10 #2

56 4 3
                                    

بسم الله الرحمن الرحيم

10 #2


أخفض يمان رأسه دون أن يشعر ، واقعًا تحت وطئة أحاسيسه وهو يسمع الإمام يقرأ آيات من سورة الأنعام ، كان يشعر في قلبه باختناق وثورة ، وكأنّ القشرة التي كانت تُغلف قلبه الجاف ذبلت وانزلقت كجلدة حيوان مدبوغة و مبللة . يريد أن يبكي ، حتّى يذوب كل العفن بداخله . أطرق برأسه واختلج جسده قليلا . كبّر الإمام للركوع ، فانثنت أجساد المصلين في صف يمان ، وبعد لحظة من هذا ، والسكون يسود المسجد . ظهر صوت ارتطام مفاجئ تبعه نشيج ممزق للقلب .
وانتزع يمان من خشوعه إِثر إحساسه بلطمة خفيفة على جانبه الأيسر ، حيث كان يقف ، حيث كان يقف مَيّال .
أطفأ يمان تفكيره ، وسجد خلف الإمام الذي أسرع في الصلاة إثر فَزعه من صوت الارتطام والنشيج المفزع . لحظات قليلة وقضيت الصلاة . وانفضّ المصلّون في الصف الثاني وتحلّقوا حول ميال ويمان وفؤاد الذي لم يهتم لهم بل سارع بالانحناء ورفع كتفيّ مَيّال ، وأومأ ليمان حتى يعينه على إيقافه ، وقبل أن يفعلا ، تقدّم أحد المصلّين إليهم قائلاً وهو يبسط ذراعيه :
-" دعاني أعاونكما بحمله "
ثم انفضّ الجمع سريعًا . حينها همد جسد ميال وسَكَن نشيجه وأسدل جفنيه على عينيه المحمّرتين ، ابتعد يمان وأفسح المجال للشاب حتى يحل مكانه ويحمل ذِراعا من ذِراعي ميال على كتفه ، وحمل فؤاد ذِراعه الأخرى . لقد كانا يماثلنه تقريبا في حجم جسده لذا لم يصعب عليهما حمله .
سَبقهم يَمان إلى الباب ، ارتدى حِذائه وجهّز حِذائي مَيال وفؤاد ، ثم تقدّم إلى الأمام ونَزل الدّرجات الثّلاث ، وفي اللحظة نفسها التي خَرج كَان أسودُ هامًّا بقطع الخطوة التي تفصله عن الدّخولِ ليقابل صديقه. قطّب أسود حاجبيه ، ووقف يمان منتظرا ميال وفؤاد ، لكن ظهره كَان مُوليًا لأسود الذي مَيّزه فورًا نظرا لتمتعه بذاكرة قوية تحفظ التفاصيل :
-" أنـــــــــــــتْ ! "
التفت يمان مندهشا ، وردّ يمان بحيرة حينما رَأى أسود :
-" مابي ؟! "
وأدرك أسود أن يمان لم يره عندما دخل إلى المجلس إذ أنه كان مطرقا برأسه طوال الوقت ، قال :
-" مَن تنتظر ؟! "
استغرب يَمان أكثر ، وقبل أن يجيب ، ناداه أحد ما ، فالتفت ناحية الباب ، كَان فؤاد والشاب قَد نَزلا الدرجات الثلاث بَعناء . تنهّد فؤاد وقال :
-" يمان ، هلّا أتيت وألبسته حِذائيه ؟! ، سوف يكون مرهقا لنا فعل ذلك بالكاد استطعنا ارتداء حذائينا "
أَشاح يمان بنظره إلى الجانب للحظة كَعلامة على رَفضه الدّاخلي ، ولكنّه سُرعان مَا تجاهل كلّ ذلك ، وانحنى ليحمل حِذائيّ مَيّال ويلبسه إيّاها بِهدوء خارجي ، ولكنّ شيئا في صِدره كان يتأذى بقوة ، عَلى غِرار أسود الذي صَلَبته الصدمة في مكانه .
كانت ملامح ميال مستترة خلف خصلات شعره ، وكانت ملابسه مختلفة تماما ، لكن شعره كان مصففًا بنفس الطريقة المعتادة . حدّق فيه أسود ، وأدرك أنه يرى أخوه ، يرى أخوه في هذا الوضع المخزي والغريب ، مالذي جلبه إلى هنا ؟ هذا مسجد في حيّ من أحياء الطبقة المتوسطة ، ألا يفترض أنه لا يعرف يَمانْ وأنه يريد أن يوصله فقط إلى منزله أم أنّه كان يكذب . . ارتعش فِكر أسود ، تكلّم وهو لا يستطيع مُداراة شعوره بالحيرة :
-" ما اسم هذا الشّابْ ؟! "
التفتَ إليه يَمان ورَمقه بعينيه الزرقاوتين باستطلاع ، وَكذلك فَعل فؤاد ، لم يكن أسود مألوفًا لأحدٍ مِنهم سوى الشّاب الآخر الذي يحمل مَيّال ، أجَابَ عَليه :
-" اسمه غَارِبْ "
تَضاعفتْ حِيرة أسودْ ، وواصل فؤاد والشّاب الآخر سَيرهم خارجين إلى الشارع ، مُتجاهلين أسودْ . قطّب الأخير حاجبيه ، تَبِعهم ، أسرع من خطواته ثم التفت واعترضَ طريقهم ، وأدخل يده في جيبه ، ليشهر شَارة الشرطة في وجوههم . توقّف الثلاثة فؤاد والشّاب لؤي ويمان مُندهشين لهذه المقاطعة المفاجئة ، وعلى الفور استولى الرعب والإدراك على ذِهن فؤاد والقلق على يمان ، بينما أحْنَى لؤيٌّ رأسه مُحبطًا ويائسًا .
أنزل أسود يده ، أعاد الشارة إلى مَكانها وأخرج شيئًا آخر ، ثمّ تقدم حتى أصبح أمام مَيّال بالضبط ، وأدخل يده في جيبه باحِثًا عن هويته الوطنية ، لكنّه لم يجدها .
كَان فؤاد ولؤي يراقبانه مبهورين ، تَراجع إلى الوراء :
-" أين هي هويّته الوطنية ؟! "
أجابه فؤاد وقد قرر أن يذعن له إذ أنّه تمكن من قراءة الاسم وعَرف أنّ هذا الشخص أخٌ لميّال :
-" تَركها في المنزل . ."
أومأ أسود متفهما ثم وجه يده الممسكة بمفتاح آلي للسيارة ، وجهه نحو الجهة اليمنى حيث كانت السيارة ظاهرة أمام منزل ما ، فأصدرت صوتًا آليا مخبرا عن فتح الأقفال . وحثّ خطاه متجها إليها ، تَبعه البقيّة .
ركب يمان في المقعد الخلفي ، أدخل الشّابان مَيّال إلى السيارة ووَضَعا رأسه على قدميّ يمان وجعلا قدميه مسدلتان إلى الأسفل حتى يتسنى لهم إغلاق الباب ،نظر إليه يمان ، كان وجهه مشعًا بحُمرة تشي بأنّه قد أُصيب بالحمّى ،ثم أشاح بوجهه .
تكلّم فؤاد عندما انطلق أسود بالسيارة :
-" شُكرًا لَكَ على المُساعدة .. في الحقيقة لا أحبّذ الذهاب إلى المشفى ، لدينا في المنزل بعض الأدوية التي صُرفت لهُ في آخر مرة راجع فيها المشفى ، دقائق فقط وسوف نصل إلى المنزل ، ليس عليك إلا أن تنعطف انعطافًا واحدًا ومن ثمّ سَنصل "
تبدّلت مَلامح أسود ، ووصلت رَيبته إلى حدّها ، شدّ بقبضته على طَارة القيادة ، وقطّب حاجبيه مفكّرا بِحيرة " كيف لِهذا الشّاب الغريب أن يتحدث بهذه الثّقة عن أخي ؟! " لكنه تَمالكَ نفسه وذكّرها بأنه هو بنفسه لم يعرف مَيّال حقًا بعد ولم يعش معه أيًّا من سنواته السابقة . وتوصّل إِلى قراره ، لم يبتسم لكنه تحدّث بصوت هادئ :
-" إذًا أخبرني حين نقترب من المنزل"
ابتسم فؤاد :
-" هاهو ، ذو البوابة البنية والشجرة ، اركن السيارة بجانب الباب الذي يجاور الشجرة ولا تركنها أمام الرئيسي "
أوقف أسود السيارة ، ورَكنها كما أخبره فؤاد ثمّ التفت إليه :
-" هيّا بِنا "
خَرجَا من السيّارة في وقتٍ واحد ، وسَارع فؤاد ليفتح الباب الخلّفي حتّى يتعاونا عَلى نَقلِ مَيّال ، لولَا أنّ أسود سَبقه بأنْ أقفل السّيارة . تجمّد فؤاد في مكانه ونظر يمان إلى الخارج مُستغربًا حِين سمعا الصّوت الذي يُعلن عن إقفالها ، وَقال أسود بصوت بارِد دون أن ينظر إلى فؤاد :
-" هيّا بِنا لنصعد .. "
تقدّم فؤاد إلى باب المنزل ، أولاه ظهره ونظر بهدوءٍ يُخالطه شكّ خالٍ من العدوانية :
-" ماذا تقصد ؟ ولمَ أقفلت السّيارة قبل أن نحمل مَيّال ؟! "
-" دَعنا نصعد ثمّ نتفَاهمْ .. "
رَفَع فؤاد رأسه إلى الأعلى وحدّق لثوان في السماء الخالية إلّا من نتف خفيفة من الغَمامْ وقال :
-" حسنًا ، إذا كان هذا هو ماتريده ، لكنْ أخشى أنّ مـي- غَارب لن يصمد طويلًا "
-" لم أشك للحظة في أنك تعرف اسمه الحقيقي لذلك لا تحاول تخبئة ذلك .. "
رَمَقه فؤاد بنظرة مستغربة ، بينما كَان يَمان يراقبهما بنفس النظرة من خلف زجاج السّيارة ورأس ميّال موضوع فوق رجليه ، فلم يكن من أسود إلا أن قال وهو يدخل يده في جيبه :
-" أستجعلني أنتظر طويلًا ؟ "
ابتسم فؤاد نصف ابتسامة ثمّ التفت وواجه الباب ليفتحه ، ولَج إلى الدّاخل ، وتَبِعه أسود على الفور .

العَجَلة الدّوّارَةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن