الجزء العاشر

52 4 5
                                    

بسم الله الرحمن الرحيم


سابِقًا . .

[ دَنا منه بخطوات هادئة ، لا يكاد يُسمع له نفس ، إلّا أن يمان كان مستيقظا ، وقد سمع صوت أقدام مَيّال الذي أسرع ليفكُّ العصابة التي تغطي عينيه . أزاحها ميال ، ومن ثم تِبعها بمثيلتها التي رُبطت على فمه ، وانحنى قليلا وأخذ يراقب يمان وهو يفتح عينيه شيئًا فشيئًا ، وِمثل موجة ضئيلة القوى ، انسابت نظرات يمان المُتعبة إلى حدٍّ بعيدٍ من عينيه المحمّرتين ، وارتطمت بملامح مَيال الجامِدة . وبسبب الجفاف الفظيع الذي كان يعاني منه يمان ، لم يستطع أن يتكلم ، وتجمع تيّار هائلٌ من مشاعر الامتنان والدّهشة في حدقتيه ، تيّار كان من الممكن في وقتٍ آخر أن يُرطب مشاعر مَيال الإنسانية ، لكنه الآن ، بلا طائِل . تراجع ميال للوراء دون أن ينطق بكلمة ، وفجأة ، التفت وهمّ بالخروج . اتّسعت عينا يمان لأول وهلة ، فتح فمه وحاول أن يخرج كلمة بينما يجاهد ليهز نفسه والكرسي ، ممّا أدّى لسقوطه بغتة على الأرض دفعة واحدة . وبالكاد استطاع أن يهمس بحروف متقطعة :
-" انتظر !"
ببطءٍ شديد عَاود مَيال الالتفات إليه ، وقال وهو يكسي وجهه بتعابير تهكّمية :
-" هل تريد حقًا أن أنقذك ؟ "
هزّ يمان رأسه بقوة وهو لا يستطيع أن يفكر في شيء سوى كيف أنّ ميال أصبح فجأة بهذه الدناءة .
-" بأي ثمن ؟ "
نطق يمان :
-" أي شيء تريده . ."
-" حسنًا . . هذا حسنٌ جدًا "
ونكص على عقبيه وانحنى عندما وصل إلى يمان وأخرج سكينا من جيبه ، ثمّ شرع يفكّ وثاقه دون أن يكلف نفسه إعادة يمان إلى وضعه السابق ، وكأنه سعيد برؤيته ذليلا.
انتهى من تحرير جسده المتعب ، وساعده على النهوض ، إنّ جسد يمان ضعيف وخفيف مثل ثوبٍ مهلهل . حَمل ميال ساعده ولفه على عنقه ، ودون أن ينظر إليه أعانه في المشي متّجهين إلى الخارج . ]

-" انتظر لحظة "
همس يمان همسا لا يكاد يُسمع قبل أن يخطوا إلى الخارج ، فالتفت إليه ميال وبِعَجبٍ راقب شفتيه وهما تتحركان وتتلوان شيئًا ما ، ورغما عنه وخّزه ذلك الخشوع والتعبير الهادئ الذي ظَهر على ملامحه . مضت ثوانٍ قبل أن يصمت ، باغته مَيال سائِلًا :
-" مالذي كنتَ تقوله ؟ "
ابتسم ابتسامة لا تكاد تُميّز ، ومن وراء تعبه وشُحوبه بزغت في وجهه لمحة غريبة من السرور الممتزج بالدهشة وكأنه اكتشف سرًّا مُبهرا :
-" كنتُ أقرأ آية الكرسيّ . وربما ، لو أني لم أقرأها صَباحًا ، لما استطعت الدخول إليّ هاهنا . . والآن تلوتها حتى يحفظنا الله ونستطيع الخروج دون أن يصيبنا مكروه . ."
قطّب ميال حاجبيه ، واستولت على ذهنه عاصفة من الخواطر المفاجئة ، ولكنه لم يبدِ أي شيء منها ، بل أسبل جفنيه ، وأشاح بوجهه عن يمان ، ثمّ واصلا المشي . وحقًا مثلما أَمِل يمان ، تعدّيا الرّواق ، وصَعدا الدرج دون أن يواجههما أي شيءٍ غريب . الآن هاهما واقفين وسط قفصِ الدّجاج الفارغ ، أطرق يمان وأغمض عينيه تَعِبا من ضوء الشمس ، نظر إليه ميال ، ثم أشاح عنه فورا ، وشدّ ساعده عليه أكثر ، وعبَرَا إلى الخارجْ حيث مساحة العُشب الخالية من الشجر .
-" انتظر . . لحظة . . . ألن .. يكون .. خطرا علينا . . أن نخرج من . . الباب الرئيسي . . "
تكلم يمان وهو يرنو ببصره إلى ميال ، وبدا الأخير كما لو أنّ ذهنه متجمّد ومرتهنٌ بقوة لا مرئية تسيطر عليه سيطرة كاملة ، استرسل يمان عندما لم يجد استجابة :
-" دعنا نبحث عن باب خلفيّ .. "
-" لا . ."
جاوبه مّيال بلا اكتراث ، وواصل السير معه ، تعمّقا وسط الأشجار وكان نور الشمس الباهت محجوبا عنهما بكثرة الأغصان المتشابكة ، عَدا شعاعٍ استطاع النفاد ، وانسابَ كشلال ذهبيّ ضئيل ليضيء عين يمان اليسرى والتي طُوقت عدستها الزرقاء بخطوط حمراء ملتهبة .
بعد فترة ابتعد يمان عن ذراع ميال ، وما إن فعل حتى سقط على الأرض وبدأ يلهث ، وجهه الذي نحل يقطر عرقا وكتفيه يهتزان إلى الأمام والخلف ، محاولا الارتياح قليلا ، اتكأ بكفه على الأرض ورفع رأسه إلى الأعلى فاصطدمت عيناه بجدار الأغصان المتشابكة على نحو يثير الآلام في القلب . ابتعد ميال بضع خطوات إلى الوراء ، وشيئا فشيئا اقتحمت أنفه رائحة كريهة كانت تزداد حدّة كلما ابتعد أكثر . قطّب حاجبيه والتفت وازداد الظل الذي يكسو وجهه قتامة ، همّ بأن يسير ويتفقّد مصدر الرائحة ، إلا أنه أدخل يده في جيبه ، والتفت عائدًا إلى يمان الذي كان قد زحف بجسده إلى الوراء واتّكأ على جذع شجرة . قبض على الشيء في جيبه ، وعندما أصبح على مقربة من يمان ، أخرجه وألقى به على الأرض . حدّق يمان مندهشا ، إنه بسكوت شوكولاة وعبوّة صغيرة تحوي عصير فراولة .
– " تناولهما . . حتى لا تسقط مغشيًا عليك "
ثم أدبر وهو يسمع صوت قرطاس حبة الشوكولاة يُفتح .

العَجَلة الدّوّارَةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن