وصلت روزالين وإيزابيلا إلى ليون بعد رحلة طويلة وشاقة، وكان فيكتور قد رتب لهما مكانًا آمنًا للبقاء فيه. كان البيت يقع في طرف المدينة، يحيط به سور حجري عالٍ يضفي عليه شعورًا بالخصوصية والأمان. بدا المنزل هادئًا وجميلاً، مبنيًا بأسلوب كلاسيكي يتناسب مع مكانته، ولكنه كان بعيدًا عن أي مظاهر حياة المدن الكبرى.
رغم محاولتها الحفاظ على مظهر هادئ ومطمئن أمام إيزابيلا، لم تستطع روزالين إخفاء قلقها الشديد على أليكسندر. كان وداعه لهما أمام بوابة المدينة يحمل معانٍ كثيرة، فقد رأته يحاول بث الثقة في نفسه وبها، لكنه في نفس الوقت لم يستطع إخفاء مشاعره المختلطة بين الحب والخوف. ورغم أنه طمأنها بأنه سيعود سريعًا، إلا أنها شعرت بقلق لا يفارقها منذ أن انفصلا.
في الأيام التالية، حاولت روزالين أن تبقى بشوشة وتملأ البيت بالبهجة لأجل إيزابيلا، التي بدأت تستعيد روح الطفولة بعيدًا عن الصخب والمخاطر التي تركوها وراءهم. كانت تحكي لها قصصًا وتعلمها الأغاني وتبتكر لها ألعابًا صغيرة لتشغل وقتها. ولكن في قلبها، كانت هناك دائمًا هواجس تتسلل، وتخطر في بالها أسئلة بلا إجابة، مثل: هل وصل أليكسندر بسلام؟ هل هو بخير؟ وكيف سيعود إلى هنا في ظل الوضع المضطرب في فرنسا؟
ذات ليلة، بينما كانت تضع إيزابيلا في سريرها، شعرت الطفلة بشيء من التوتر وطلبت منها أن تبقى معها لبعض الوقت. استجابت روزالين لها، وجلسَت بجانبها، تمسك بيدها الصغيرة بحنان وابتسامة.
همست إيزابيلا: "هل تعتقدين أن أليكسندر سيكون بخير؟"
رغم اضطراب قلبها، ابتسمت روزالين وقالت بصوت دافئ: "بالطبع سيكون بخير، أليكسندر شجاع وقوي، وقد وعدنا أنه سيعود قريبًا."
كانت الكلمات تطمئن الطفلة، ولكنها لم تكن كافية لتهدئة قلب روزالين الذي كانت تشتعل فيه نيران القلق. بعد أن نامت إيزابيلا، خرجت روزالين إلى الشرفة الصغيرة في الطابق العلوي، تطل على المدينة الهادئة التي غطاها ضوء القمر. كانت ليالٍ طويلة وصامتة، تملأها أفكارها وقلقها المتزايد على أليكسندر.
في هذه الأثناء، كان أليكسندر يواجه تحديات صعبة في طريق عودته. لم تكن الرحلة سهلة، فقد وجد نفسه يمر من بلدات وأراضي اشتعلت فيها الفوضى والصراع، وكانت بعض الطرقات مغلقة، مما اضطره إلى اتخاذ مسارات ملتوية غير مألوفة. كانت هناك عدة مرات اضطر فيها للاختباء من بعض دوريات الثوار، أو قطع مسافات طويلة سيرًا على الأقدام، مما أرهقه وأبطأ من رحلته.
ذات مساء، وبينما كان يسير في طريق ريفي بعيد عن الأعين، واجه مجموعة من المسلحين الذين بدوا كمجموعة من الثوار، وكانوا مشبوهين وغاضبين، يبحثون عن أي شخص يشتبهون في انتمائه للنبلاء. تظاهر أليكسندر بأنه مجرد مسافر بسيط، وتحدث معهم بهدوء وأجاب على أسئلتهم بحذر، محاولًا تجنب إثارة الشكوك. كانت لحظات متوترة، ولكنه تمكن في النهاية من إقناعهم بأنه ليس لديه علاقة بأية أطراف نزاع، وأنه يسعى فقط للوصول إلى وجهته.
بعد أن تجاوز هذا الخطر، شعر أليكسندر بالإنهاك الجسدي والنفسي. استند إلى شجرة ضخمة في الغابة ليستريح، وكان يفكر في روزالين وإيزابيلا، ومدى اشتياقه للعودة إليهما. شعر بقلق متزايد من احتمالية ألا يصل إليهما بسلام، وتذكر الكلمات التي همس بها لروزالين في تلك الليلة الأخيرة، حين قال لها إنه خائف، وكيف أنها حاولت طمأنته، وكأنها كانت تدرك حجم القلق الذي يثقل قلبه.
مرّت الأيام ببطء شديد على روزالين وإيزابيلا. كانت روزالين تستيقظ كل صباح على أمل أن يصل خبر مطمئن عن أليكسندر، ولكن الانتظار كان ثقيلًا. في بعض الأيام كانت تستغل وقتها لتعليم إيزابيلا أشياء جديدة، تحاول أن تبث فيها شعور الأمان، كأنما وجودها بجانبها كان تعويضًا عن غياب أليكسندر.
في إحدى الليالي، بينما كانت إيزابيلا نائمة، جلست روزالين في غرفة المعيشة، تمسك بكتاب قديم ولكنها لم تكن قادرة على التركيز في القراءة. كانت عيناها تمتلئان بالدموع، فهي تشتاق له بشدة، تتذكر لمسته الدافئة، نظراته الحنونة، ووعده بأنه سيعود سريعًا. لم تكن تستطيع النوم، فخرجت مرة أخرى إلى الشرفة، تنظر إلى السماء وتتمنى لو تسمع أخباره ولو من بعيد.
استمرت رحلة أليكسندر بصعوباتها، وكان يشعر أن العودة إلى روزالين وإيزابيلا هي القوة الوحيدة التي تدفعه للمضي قُدُمًا رغم المخاطر. في أحد الأيام، وهو يسير في طريقه عبر ممر جبلي، حدث انهيار صخري أمامه، مما اضطره للعودة إلى الخلف والبحث عن طريق آخر. كانت تلك الحوادث الصغيرة تثقل عليه، كأن القدر يختبر عزيمته مع كل خطوة.
ذات ليلة باردة، عانى أليكسندر من الإرهاق لدرجة لم يستطع معها الوقوف، فقرر التخييم في مكان بعيد عن الأنظار. جلس بجانب النار محاولًا تدفئة نفسه، وشعر بوحدة قاتلة تحيط به. أخذ يتذكر ضحكات إيزابيلا وقصصه معها، وتذكر كلمات روزالين المشجعة، فكانت ذكرياتهما تملأ قلبه بالحياة. وضع رأسه على حقيبته وحاول أن يغفو، آملًا أن يكون هذا الكابوس المؤقت على وشك الانتهاء.
في ليون، كانت روزالين تنتظر بقلق، حتى أنها بدأت تعجز عن النوم بانتظام. كان قلبها يزداد قلقًا يومًا بعد يوم، ولكنها كانت مضطرة لإخفاء ذلك أمام إيزابيلا. حاولت أن تبقى بشوشة وتبث التفاؤل، ولكن مع كل يوم يمر دون عودة أليكسندر، كان اليأس يتسلل إلى قلبها أكثر.
مرت أسابيع، وظلت روزالين تحاول جاهدة أن تحافظ على مظهر من القوة. في إحدى الليالي، سمعت طرقات خفيفة على باب المنزل. ارتفع نبض قلبها، وشعرت أن قدميها تكادان لا تحملانها وهي تتجه نحو الباب، فتحت الباب ببطء، وهناك كان أليكسندر يقف أمامها، منهكًا ومتعبًا، لكن بوجه مليء بالحب والإصرار.
ركضت إليه، واحتضنته بقوة، بينما كانت الدموع تملأ عينيها. لم تستطع أن تنطق بكلمات، لكنه شعر بكل شيء في عناقها، كأنما كل مخاوفها وآلامها ذابت في تلك اللحظة.
همس أليكسندر بصوت هادئ: "لقد عدت، كما وعدتك."
كانت تلك اللحظة مليئة بالراحة والسعادة، فشعرت روزالين بأن قلبها استعاد نبضه الطبيعي. كان لقاؤهما يعني بداية جديدة، ومرحلة مختلفة في حياتهما، مرحلة لا يعرفان فيها ماذا سيحمله المستقبل، ولكنهما متأكدان من أنهما سيواجهانه معًا، بروح مليئة بالحب والالتزام.
أنت تقرأ
فوضى
Narrativa Storicaفي أوج اضطرابات فرنسا، وسط صراع طبقي لا يرحم، تصل روزالين، الشابة الطموحة، إلى قصر دي مونتيني للعمل كمعلمة لابنتهم الصغيرة. هناك، تواجه عائلة تفرقها الخلافات، وأسوارًا من الأسرار والكبرياء، حيث تلتقي بـألكسندر، النبيل الغامض الذي تخفي ملامحه الكثير...