطريقة ما.. وكأنها ركناً غالياً في حياته وليست مجرد فتاة جبره والده على الزواج منها! ، تلك الفتاة اللطيفة تحتاج إلى يد حانية وكتف تتكأ عليه.. كما يحتاج هو إليها، يحتاج ان يتكأ عليها بكل ما في قلبه من أيام تركت بصمات بارزة بداخل روحه ، انها تشبهه تماماً كل منهما يحتاج إلى الآخر ومع ذلك يرضون بالبعد و الألم الصامت،  ويطلقون على ما يفعلونه صلابة وقوة.. بينما هم أضعف ما يكونون..، بعيدين كل البعد عن الراحة.. عن الحياة ،فهم في الواقع أجساد قوية أرواح تصرخ من الوجع..!
ألم يخلق الله أمنا " حواء " من ضلع أبونا " آدم".. ذلك لتشعر حواء  بالاحتياج إليه وبالأمان فقط معه.. وهي قريبة من مكانها بجوار قلبه، وليشعر آدم بأنها جزء منه.. لا يكتمل إلا بوجوده..!؟
معكم حق لو فكرتم أن هذا الأمر صعب ولكنني أؤمن انه.. صحيح بعض الجروح لا تشفي مهما مرَّ عليها الوقت ، ولكنها قد تصبح أقل ألماً فقط عندما يتشاركها المرء مع قلب يتفهمه بجميع أحواله..
نهض من رقدته بهدوء؛ كي لا يُوقظها، ثم خرج من الغرفة نازلا إلى الأسفل..
كانت والدته تتناول فطورها وهي تشاهد مسلسلها التلفزيوني المفضل عندما سمعت خطواته، فقالت بدون أن تنظر إليه :
_ لقد استيقظت مبكراً على غير عادتك.. أم أنك لم تنم؟
ابتسم مراد؛ فوالدته كل مرة تبهره وكأن لديها الحاسة السادسة ! ، تشعر به وبحاله أينما كان وفي أي وقت، جلس بجوارها على الاريكة ثم قال :
_ لا أعرف.. يراوغني النوم هذه الأيام..
قالت والدته بابتسامة صافية، ناظرة إليه :
_ يأتي النوم حينما يصفو الذهن من الأفكار.. ما الذي يشغل بالك إذا هذه الأيام..؟
شرد مراد وكأنه لا يرى والدته فقالت له :
_ أين ذهبت؟!
_ هاه؟!..
_ ما بك يا بني؟!
صمت مراد قليلا، ثم قال بحزن واضح :
_ لا شيء.. فقط حديثنا بالأمس عن الذكريات.. ذكرني بالماضي وبما حدث معك..
ارتبكت أحلام، ثم قالت بابتسامة :
_ يا ولدي.. هذا نصيبي.. وما حدث معي قدر وأنا رضيت به..
قال شارداً :
_ اللهم لا اعتراض يا أمي.. ولكنني كنت السبب فيما حدث لك..
_ لا تقل هذا يا مراد.. انت تعلم أنها كانت مجرد حادثة..
قال مراد بدموع وبنظرة تعني انه يعرف كل شيء :
_ لا.. لم تكن مجرد حادثة.. وانت تفهمين ما أعنيه جيداً يا أمي..
احمر وجهها وهي تتأمل وجه ابنها، تتسائل ان كان حقا رأي ما حدث معها في الماضي ام لا ؟ ، ثم قالت قلقة :
_ لمَ تقل هذا ؟!
انزلقت دمعة من عينيه وهو يقول :
_ لأنني ببساطة رأيت كل شيء..
_ ماذا رأيت؟!
_ كل شيء يا أمي.. لم تكن حادثة عادية وأنا اعرف ذلك جيداً..
_ انت مخطئ يا بني.. الأمر ليس كما تظن..
_ كفاكِ!.. مضت أعوام وأنا أظهر لك أنني لا أعرف شيئاً.. لقد كنت صغيراً وقتها ولكنني لم أكن أعمي!
صمت قليلا ثم قال :
_ أشعر أنني السبب فيما حدث معك.. لقد أذنبت في حقك..
قاطعته أحلام مهونة عليه :
_ لا يا بني.. لم تذنب في حقي يوماً.. ولست السبب فيما حدث معي.. وان كان هناك مذنباً فالمذنب الأول هو أنا.. لولا غبائي لربما لم يحدث معي أي شيء
أخذت تبكي هي الأخرى وهي تقول :
_ لا تحمل نفسك ذنب لم تقترفه..
_ ولكنني لم أنطق بالحقيقة.. لم أفعل أي شيء لتأخذي حقك منه..
_ لقد كنت صغيراً وقتها ولا يمكنك حتى الدفاع عن نفسك..
_ كنت عاجزاً وجباناً يا أمي..
_ بل كنت وحيداً يل صغيري ولم تجد أحد ليدعمك.. واضطررت إلى العيش في عزلة.. بل في سجن..
غطي مراد وجهه بكفيه وهو يقول :
_ انا آسف يا أمي.. سامحيني.
ضمته والدته بحنان، ثم قالت :
_ لست المذنب يا ولدي.. هذا قدري.. ولقد عوضني رب العالمين عما حدث معي.. وسيعوضك أنت أيضا.. اصبر يا مراد..
ابتعد عنها وهو يجفف دموعه كالأطفال :
_ لقد صبرت طويلا وتحملت طويلا.. لا أعتقد أنني سأتمكن من الصبر مدة أطول..
_ " ولا تيأسوا من روح الله "
_ ونعم بالله.. حاضر يا أمي.. سأصبر لعل القادم خيراً..
_ خيراً إن شاء الله..
ابتسم ثم قال بمشاكسه :
_ هل تتناولين فطورك بدوني..؟
_ وهل استطيع؟.. هيا مدّ يدك..
اعتدل في جلسته ليشاركها الطعام، بينما في الطابق الأعلى بجوار السلم القريب منهما، كانت أمينة واقفة ومعها كومة من الأسئلة تدور في ذهنها، لم تقصد أن تسمع حوارهما حينما كانت تنوي النزول إلى الأسفل وتوقفت حينما سمعت ما قاله مراد ولم تستطع بعدها ان تتحرك ، جرَّت قدميها ثم دخلت الغرفة مرة أخرى وجلست على طرف السرير..
..حقاً ما الذي تعرفه عن مراد؟!.. عن ماضيه ؟.. وعن ما سمعته منذ قليل؟! ،ما الذي رآه والذي يشعر أنه المذنب فيه؟!..، لا تفهم شيئاً! ، ما الذي كان يعنيه بأن حادثة والدته لم تكن عادية؟.. هل يعني انها مدبرة؟!.. مِنْ مَنْ؟!، ومن الذي قد يفعل ذلك؟!، ماذا تحمل وعلى أي شيء صبر؟!.. أيعقل هذا؟!.. مراد ابن الاكابر الذي عاش في النعيم لديه ماضٍ مؤلم؟!، ظلت تفكر هكذا لمدة طويلة، تفكر وتفكر وتفكر ولكنها لم تصل إلى أي شيء في النهاية...
                                       & & &
في مطار اسوان نزلت امرأة في الثلاثين من عمرها وهي تنظر إلى المكان حولها، صحيح أن الجو كان حاراً ولكن طبقاً لبيئتها فإنها الآن في مصيف دافئ، وبعد عدة دقائق انتهت من إتمام أوراقها، ثم خرجت تسير بأناقة وثقة على أرضية قاعة الانتظار الناعمة، قيل لها أن أحدهم ينتظرها؛ لذا علقت نظرها على اللافتات التي كانت في أيد الواقفين في المكان حتى رأت لافتة مكتوب عليها اسمها، نظرت إلى الشابة السمراء التي كانت ممسكة باللافتة، ثم توجهت ناحيتها :
_ أنا هي " لِيَّا إيميري "..
فافحتها المرأة السمراء بذهول من جمالها ، قائلة بالإنجليزية :
_لقد أرسلني جلال بيك لأوصلك إلى المكان الذي ينتظرك فيه..
_ أستطيع أن أتحدث العربية.
قالت هذا " لِيَّا " وهي تسير بثقة وكأنها تأمرها بصمت أن توصلها إلى المكان في أقرب وقت..
وبعد عدة دقائق وصلت " لِيَّا " إلى المكان وهو عبارة عن بيت ريفي ناءٍ عن الزحام، قالت الأخرى :
_ جلال بيك ينتظرك بالداخل ومعه شريكاه..
هزت لها رأسها وهي تتقدمهما داخلة المنزل والأخرى تتتبعها، كان جلال عامر ومعه طارق وعزت بانتظارها وقد تخلصوا من الرقابة عليهم بطرقهم المختلفة دون لفت الانتباه، عندما رأوها رجال جلال عامر أمروا الحراس بفتح ذلك الباب الحديدي الكبير لها؛ فدخلت وكأنها صاحبة المكان ، ثم خلعت نظارتها الشمسية ومدت ومدت يدها لجلال عامر الذي قال وهو يصافحها بدوره :
_ لم نتوقع أن العميل امرأة..
قال طارق بنظرات متوهجة :
_ امرأة جذابة..!
نظرت إلى طارق بجدية، وقالت بابتسامة وهي تجلس على إحدى المقاعد الشاغرة حولهم في حديقة هذا المنزل :
_ يجب أن تتوقع أي شيء في عملنا يا جلال بيك..
علق عزت على لغتها قائلا :
_ ولكن على حسب معرفتنا.. العميل انجليزي..
قالت فاهمة قصده :
_ وهل يمنع كوني إنجليزية أن أتحدث باللغات الأخرى؟!..
ضحك طارق ، ثم قال:
_ عرفنا أن العميل قادم من إنجلترا ولكنه ليس منها.. وهذا يعني أن جنسيتك ربما ليست إنجليزية..؟
قالت ضاحكة وهي تضع قدم فوق الأخرى :
_ ليس لهذا غرض أساسي في موضوعنا.. ولكن لأريحكم.. أنا إن شئت اكون إنجليزية وإن شئت أكون مصرية.. أو من أي بلد أخرى. هذا فقط إذا أردت أنا ذلك.. أعني ان أي بلد في العالم هي بلدي وأي لغة.. لغتي..
ضحك جلال قائلا :
_ أي شراب تفضلين..؟
_ الصودا..
طلب لها كأساً من الصودا، ثم عاد إلى الموضوع المهم وبادرت هي قائلة :
_ أين المطلوب؟.. المكان؟
_ سترينه قريباً.. الأمر يحتاج إلى التروى. خاصة أن أعين الشرطة مفتوحة هذه الأيام علينا..
_ وهل الأمر صعب عليكم؟..
_ لا يوجد شيء صعب.. ولكننا بحاجة إلى الصبر..
_ جيد..
قال عزت باهتمام :
_ بالنسبة... ؟
قاطعته قائلة :
_ بالنسبة إلى أموالكم ستكون جاهزة في الوقت الذي سيكون فيه المطلوب جاهز..
ابتسم عزت ،بينما طارق نظر إليه ثم نظر إلى جلال عامر مشيراً إلى اهتمام عزت بالمال، ارتشفت قليلاً من الكأس ثم نهضت قائلة :
_ والآن انتهى موعدنا..
قال طارق :
_ بهذه السرعة.. ؟
_ أفضل أن يكون كل شيء بسرعة..
سألها عزت :
_ وأين ستقيمين هذه الفترة؟
_ ألم اقل لك أن اي بلد هي بلدي.. لا أظنني سأتوه في مكاني..
_ انا فقط اهتم بألا تجدي أية مشكلة..
_ لاتهتم لأجل هذا.. كل شيء مرتب له جيداً..
قال جلال عامر :
_ على أي حال.. السائق بانتظارك سيوصلك إلى المكان الذي تريدينه..
_ لست بحاجة إلى ذلك.. نلتقي قريباً..
تركتهم واقفين، واتجهت إلى السيارة التي تنتظرها خارج المنزل، ثم عادت المرأة السمراء إلى عملها بينما ظلوا مكانهم يتحدثون عن الأمر..
                                      & & &
في القاهرة وبالتحديد في شركة أدهم زين العابدين، صاح ذلك الأدهم في أحد مساعدينه قائلا :
_ كم مرة اخبرتك أن الأخطاء في العمل غير واردة بتاتاً.. في مجالنا بالذات أي خطأ - حتى ولو كان صغير - سيكلفنا الكثير..
طأطأ مساعده رأسه خجلا :
_ أنا آسف يا أستاذ أدهم..
_ سعيد.. انت تعلم غلاوتك عندي.. أنت بمثابة أخي الصغير.. ولكنك تراقب أعمال هامة.. ولو لم أكن موجوداً معك كنت سأتحمل خسارة ملايين .. أتدري ذلك؟!
اعتذر منه الشاب مرة أخرى وأخبره أنه لن يكررها مرة أخرى؛ فقرر ان يمنحه فرصة أخرى لأجل والده، وبعد خروجه فتح هاتفه وضغط على عدة أرقام؛ ليجري مكالمة هاتفية، وبعد لحظات قال :
_ أهلا يا بيك.. ما الأخبار؟
صمتت قليلاً وبدأت معالم وجهه تتكدر أكثر، ثم قال محاولاً التحكم في غضبه :
_ ما هذا الكلام يا محمود بيك ؟!.. ألم نتفق أن تكون تلك المناقصة لي وحدي ؟!.. من أين جئتم لى بهذا الشريك الآن..؟!
صمت يستمع إلى ردَّ الآخر ومع كل كلمة كان وجهه يتكدر أكثر، ثم قال :
_ ولكن هذا لم يكن اتفاقنا.. وأنت تعلم أهمية هذه المناقصة بالنسبة إلي..
بعد قليل، قال وهو يهز القلم بين يديه بعصبية :
_ هل ترى ذلك؟.. تمام يا محمود بيك.. ولكن هكذا يكون لي عندك حق.. وأنا آمل ذلك.. الأعمال القادمة كثيرة ان شاء الله..غدا سنتقابل إذا.. مع السلامة يا بيك..
أغلق المكالمةو بعث رسالة لمراد، ثم ألقى الهاتف على الطاولة أمامه بعصبية، ونهض واقفاً يتنفس بقوة.. لقد كانت مناقصة العمر وكانت ستفرق كثيراً في وضع الشركة، والآن أصبح لديه شريكاً فيها.. وسيضطر إلى السفر إلى فينيسيا لإنهائها، تُرى من يكون ذلك الشريك المبجل الذي قفز إلى عمله فجأة.. ؟!
                                       & & &
_ حقاً يا أبي.. أنا لا أصدق..!
كان هذا صياح " هَنَا " العالي الذي ملئ المنزل بأكمله مردداً تلك الجملة؛ فضحك والدها، ثم قال :
_ حقاً يا ورح أبيك..
قفزت هنا من على سريرها بفرح ثم عانقته ببهجة كبيرة؛ فابتسم اكثر، ثم قال مبتعداً عنها :
_ لو كنت أعلم أن العمل سيجعلك تفرحين هكذا.. كنت دبرته لك منذ مدة..
_ ليس أي عمل يا أبي.. انه العمل الذى أحبه بل أعشقه.. حلمى هو أن أكون صحفية هو ما جعلني ألتحق بكلية الإعلام.. وان شاء الله سأتخصص في مجال الصحافة.. وكوني سأعمل في المجال الذى أعشقه يجعلني أكاد أرقص فرحاً.. ولكن كيف حصلت لي على الوظيفة بهذه السهولة؟!..
ابتسم الأب، وجلس بجوار ابنته قائلاً :
_ منذ مدة وأنا أطلب من صاحب عملى أن يجد لك وظيفة في الجريدة التى قد أسسها صديقه.. واليوم ردَّ علي.. ولأنك لازلت في الجامعة.. قال أنه ستكون أمامك فرصة واحدة فقط.. ان نجحت بها ستحصلين على الوظيفة.. وستكونين موظفة تحت التدريب لحين تخرُّجك.. وهذا سيتيح لك الحصول على وظيفة..
ابتسمت هنا بسعادة وقد بات الحلم قريب جداً لتحققه، ولكن والدها أكمل قائلاً :
_ أما إن لم تستطيعي سيتم رفض عملك معهم.. لأن صاحب الجريدة صارم مرحبا جداً في عمله..
راودها القلق قليلاً، ولكنها قالت :
_ سأنجح يا أبي.. يجب أن أنجح.. انها فرصة عمري..
أومأ لها والدها مشجعاً، بينما قالت والدتها وهي تدلف إلى داخل الغرفة حاملة بيديها أكواب الشاي لهما :
_ مع أنني لا أجد داعٍ لعملك الآن.. على الأقل أنهى جامعتك أولاً..
ناولتهما اكواب الشاي، ثم قالت ابنتها :
_ هذا ان كان عمل آخر غير تخصص دراستي.. وهذا سيوفر علي عناء البحث عن وظيفة بعد الجامعة..
_ أجل ولكن باكراً عليك.. أنت لا تعرفين هَّم العمل.. وتحكمات أصحابه.. ومن ثم إذا كان زوجك - مثلا - لا يريدك ان تعملي ستكونين أضعتي وقتك عبثاً..
تنهدت هنا، ثم قالت :
_ أمي!.. هل كنت أتعلم طوال تلك السنوات الماضية لآخذ شهادتي وأجلس في المنزل؟!.. ثم أن العمل سيكون أمان لى..
_ أمان لك من ماذا يا هنا؟!
صمتت ثم جاوبت والدتها بثقة :
_ من الحياة يا أمي.. أنا لا أعلم ما الذى سيحدث في المستقبل.. لا أحد يعلم ما يخبئه القدر له.. وهذا العمل سيكون راتب شهري لى.. أجر ثابت سيجلني آمنة..
صمتت والدتها وقد اقتنعت بكلامها، بينما قال والدها :
_ اتركيها يا ام " هَنَا ".. ابنتنا كبُرت وأصبحت شابة واعية.. ويجب أن يكون لها كيانها الخاص.. ابنتنا استثنائية وستكون فى يوم من الأيام ما تريد..
ابتسمت هنا وارتفعت معنوياتها بعد كلام والدها وأيضاً دعاء والدتها لها بالحماية والستر، ثم اقترب والدها وأجلسها على السرير قائلا :
_ والآن لنتحدث عن الموضوع الثاني الذي أريدك فيه..
رفعت حاجبيها وهي تقول :
_ خيراً يا أبي..؟
تبادلا والديها النظرات قبل أن يقول :
_ لقد طلبك عمك صالح لإبنه " علي " ..
اتسعت حدقتيها قائلة :
_ ماذا ؟!
                                        & & &
بعد ساعة..
كانت أحلام جالسة وحدها حينما نزلت إليها أمينة، ابتسمت المرأة وألقت عليها تحية الصباح؛ فردتها لها الأخرى، ثم تسائلت :
_ أين مراد؟
أقنعت نفسها أنها سألت هذا السؤال من باب الواجب، ولكن أنا وأنتم نعرف لماذا سألت عليه..!
_ تناول فطوره ثم خرج مع أحمد إلى حديقة المنزل الخلفية.. تبادلت أمينة معها حديث روتيني وهي تتناول فطورها، ثم دخلتا إلى المطبخ..
_ اسمحي لي.. أود أن اطبخ أنا..
قالتها أمينة فلم تمانع حماتها، ثم تسائلت الأخيرة :
_ كيف أصبحت ماهرة في الطبخ في هذا العمر الصغير..؟
أجابتها وهي تحضر الأدوات والأغراض التي ستستخدمها :
_ بعد وفاة والدتي.. كان أخي يخرج للعمل ويعود متأخراً.. لذا كان مفترضا أن يجد طعاما عندما يعود آخر الليل.. لذا تعلمت الطبخ.. في البداية كان سيئا ولكنه تحسن تدريجياً..
_ كم كان عمرك..؟
_ عشرة أعوام..
_ كانت مسؤلية كبيرة عليكِ وقتها..
_ مع الوقت تعودت عليها.. والآن أصبحت أحب الطبخ وأبدع فيه .. يعني من أين إلى أين !
عمَّ الصمت لبرهة، ثم قالت أمينة وهي تحاول أن تستشف شيئاً عن حقيقة ما سمعته منذ ساعة :
_ صحيح سيدتي.. أيمكنك أن تخبريني شيئاً عن طفولة مراد..؟
ابتسمت أحلام وهي تسترجع صورة الفتى الصغير الذي كان يركض ضاحكاً بجوارها في الحديقة منذ سنوات، قالت :
_ كان مرحاً جداً ويعشق الضحك.. روح المنزل.. الخيط الذى كان يربطني بجلال عامر.. كان بسيطاً.. كل أحلامه أن يطير كالفراشات.. كنا نصنع الطائرات الورقية ونتسابق بها وفي كل مرة طائرته هي التي تسبق..
ابتسمت أمينة وهي تحرك حساء الطماطم فى الإناء الموضوع على النار، قائلة :
_ كانت طفولته هانئة؟
تبددت ابتسامت المرأة، ثم قالت شاردة :
_ كانت كذلك إلى أن حدث معي ذلك الحادث..
توقفت أمينة عن التحريك ناظرة إليها، تريد أن تعرف ما قصة ذلك الحادث؟!
، أكملت السيدة تقول بمرارة :
_ كان جلال قاسياً معي جداً ولا يعرف شيئاً عن مراد ولم يهتم به يوماً..ومع ذلك كنت احبه.. و كان مراد خجولا لذا كانت حياته مقتصرة علي أنا فقط.. ومع الوقت بدأت أجد من جلال تصرفات غريبة.. العودة إلى المنزل قُبيل الفجر.. وغيرها من التصرفات.. وبعد قليل من التدقيق تأكدت.. أنه يخونني.. دعيني أقول أنني راقبته ورأيته بعيني - صحيح أنها لم تكن المرة الأولى - لكن تلك المرة كانت بمثابة القشة التى قسمت ظهر البعير.. لذا قررت أن انفصل عنه.. ثم حصل معي ذلك الحادث..
أغمضت أحلام عينيها، وتنهدت قائلة :
_ كانت أيام صعبة جداً.. الدقائق تمر بصعوبة..لازلت أذكر نفس المشاعر المُّرة التي شعرت بها وقتها .. كلما تذكرت كم عانيت.. على الرغم من اصابتي بالشلل النصفي إلا أنني تمسكت بالطلاق.. كانت فكرة العيش كزوجة لجلال عامر فكرة مستحيلة.. ووقتها صديقة قديمة رشحت لي محامٍ ماهر؛ ليتولي قضيتي.. وكان ذلك المحامي زوجي سالم.. دافع عن قضيتي إلى أن فاز بها وانفصلت عن جلال عامر.. وكان مراد ضحية أفعال والده وقراري..
قالت أمينة وهي تحاول أن تجمع الأحداث في رأسها :
_ كيف؟
تنهدت المرأة للمرة الثانية، ثم استطردت :
_ بعد الطلاق كان من حقي أن يبقى ولدي معي.. ولكن جلال منعني بكل الطرق.. ضرب.. تهديد.. وآخر الأمر دخل علي فى بيت أمي - رحمها ﷲ - ومعه رجاله ووضع المسدس على رأسها.. اما أن يأخذ مراد أو يقتلها.. لم يرحم توسلاتي.. لم يرحم دموع أمي.. أو حتى صراخ مراد.. وأخذوه من حضني وهو يصرخ باكياً ويتشبث بي بكل قوته..
جففت المرأة دموعها وهي تنظر إلى صاحبتنا التي كانت مذهولة مما تسمعه ؛ وقالت :
_ وقف سالم معي وأحبني جداً..طلب مني الزواج ..وامرأة فى مثل حالتي لا ينبغي لها أن تعيش دون أحد خاصة بعد وفاة امي.. ومع الوقت انشغل جلال عامر بأعماله وأنا تزوجت.. ولم يبقى إلا مراد وحده.. ولكي يعاقبني جلال على زواجي حرمني من رؤية صغيري لأعوام.. حتى كَبُر في العمر والتحق بالمدرسة الثانوية.. وقتها كان سالم يخبرني بأخباره ويأخذني لأراه..ثم مرت أيام وأحضره سالم إلى المنزل سراً.. لن أنسى هذا اليوم أبداً.. لن أنسى كيف إنهرنا أنا وهو وبكينا وبقيت أضمه لفترة طويلة.. كنت أخشى أن أبعده عن حضني فأجده خيالاً.. وبعد هذا اليوم أخذ يأتي لرؤيتي سراً بين الحين والآخر.. وبقينا على نفس الحال لأعوام حتى إلتحق بالجامعة.. وقتها تشجع ولم يخبئ زيارته لي عن والده.. وعاد إلي ولدي مرة أخرى..
ابتسمت أحلام، ثم قالت :
لقد كان إختياري خاطئاً ولقد دفعت ثمنه غالياً.. ومع ذلك انا ممتنة لقدري لأنه خَّلصني من حياة مؤذية وعوضني عن كل ما عانيته.. ووقتها فقط أدركت أنه قد يؤتينا القدر بما لا نتوقعه.. وتحدث أمور في لحظة تغير مجرى حياتنا بالكامل.. وهنا يكون الإختبار وعلى قدر صبرنا وصمودنا مع الحق.. تكون مكافئتنا.. ولله الحكمة في أقداره..
ابتسمت مجدداً، بينما كانت أمينة صامتة لا تستوعب ما خرج من داخل تلك السيدة الراضية، ووسط ذهولها شعرت أن هناك حلقة مفقودة.. وهي الحادثة، قد تكون فعلا سقطت من علي السلم كما قال مراد من قبل.. ولكن ما الذي كان يعنيه من كلامه هذا الصباح؟!، أدركت أن هذه الحقيقة ليست كاملة.. هناك شيء بالتأكيد ينقصها !!
                                       & & &
في إحدى المطاعم المطلة على نهر النيل، ارتشف حسن قهوته، ثم نظر إلى رؤي التى جالسة أمامه وتتفحص التعليقات والاعجابات على منشورها الأخير على صفحتها على الانسجرام بكل رواق، ثم قال :
_ أرى انك قد نسيت تماماً موضوع مراد.. إذا كان الأمر هكذا ما الداعي إذا للخطبة والزيارات المتبادلة يا رؤى؟!
قالت بكل هدوء ورواق :
_ لِمَ انت متعجل هكذا؟!
_ لأنني ببساطة سأنقل حياتي للأسكندرية من الغد.. وان لم يكن لم نفعله فائدة فانسي الأمر..
أمسكت كوب العصير الذي أمامها، وارتشفت منه القليل :
_ لا تقلق.. انا أخطط لكل شيء.. وكما يقولون أخذ الحق حرفة.. كل شيء يأتي في وقته فقط بالهدوء والتروي..
_ ولم لا يكون هذا وقتها؟!
انحنت للأمام وهي تضع الكوب الذي بيدها على الطاولة، ووضعت ذراعيها فوقها، ثم قالت :
_ أتحب أن تأكل "طبخه" غير مطهوة جيداً؟
_ لا..
_ هذا ما أعنيه.. ان لم تكن أمينة مهيأة للسموم التي سندسها في رأسها لن نصل إلى نتيجة..
_ ماذا تقصدين بالضبط؟!
_ أقصد انه يجب أن يمر بعض الوقت لتصدق الأمر.. لأنه لا يوجد رجل يكشف نفسه بهذه السرعة أمام زوجته..وبالنسبة للأسكندرية فعادي.. لديك سيارة والمسافة بين القاهرة والأسكندرية ليست كبيرة.. أهم شيء أن تبقى معي على تواصل..
_ وما الذي تنوين فعله بعد ذلك؟
ابتسمت قائلة :
_ سأخبرك بكل شيء في وقته..
أكملت شرب العصير بينما نظر هو إليها، صوت بداخله يأمره بأن يتوقف في الحال وينهي هذه اللعبة السخيفة، وصوت آخر بداخله يقول له أكمل لعبتك وخذ حقك بنفس طريقته.. والآن أيهما يتبع؟!
                                        & & &

 والآن أيهما يتبع؟!                                         & & &

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.
هي وابن الأكابر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن