تشقّق الصباح من رحم الليل، وأضاءت الدنى لتكشف عن أرض الشام ما أخفاه الظلام من آلام، ونثرت على بيوت غوطة دمشق ومآذنها وقبابها ظلالَ الحمائم الطائرة. وراحت بعضها تسرح بين هاتيك البيوت وتمرح حول المآذن وتختبئ خلف القباب. لكن حمامة آثرت أن تتبع خُطا مَسْلَمَة بعدما خرج من أحد مكاتب الالتحاق بركب المجاهدين.
وهناك عند باب البيت الذي بدا كجسد أم مَسْلَمَة الهزيل، وقف مسلمة هُنيهة مسندا ظهره إلی الباب كأخشاب المدفأة عند باب الدار، تدور عيناه حول المكان ثم ترتد ألما في نفسه حتی تكاد أن تقتل بقية إقدامه الجريء نحو ذلك الدرب الطويل، الممتدة جذوره إلى السماء.
لكنه فجأة انتفض وقلبه يُتمتم قبل اللسان:"سأفعلها!" وقبض يده بقوة حتی أثرت علی باطن يده، فطارت الحمامة البيضاء بعيدا...وما إن استدار حتی وقعت عيناه علی ملمح طفولي بريء، يرفع يديه إليه ليستكين بين أضلع الحنان.
وفي لمْح البصر وجدت فاطمة نفسها بين يديه، وهي تحس بقلبها وهو يتقافز مثلما تتقافز هي حين تری مَسْلَمَة، تغدو باتجاه السماء ثم ترتد إليه لتخبئ رأسها عند صدره. حينها لما ارتدت في المرة الأخيرة، أحس مسلمة أن السهم قد نزل علی صدره معها فهزه مرة أخری، فغابت ابتسامته وبدت علی وجهه آلام السهم المسموم بالذكرى، "أبي هل أوجعتك؟! أنا آسفة يا أبي" وأخذت تتأمله علها تسمع من عينيه الجواب.
نزع سهم الذكری، نزعه ووقف كالبطل المستبصِر في هوجاء المعارك، ثم دفعها وهو يقول لها:"هيا اركضي قبل أن أمسك بك!" تذكرتْ حينها فاطمةُ تلك اللعبة التي كانت تلعبها مع أبيها عندما تستريح الطائرات حينا قبل أن تعود للعبة الموت من جديد، ثم غابا عن الأنظار وهما يتراكضان كطفلين فرحين بين الحقول.
خرجت أم مسلمة لتنادي فاطمة وأباها. لمحته من بعيد حاملا طفلته علی كتفيه، فأشارت إليهما أن تعالا، وابتسامتها تخفي البشرى.
دخل الثلاثة الدار، تسابق خطا الطفلة خطواتهما التي أثقلتها الليالي والأيام."بعض من زيت الزيتون والخبز! من أين أتيت بهما يا أمي؟!" نطقها مَسْلَمَة والدهشة بادية عليه، "فضل الله علينا كبير يا بني" أردفت قوله بقولها ثم انتهبت للصغيرة وابتسامة الطفولة البريئة تبدو علی خديها:" أمي كانت تقول هذا دائما! أبي، متی سنزور أمي في الجنة كما وعدتني؟!". أثارت الكلمة في قلب الأب سهمين أليمين قد تنافسا في إثخان روحه بالأحزان، حاول نزعهما ببلسم من كلمات سكن بعضا مما هاج فيها:
-"عما قريب بإذن الله، سنزورها كلنا، وسنبقى معها للأبد!"
-"أحقا يا أبي! هيا لنذهب إليها الآن؛ فلعلها قلقة علينا!".
نظر مجددا في عينيها، فعاد السهم القديم ليغرس في صدره. أخذ يتأمل وجهها، يدها وهي تغمس قطع الخبر الجاف في الزيت، وابتسامتها التي تنتظر جوابه... كلها كانت تدعوه لأن يبقى معها، وكلها كانت تدفعه للغاية التي أراد، فأنى له أن يرد عنها الذي يخشاه دائما إلا بإرادته بعد الله؟
بدت لوهلة كل الأصوات وكأنها حلم، وما عاد الشاب يميز أطراف الحديث، وكأنه يريد أن يستمع لما يدفعه، وما يأخذ بيديه ويمسح علی قلبه الذي رققته السنون الطوال، كي يرفع من عزمه، وإذ بالجواب الذي لطالما انتظره يأتي محمولا علی سفينة ماكان يُأمّل نفسه بها، أتت الحمولة علی سفينة الطفولة علی بحر من نور رباني لطيف، "أمي كانت تقول لي دائما أنها تتمنی لو تراك مع عمي أحمد وحسام يوما، قالت بأنك لو ذهبت ستكون أسعد من في الوجود، وأنا كذلك يا أبي!"، تبادل الجميع نظرات حملت معها معاني النور، ونظرت الأم الرؤوم إلی ابنها نظرة الوفاق الذي لطالما انتظرته، لطالما انتظرت لقاء الوداع، ذلك الوداع الذي أسمته "لقاء الخلود الأول".أفتحسب أن قلب الأم قد قسی؟ أفتحسب أن قسوة الحرب قد امتدت لروحها الودودة؟ لا؛ بل قد لان اليوم واستوی علی سوق الرحمة، رحمة بأنات الصغار اليتامی الذين لطالما رأتهم في طريق عودتها للبيت، وآهات الأمهات الثكالی اللاتي ينظرن في وجه أبنائهن يناشدنهم أن ينطقوا، ولو كلمة الوداع الأخير.
ها قد تفتّت الخوف كله حين ارتمت الصغيرة في حضنه لتودعه إلی حيث العم أحمد وحسام، إلی حيث يسير ثلاثتهم إلی الجنان.
وهنا علی عتبة الدار، كتب أول سطر من سطور النصر واليقين والإيمان، علی أنقاض سطور الظلم والكفر والعدوان.أشرقت روح ابنها بالجهاد اليوم، وعند مغيب الشمس. فكانت خير كلام يسطره الزمان؛ يوم أن تغيب آمال المؤمنين، تشرقها سواعد المجاهدين وأرواحهم، وتسقيها بياسمين الدماء، وتحييها بعبق مسك الشهادة.
أنت تقرأ
إشراقة عند المغيب
Short Storyأن تشرق شمس الأمل عند المغيب، وأن يبدأ طريق النصر عندما تبدأ شمس الآمال بالمغيب..