اليومُ الثاني : جولة مع الوِحدة

378 22 11
                                    

تعرفُ الوحدةُ كيفَ تنقّضّ عليّ ، تُميّز نقطة ضعفي ، لديها المقدرة على نبش جراحي ، وجعلها تنزف مُجددًا...
* * *
(١)
تلمسُ الورقة على الجدار ، تُمزقها بقبضة يديها بحسرةٍ وغيظ "إنها تلك الصحيفة اللعينة ! هي السبب .. هي السبب"
تجثو على ركبتيها ، مُجددًا ، هي عادت تتأملُ المدينة العامرة ، بالخراب !
رُغم جمالِ أضوائها المتلألأة ، إلا أنها بدت موحشة ، بائسةً وتعيسة ، كأن الروح قد اُنتزعت منها .
تقفُ على قدميها بتثاقل ، تعود لذلك الصندوق الزجاجي ، تتساءل "هل كنتُ هنا طيلة خمسة سنوات؟"

لم تُطل التأمل في المكان ، كأن هنالك ملايين الأسئلة اللعينة الجالبة للصداع ، تُحاصرها بطوقٍ غليظ..
تحت موضع وقوفها تمامًا كان هنالك ملاءة سوداء قذرة ، تلفها على جسدها كسكان الكهوف ، تمشي عبر الفُتحة للجدار المُتهالك ، إلى الخارج ... حيثُ تستقبلها النسائم الباردة .. على قمة الجبلِ الخفيض ، كانت النسائم تُحرّك خصلاتِ شعرها القصير ، تُغرغر عينيها ، رغبة عظيمة تدفعها للبكاء ، منظر المدينة الموحشة أمامها جعلها تستسلم لهذه الرغبة العميقة و ... تجهش بالبكاء .
* * *
(٢)
تغطسُ في جوف المدينة ، بعدد ما رفعت رأسها لرؤية نواطح السحاب تُنافس أعلى القمم عُلوًّا ، بعدد ما آلمها قلبها ، إنها لا تعلم أين هي ، لوحات إعلانية ، صور زُجاجية كالفُسيفساء ، شاشات بدقة عالية تتوسط المبنى أمامها ، ولكن لا شيء من هذا مفهوم ، لماذا ؟ ببساطة لأنها لم تبدو كلغة غريبة وحسب، بل بدت كأنها ليست من أيّ لغاتِ البشر !
قدماها الحافيتان لم تؤلمها ، السطح الأملسُ تمامًا تحتها لا يبدو كالأرض التي اعتاد الناسُ على المشي عليها ، كل شيء يبدو مُختلفًا ، غير طبيعي ! لم تُصادف إنسيًّا واحدًا منذُ ساعات .. رُغم أنها لا تعلم حقًا كم مضى من الوقت. لا تعلم في أيّ يومٍ هي ، في أي زمان !
السماءُ فوقها بدت كسقف ! مُزينةً بالكتابات السحابية والنجوم الصناعية ! كُتبت أرقام وأحرف غريبة .. بدت لها بشكلٍ أو بآخر كتاريخ ، ولكن ، غير مقروء.
"على الأرجحُ نحن في ديسمبر.."
حزرت عن طريقِ حواسها التي لا تزال سليمةً كما يبدو ، البرد القارص ، الرياحُ التي تهبّ مُحملةً بالرذاذ البارد ، "بلى، لابدّ أننا في ديسمبر" -هي حادثت نفسها..
الوحدة تسيرُ برفقتها ، تحتضن يديها المُرتجفتين ، تعكسُ مكامن نفسها المخبأة خلف المجهول ..
تعانق قلبها المُتألم بحُب ، مما لا شكّ فيه ، هو أن الوحدةَ تعشقُها.
تستوقفها أفكارٌ غريبة .. هل يعقل أنني ميتة ؟ هل أنا في عالم آخر .. أو ربما أكثر من ذلك .. هل أنا في الكون الموازي ؟*
تشدّ رأسها .. كل شيء يبدو مُبهمًا
تُكمل سيرها بتثاقل ، رغم أن عقلها فضولي ليعرف كل شيء ، ترى هيئة رجلٍ من بعيد ، نهاية الطريق ، تُهرول نحوه بتخبط
"عذرًا .. لو سمحت .. توقف، أرجوك!!"
يستمرُّ بالمشي غيرَ آبهٍ بناداءاتها المُتكررة
يستسلم لرجاءها ، يتوقف
تركضُ نحوه بلهفة ، تنحني لاهثة ، تلملم شتاتها
"شكرًا أيها السيد .."
تُلقي نظرةً على وجهه ، تسقطُ على الأرض بجزع .. هل كنتُ أتوهم ؟ أم أن هذا حقيقي ؟
ولكن ، إنه ليس إنسانًا
إنه ..
إنسان آلي !
* * *
(٣)
مُجددًا ، هي تفتحُ عينيها ، المكان مُختلف ، تُلقي نظرةً شاملة على المكان ، تبلل الدموعُ خديها الذابلين ، تصرخ بوَهن
"أين أنا ؟!"
صوتُ بابٍ يُفتح ، تتقدمُ شابةٌ جميلة
"هل استيقظتِ؟"
رغم أنها كانت متلهفةً لرؤية بشريّ ، إلا أنها ردت بنفادِ صبر
"ومالذي ترينه أمامك ؟"
"أرى أنكِ مُنفعلة، لابد أنكِ جائعة .."
تتحرك طاولة عبر مضمار حديدي صغير نحوها ، ملأى بشتى أنواع الطعام الشهيّ ، تمدُّ يدها بلهفة ، تنهرها الشابة
"لا .. ليس هذا!"
تُعطيها شيئًا أشبه بـكبسولة صغيرة
" لقد استيقظتِ لتوك، تحتاجين لتناول هذه.."
"ما هذا؟"
"لا تخافي، لم أضع فيها سُمًّا!
- تُردف بعد صمت .. "يبدو أنكِ لا تثقين بي. آنسة روبنز"
تفتحُ عينيها بذهول "من تكونين أنتِ !" توجه لها الحديث بشكّ ، غضب ، وخوف
لم تكن الشابة جميلةً فحسب ، بل كانت ذكيةً ولبقة ، شعرها قصير جدًا ، مقصوص كالرجال ، إلا أنها تفيضُ أنوثة .. عيناها سودواتان ، عميقة ، ودافئة ، لسببٍ ما ترتاحُ لها ، تُغطي وجهها بكفيها الجريحين "إنني خائفة، لستُ جائعة فحسب، ولكنني أيضًا خائفة...."
"ممَّ؟" تسألها الشابة بصوتٍ هادئ
"من كل شيء..." تنفجر في البكاء
* * *

(٤)" أُدعى جينيفر سايمون، بإمكانكِ دعوتي جيني"تشابك يديها المرتجفتين ببعضهما ، تتنحنح ، تسأل ، ولكن ذلك السؤال لم يكن أول تساؤلاتها"إذن، جيني، في أيّ عامٍ نحن ؟" تسألُ أكثر أسئلتها حيرة

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

(٤)
" أُدعى جينيفر سايمون، بإمكانكِ دعوتي جيني"
تشابك يديها المرتجفتين ببعضهما ، تتنحنح ، تسأل ، ولكن ذلك السؤال لم يكن أول تساؤلاتها
"إذن، جيني، في أيّ عامٍ نحن ؟" تسألُ أكثر أسئلتها حيرة.
"في عام 2039" تقول ضاحكة.
"مالمُضحك؟" تسألُ بحذر، وكلها اسئلة...
"لم أتوقع سؤالًا كهذا.."
تعتدلُ في جلستها على الفراش "في الحقيقة، لديّ العديد من الأسئلة، جيني، بأيهم أبدأ؟"
"قبل أن تبدأي في الأسئلة، تحتاجين لقراءة هذا، أظنهُ سيُجيب على معظم أسألتك." تُعطيها جهازًا، وتخرج.
تقرأُ بحذر، لقد كُتب هنا (ملخص آخر خمس سنوات على كوكب الأرض.) ماهذا؟ المزيد من الأسئلة تشتعل في دماغها. تقرأُ بنهم، بفضولٍ وتعجب، تقفُ على آخر كلمة، تنادي بصوتٍ هزيلٍ مُتقطع "جيني.. جينيفر.."
يدخُل شيءٌ ما الغرفة، يبدو كعلبة حديدية مُكعبة، تمشي تجاهها، فجأةً تتفتح كزهرة، ولكن أسرع من ذلك. يخرجُ لها، وجهه لطيف، يبتسم صارخًا "مرحبًا! إيما!"
تصرُخ قابضةً قلبها "من أنت ! من تكونُ أيضًا؟"
"زاك!!" يضحك.
"ما هذا الشيء؟" تقولُ لجيني التي تلجُ الغرفة حالًا.
"مالأمر مع صراخك؟" تنظرُ لـزاك بابتسامة "نعم، لم أُعرفكِ به، زاك! إنهُ رجل آليّ، كما ترين!"
"إنهُ ذكي أيضًا!" تُردف.
* * *
أُدعى إيما، أبلغُ من العمرِ ثلاثين سنةً. عيدُ ميلادي الخميس القادم، كما أرى في التقويم المُعلق بجواري.
أُدعى أيضًا علياء، قُبل أن يغير إسمي السيد ستيفن روبنز. إنهُ أبي بالتبني، أظنهُ ماتَ منذُ وقتٍ طويل، منذ أن سافر على متنِ مركبة "أبولو٧" المتوجهة إلى القمر. حيثُ لم يعد أبدًا.
لديّ الكثير من الأسئلة ! لاشكّ بأن ذلك واضح ! نعم، لولا أنني قد ذهبتُ في ذلك اليوم، كان الخامس من أغسطس في عام 2034 ، لا زلتُ أتذكرهُ جيدًا. في فترة سُباتي الغريب هذه، كنتُ أظن أنني قد تبعت والدي إلى المريخ، كنتُ أرى عنهُ الكثير من الرؤى، ولكني لم أظن أنني سأستيقظ يومًا لأرى هذه الحياة. يُقال بأن لديّ مُهمة ، كإنقاذ البشر في الأفلام! هذا ما قالوه لأبي. كم أكره المهمات من هذا النوع. تموتُ ليحيا غيرك، وينسونَ فضلك بعد سنينٍ قصيرة. وأحيانًا ، أنت حتى لا تنجح في مهمتك ولكنك تقولُ مُعزيًّا نفسك "لقد ساهمت في إنقاذ العالم!" آه! هذا لا معنى له.
* * *
*الكون الموازي : نظرية تقول ببساطة أن هنالك أكوان أخرى -موازية أو مُشابهة لكوننا.

ولادة الموت حيث تعيش القصص. اكتشف الآن