حين تهمس الظلال

4 3 0
                                    

تابعوا تقدمهم ببطء خلف الجنية التي كانت تلمع كنجمة صغيرة في عتمة الغابة، كأنها ترشدهم عبر عالم غامض يكتنفه الغموض. كان كل واحد منهم يحمل عبئًا يثقل كاهله، يتردد صدى خطواتهم على الأرض الرطبة، بينما كانت الغابة تحيط بهم كأنها كائن حي يتنفس بصمت، يترقب مصيرهم.

ليفينا كانت تسير متعثرة، شاحبة كأن الحياة تسربت من جسدها. أمسك أورفين بيدها بقوة، همس لها برفق، نبرته تحاول أن تبدو ثابتة رغم الاضطراب في عينيه:
"تماسكي...لقد اقتربنا ."

عينا رودين كانتا مثبتتين على الجنية الصغيرة التي تسبح في الظلام أمامهم، كأنها شعلة أمل وحيدة وسط عالم من الخوف. كانت خطواتها واثقة، لكن قلبها كان يخفق بقلق لا تعرف له تفسيرًا.

زيف، الذي كان يسير خلفهم، تتراقص في عينيه شرارات من الفضول والإنبهار. نظر حوله كأنه يحاول قراءة أسرار الغابة. اقترب من رودين وسألها بصوت خافت، لكن نبرته كانت تحمل شيئًا غريبًا، كأنه يخفي أكثر مما يظهر:
"ما قصة هذه الجنية؟ كيف يمكن لها أن تساعدك وأنتِ... مجرد بشرية؟"

توقفت رودين لبرهة، كأنها تغوص في أعماق ذاكرتها. أجابت بصوت هادئ لكنه مشوب بالغموض:
"لا أعرف ،في المرة الأولى التي ضللت فيها هنا وحدي، كنت على وشك الاستسلام. هذه الجنية ظهرت من العدم، و ساعدتني . لم أكن أتوقع أن ألتقيها مرة أخرى."

ابتسم زيف ابتسامة غامضة، كأنه يدرس كلماتها:
"يا غريبة... عندما نخرج من هنا أود سماع قصتك."

قاطعتهم ليفيانا، التي بدأت تستعيد بعضًا من قوتها، لكنها لم تستطع إخفاء قلقها:
"لكن لماذا نحن هنا؟ ما الذي ينتظرنا في نهاية هذا الطريق المظلم؟"

قبل أن يتمكن أحدهم من الإجابة، تسلل إلى مسامعهم صوت خطوات ثقيلة، كأنها تأتي من مكان بعيد لكنه يقترب. التفتوا بحذر، لكن الظلال كانت أعمق من أن تكشف لهم سرها. كان الصوت يتردد بين الأشجار، كأن شيئًا خفيًا يتربص بهم.

قال أورفين بنبرة مشدودة، عينيه تمسحان الظلام حولهم:
"هناك من يراقبنا... أشعر به."

توقفت الجنية الصغيرة فجأة، أجنحتها الشفافة ترفرف بحذر. أصدرت صوتًا ناعمًا كأنها تحذرهم، ثم أشارت إلى ممر جانبي ضيق، يكاد يختفي وسط الأشجار المتشابكة.

قالت رودين بحزم:
"يبدو أننا يجب أن نغير طريقنا."

تبعوها بسرعة، الظلام يزداد كثافة مع كل خطوة، كأن الغابة تحاول أن تبتلعهم. الجنية كانت تضيء الطريق أمامهم، لكن التوتر كان يتصاعد مع كل ثانية. زيف، الذي كان يسير في الخلف، تمتم بصوت بالكاد يُسمع:
"هذا المكان... كأنه يريد أن يلتهمنا."

وفجأة، شقت صرخة مكتومة الظلام. تجمدوا في أماكنهم، لكن الجنية أشارت لهم بالاستمرار. أدركوا أن التوقف قد يعني الهلاك. كانوا يسيرون كأنهم في سباق مع شبح يطاردهم.

وأخيرًا، بعد ما بدا كأنه دهور، بدأ ضوء خافت يظهر بين الأشجار. كانت هناك بوابة ضبابية، لكنها لم تبدُ كبوابة خروج عادية؛ بل كأنها ممر بين عالمين.

توقفت الجنية، التفتت نحو رودين، وابتسمت ابتسامة أخيرة، ثم اختفت في ومضة ضوء، تاركة خلفها أثرًا من السحر. همست رودين بصوت مبحوح:
"شكرًا... شكرًا على كل شيء."

خرجوا من الغابة، لكن ما رأوه أمامهم كان أكثر غرابة مما توقعوا. السماء ملبدة بغيوم سوداء، والرياح الباردة تعصف كأن الشتاء اجتاح المكان رغم أن الوقت صيف. المدينة أمامهم كانت مجرد أطلال، أشباح من الماضي.

قالت رودين، نبرتها يملؤها الذهول:
"أين نحن؟"

أجاب زيف، بنبرة ثقيلة:
"هذه... مملكة كاليبرا."

حدّق أورفين في المشهد بحيرة، المدينة كانت خاوية، مهجورة، كأنها مسرح جريمة قديمة. قال بصوت غاضب:
"هذه كانت من أغنى المدن... ماذا حدث؟ أين ذهب الجميع؟"

التفت نحو زيف، عينيه تتقدان غضبًا:
"زيف، الآن ستخبرنا بكل شيء. من أنت؟ وما قصة القربان؟"

نظرت رودين وليفيانا إلى زيف بعيون تملؤها الريبة. همست ليفيانا، صوتها يرتجف:
"كيف يكون الجو هكذا في الصيف؟ ما الذي يحدث لهذا العالم؟"

زيف أطلق تنهيدة ثقيلة، كأنه يحمل سرًا أثقل من أن يُقال. قال بصوت خافت:
"حتى أنا... لا أفهم كل ما يحدث. شيء ما تغير، وكأن الزمن نفسه انحرف عن مساره."

تقدم أورفين خطوة، بنظرة حادة:
"أنت تخفي شيئًا. من أنت حقًا؟ ولماذا قررت مساعدتي؟"

نظر زيف إلى الأفق، عينيه تائهتان، كأن الإجابة التي يبحثون عنها هو الآخر يود معرفتها .

أمانيثا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن