كان منزلي الذي ترعرت فيه يقع على أطراف المدينة وكنت أشعر بأني محظوظة بهذا الموقع الفريد، فلم تكن الكتل الخرسانية والإسمنتية تحيط بنا من كل جانب كمعظم أبنية مدينتنا، بل كانت بساتين الزيتون والليمون تمتد أمامنا على مد النظر .. وكنت في أوقات كآبتي التي لا تنتهي أخرج إلى الشرفة ربيعاً وأتنشق ملء رئتي عبير زهر الليمون وأخرج شتاءً فأصطلي بشمس خجولة تحتجب وراء الشمس من فترة لأخرى. وكان ابن عمتي أسامة يسكن مع والدته وأخته ليلى التي قبالتنا منذ أن توفي والده شهيداً على الهوية عند أحد الحواجز الطائفية إبان الحرب. كان يكبرني بسنتين، وعلى رغم نفوره من البنات في فترة مراهقته فقد كان يعزني كثيراً ربما لأنه لم يرني يومها، كفتاة .. لم يرني يومها كفتاة ؟؟ لا كي أكون صادقة مع نفسي هو لم يرني يوماً واحداً كفتاة. في المشاهد الأولى من القصة سأحاول أن أتحدث عنه وأعرفكم به ومن ثم سأنسحب تدريجياً لأتركه يكمل القصة عني، فهو الذي يستحق أن يكون راويها لا أنا، كون أحداث هذه الرواية مستقاة من مذكراته التي كان يحرص على كتابتها يومياً، ولن يكون تدخلي إلا في ملء بعض الثغرات التي تركها في مذكراته، أو تلك التي لطختها دماؤه الزكية في ذلك اليوم المشؤوم. لم يحاول أسامة في مذكراته التركيز على جرائم الخصم رغم وصولها إلى حد لا يصدق من الفضاعة والبشاعة، فقد كان يعرف أن الحرب ستنتهي يوماً، ولم يكن يريد أن ينكأ الجراح. لقد ركز أسامة على ما فعلناه نحن بحق أنفسنا وبحق شعبنا متوقعاً من الخصم أن يحذو حذوه في ممارسة النقد الذاتي للمارسات الوحشية التي قام بها. أول مشهد أتذكر أسامة فيه هو منظر والدته تشده من ثيابه وتصرخ فيه (( تعال يامجنون ..إنزل معنا إلى الملجأ..)) كان يجلس على الشرفة يراقب القذئف المنهمرة كالمطر وكأنه ينظر إلى مفرقعات نارية تطلق احتفاء ًبعرس بهيج. لا بل كان يتسلى باحصاء القذائف أو الصواريخ وبمحاولة سبر نوعيتها من أزيزها. كان أسامة شجاعاً .. لا أتذكر أبداً أني رأيت في عينيه نظرت الخوف .. وكي أكون صادقة رأيتها فقط حينما كان يتكلم عنها .. فقد كانت هي الشيء الوحيد - من هذه الدنيا بالطبع - الذي يجعل لحياته معنى كما كان يردد.كان أسامة يعاملني كأخته ليلى تماماً يخاف علي كما يخاف عليها، وقد ترك إستشهاد والده إحساساً مبكراً بالرجولة عنده، فكان يغار علينا ويحرص على قضاء حوائجنا، كي لا يحيجنا للخروج من المنزل إذ كان ملتزماً جداً من هذه الناحية. وكان مولعاً بالحرب بشكل غريب، بحيث لا يتخيل نفسه إلا مقاتلاً شرساً ممتطياً الجيب العسكري وممسكاً مضاد الطائرات بيديه الإثنتين .. وكثيراً ما كان يناديني كي أساعده في عصب رأسه بشريطة حمراء مثل رامبو، كان يتحول إثرها إلى السوبرمان ( الرجل الخارق ) على حد زعمه.
وكان لا يفتأ يردد أمامي: أنظري يا حنين .. عندما أعصب رأسي بهذه فأنا لا أخاف شيئاً .. لا يؤثر بي الرصاص ولا حتى الصواريخ ..
كنت أضحك كثيراً، إذ رغم أنه يكبرني بسنتين فقد كنت واقعية جداً ولم أكن أصدق أن هذه الشريطة الحمراء الرثة ممكن أن تحميه من الأخطار . ولكن الآن .. في هذه اللحظات بالذات .. حينما أسترجع ذكرياتي أعتقد أني بدأت أفهم ماذا تعني له هذه الشريطة .. لم يكن يؤمن كما كنت أظن بأنها تحيطه بهالة وهمية تحميه من المخاطر بل كانت مجرد رمز بالنسبة له .. كانت رمز يذكره بأن لا مستحيل مع وجود التصميم والإرادة.
كان أسامة ينتهز فترة الهدوء بين المعارك لينزل إلى أرض المعركة واعداً نفسه بصيد وفير من خراطيش الرصاص الفارغة وغلة وافرة من شظايا الغذائف، ولكم كان يسير حينما يجد بقايا صاروخ ( غراد ) يتعاون على حمله هو وصديقه الحميم حسام إلى مخبئهما السري تحت أنقاض إحدى العمارات التي هدمتها الحرب. لا زلت أذكر أول وأغلى هدية قدمها لي أسامة .. كانت عقداً من خرطوش الكلاشينكوف الفارغ خاطه بعناية ورصعه في منتصفه بخرطوشة مضاد الطائرات .. ومع أنه قدم لي بعدها كثيراً من الهدايا الثمينة، خاصة عندما ترأس منظمته السرية إلا أني لم ولن أنسى هذه الهدية الثمينة. (( انتبهي يا حنين .. )) قال لي يومها، (( لا تجرحي يدك بها فإن كانت صدئة فقد تصابين بالغرغينا )). نعم، رغم استهتاره الواضح بحياته فقد كان يحرص علي ويحرص على كل أحبائه من أن يصيبهم أدنى ضيم أو خدش حتى لو كانت نسمة هواء باردة تلفح وجوههم.
أنت تقرأ
عرس في الجنة
Romanceالحرب اللبنانية .. من منظور " أسامة " " أسامة " ترعرع في العاصمة الثانية طرابلس لا أذكر أسماء المدن والشوارع والاشخاص .. لأني لا أريد أن أكتب لوطني بل أريد أن أكتب للعالم العربي فلسطين | سوريا | العراق | الجزائر | اليمن الدين واحد الجرح واحد .. ال...