بين الغابة و الميناء

8 3 0
                                    


استفاقت رودين من شرودها عندما أدركت أنها تجلس على غصن شجرة شاهقة. لوهلة شعرت وكأن الأرض قد تلاشت تحت قدميها، والسماء امتدت بلا نهاية فوقها. نظرت حولها لتجد نفسها وحيدة. أورفين لم يكن بجانبها. حاولت النزول، لكن ارتفاع الشجرة كان مرعب. الأغصان رغم ثباتها، بدت كأنها تحذرها من محاولة خاطئة. صرخت بنداء يائس، علّ صوتها يصل إلى المارة الذين لمحتهم من بعيد، إلا أن الرياح حملت نداءها، تاركة خلفها صدى خافتًا كالأمل المتلاشي.

بدأت الدموع تتساقط على وجنتيها، غير قادرة على كبح شعورها بالعجز. فجأة، ظهر أمامها شعاع من الضوء. رفعت عينيها لترى جنية صغيرة بأجنحة تضيء بهدوء، كأنها حلم تجسد لينقذها. اقتربت الجنية بابتسامة طمأنة، ومسحت دموعها برقة.

تحدثت رودين بصوت مرتعش "أأنت... جنية؟"
هزت الجنية رأسها وأومأت بخفة وملامحها تحمل طمأنينة  "ما أجملك... هل يمكنك مساعدتي على النزول؟"
ابتسمت الجنية من جديد، ثم نفثت على رودين غباراً سحرياً تألق في ضوء الشمس المتسلل بين أغصان الشجرة. بدأت رودين تطفو برفق وصدمتها التجربة لوهلة، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها هبطت بخفة كما لو كانت تلامس الهواء وعندما أصبحت على الأرض، مدت يدها للجنية، التي استقرت فيها للحظة.
قبلت رودين رأس الجنية برقة وقالت: "شكرا على مساعدتك. لن أنساك أبداً."
حلقت الجنية بسعادة في الجو، ملوحة لها قبل أن تختفي بين ظلال الأشجار.
استجمعت رودين شجاعتها، وسارت نحو المجهول( هل هذه ليبرتا أم أن البوابة قذفتني إلى مكان آخر؟)
سارت على خطى الناس الذين رأتهم من بعيد، محاولة استعادة طريقها. استمرت بالمشي حتى خرجت من ظلال الغابة، لتقابلها أسوار مدينة ضخمة. كانت الأسوار مهيبة تذكرها بعظمة أمانيثا، لكنها حملت طابعا مختلفا. مع اقترابها بدأت أصوات المدينة تتعالى.
قادتها خطواتها إلى ميناء يعج بالحياة، حيث الصيادون يفرغون حمولاتهم من كائنات بحرية غريبة لم ترها من قبل. كانت الحركة صاخبة، وصراخ الباعة يمتزج مع صوت الأمواج المتكسرة ضمت رودين حقيبتها بحذر وهي تراقب الأطفال الذين يركضون بين الجموع، يبدو أن بعضهم يمارس السرقة بمهارة مقلقة.

فجأة، اعترض طريقها رجل ضخم بوجه مشوه تغطيه الندوب كان أشبه بقرصان خرج لتوه من معركة. قال بصوت خشن: "أهلاً يا صغيرة، هل أنت وحدك؟ إذا أردت، يمكنني مساعدتك."
هزت رأسها بسرعة وهي ترد بحزم: "لا، شكرا. لست وحدي."
وضع الرجل يده الثقيلة على كتفها، مما جعلها ترتعد. حاولت الابتعاد، لكنه أمسكها بإحكام.
"ما خطبك؟ لن أؤذيك. أنا رجل نبيل."
تراجعت خطوة إلى الخلف، وقالت بصوت مرتجف "قلت لك دعني وشأني!"
لكن الرجل زاد من قبضته على كتفها، آلمها هذا بشدة. حاولت الإفلات منه، لكنه ضحك بصوت عال وقال: "لا تخافي... دعينا نلعب قليلاً."
لم يكن أمامها سوى أن تضربه بكف غاضب، صفعته بقوة جعلت صدى ضربتها يتردد في أذنيها. كان الإشمئزاز واضحًا في عينيها. لكنه بدلاً من أن يتركها، ابتسم بخبث "يدك جميلة..."
في تلك اللحظة، جاء صوت مألوف ينادي: "رودين؟!"
التفتت بسرعة لترى أورفين يركض نحوها، عينيه مشتعلة بالغضب في لحظة، كان قد ضرب الرجل على وجهه بقوة أسقطته. وقف بين رودين والرجل، ونظراته كأنها سيوف حادة
"ماذا تظن نفسك فاعلا؟!"
بدأ الرجل يضحك بجنون، ولم يبال بالدم الذي يسيل من أنفه: "هل هذه فتاتك؟ حسنا، عندما تنتهي منها، يمكنك إعارتها لي."
صرخ أورفين بغضب "هذا الوغد..."
اندفع للهجوم، لكن رودين أمسكت بذراعه بشدة، وصاحت: "أورفين، لا! دعنا نذهب، أرجوك!"
لكنه لم يهدأ، وصر على أسنانه وهو ينظر إلى الرجل: "لا يمكنني تركه مثل هؤلاء يجب أن يتعلموا الدرس."
كان الناس قد بدأوا يتجمعون حولهم، يراقبون المشهد. أمسكت رودين بيده، وقالت بلهجة رجاء "أورفين، ليس الآن. أرجوك دعنا نبتعد. هذا ليس وقت المشاكل."
تراجع أورفين ببطء، لكنه لم يرفع عينيه عن الرجل، وقال بصوت منخفض مشحون بالغضب " هذا لم ينته بعد. ستندم على كلامك."
سار الاثنان بعيدًا عن المكان حتى توقف أورفين فجأة واستدار نحو رودين دون سابق إنذار ضمها إليه بقوة. كانت يداه ترتجفان، وصوته يفيض بالقلق "ظننت أنني فقدتك... الحمد لله أنك بخير."
شعرت رودين بالدفء في حضنه، و كأنه كان ملاذها الوحيد. قالت بهدوء "أنا آسفة ... كنت فقط أبحث عنك."
ابتعد عنها قليلاً، ثم نظر في عينيها بابتسامة خفيفة: "لن أدعك تضيعين مجددا. هذا وعد."

أمانيثا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن