نبضات اللقاء بين الشوق والألم

6 3 0
                                    

مرّت الأيام على رودين ببطء قاتل، ثقيلة كأنها دهور تتوالى. كانت تجد نفسها أسيرة الانتظار، ترقب بشوق وحزن حضورًا طال غيابه. كل يوم كان جالينوس يزورها، يتفقد حالتها بترقب، حتى جاء يوم لمعت في عينيه نظرة تردد، وسألها بصوت خافت:

"آنستي، أود سؤالك عن شيء."

رفعت رودين عينيها، تعلوها ملامح فضول مستتر، وقالت: "تفضل."

تنهد جالينوس وأردف: "كيف التقيتِ بالأمير؟"

ابتسمت بخفة، وأجابت برفق: "دعنا نقول إن القدر جمعنا بطرق غامضة."

ظهرت علامات الدهشة على وجهه، ثم قال بعد لحظة صمت: "إذن... أنتِ من كان معه في الكوخ؟ في البداية ظننت أن حديث الأمير عن فتاة يحبها مجرد تمثيلية ليغطي غيابه، لكن إذا أراكِ الكوخ، فلا بد أن الأمر جدي."

خفق قلبها، تذكرت لحظات جمعتها بأورفين في ذلك المكان، ولكنها أبقت وجهها هادئًا.

توهجت عينا جالينوس بلمعة ساخرة وهو يقول: "تعلمين، كان إكتشافي لذاك المكان أكبر خطأ قمت به. فضولي قادني لاكتشاف كيفية هروب الأمير حينها رأيت الكوخ، أمسكني سموه و هددني بأن يحرق كتبي إن أفشيت سره. كتبي هي حياتي، ولم أكن مستعدًا للتخلي عنها بعدها صرت خادما ينظف ذلك المكان."

ضحكت رودين، إذ عادت بذاكرتها إلى عندما أخبرها أورفين أن "شخصًا آخر" سيقوم بتنظيف الكوخ، وازدادت فضولًا حيال تلك التفاصيل.

---

كان الصيف قد حلّ، والشمس تتسلل عبر نوافذ الغرفة كل صباح، ترسل دفئها إلى الداخل. جلست رودين شاردة، تتأمل الفراغ، وتسرح في عالم ذكرياتها. عادت بذاكرتها إلى أيام طفولتها حين أصابتها الحمى، وكيف سهرت والدتها على رعايتها، تحاول خفض حرارتها . كانت تلك أول مرة تتذوق فيها طعم العطف الحقيقي من والدتها. وتكررت مرة أخرى، لكن حينها كان الحنان مشوبًا بمرارة الشفقة بعد فقدانها ليلى.

تنهدت عميقًا محاولة طرد تلك الذكريات، لكنها لم تستطع الإفلات من صوت أورفين وكلماته التي عادت تتردد في عقلها. لماذا شاركها أسراره؟ لماذا وثق بها؟ ماذا حدث بعد مغادرته؟ أسئلة ملأت ذهنها كعاصفة، تزيد رغبتها الملتهبة في رؤيته مجددًا.

فجأة، قطع أفكارها صوت خطوات مسرعة تقترب. كانت لورينا تدخل، وعلى وجهها ابتسامة متألقة: "آنستي، الأمير قد عاد!"

تسارعت نبضات قلب رودين، وهمّت بالنهوض، لكن لورينا أسرعت إليها، تمنعها بلطف: "آنستي، أرجوكِ، استريحي."

قالت رودين بشوق لم تستطع إخفاءه: "لكن... أورفين قد عاد!"

في تلك اللحظة، دخلت غايا إلى الغرفة، وعلامات القلق تلوح على وجهها، تقدمت نحوها بلطف وقالت: "عزيزتي ، ماذا تفعلين؟"

أجابت لورينا نيابة عنها: "تحاول النهوض لاستقبال الأمير."

أمسكت غايا بيد رودين بحنان قائلة بصوت لطيف، لكنه حازم: "لا، ما زلتِ مريضة، ولا أستطيع السماح لكِ بإجهاد نفسك بهذه السهولة."

حاولت رودين الاعتراض، لكن غايا قاطعتها بابتسامة واثقة، وقالت: "سيأتي الأمير لرؤيتك بنفسه، فلا حاجة لأن تعرّضي نفسك للتعب."

---

في الخارج، قفز أورفين عن جواده وسارع نحو الغرفة، وقلبه يخفق بشدة. كان قد سمع أنها استعادت وعيها. سيطر عليه مزيج من الشوق والخوف، تتضارب داخله مشاعر الشوق والندم، يتساءل إن كانت ستغفر له.

وصل إلى باب الغرفة وفتحه ببطء، قائلاً بشيء من التردد: "رودين؟"

كانت تجلس على سريرها، تتلقى عناية غايا ولورينا اللتين تحاولان إقناعها بالبقاء مستلقية. وما إن وقع نظرها عليه حتى أضاءت ملامحها بسعادة، وهمست بصوت شوق: "أورفين! لقد عدت!"

توقف أورفين في مكانه، وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة. كانت هذه المرة الأولى التي يراها بعد ما مرّت به، وداخل قلبه، شعر بجرح عميق يكاد يلتهمه، وهو يرى شحوب وجهها وتعب عينيها. (أيها الأحمق، ماذا فعلت بها؟ أثقلت عليها بحمل مشاكلك، أدخلتها في دوامة أوجاعك الخاصة... أكان هذا ما تستحقه منك؟)

جاء صوتها ثانية ليعيده من شروده، وهي تناديه بشوق واضح: "أورفين!"

رفع بصره إليها، وقال بصوت مبحوح ممتزج بالشوق والندم: "نعم، عدت يا رودين."

اقترب منها بخطى بطيئة، يحمل في عينيه مزيجًا من الحب والأسف.

أمانيثا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن