اليومُ الخامس : الأرض المنسيّة

194 10 5
                                    

أرصفة الشوارع العطشى
و ألفُ خطوة مهّدها الفقد
على هذه الارض
رغم كل الوجع
ما يستحق الحياة
- محمود درويش

* * *
خيوطُ الشمسِ الدافئة تنسدلُ بِرقةٍ على شعرها المُبلل ، تجد طريقها نحو عينيها المُغمضتين .. تُغمض عينيها بقوةٍ إستجابةً للضوء ، تفتحهما بِخوف
"أين أنا ؟"
هي سألت للمرةِ الثانية منذُ استيقظت لهذا العالم . ولكن هذه المرة لم تفتح عينيها لترى غُرفةً ضيقةً مُتهالكة ، بل رأت جنةَ الأرض ..
مشت بِتثاقل ، ساقاها مُتشنجتانِ بفعلِ البرد ، المياهُ ترشحُ من ملابسها وشعرها وحتى رمشيها ، إنها مبللة بالكامل .
تأخذُ نظرةً مُتفحصة للمكان .. تدور ببصرها ، الخُضرة تكسو الأرض ، السماءُ زرقاءٌ جدًا كما لم تكن يومًا .
العصافير تتغنى بصوتٍ واحد ، يُحلق عصفور ، يتباهى بطيرانهِ في السماء .
"يا إلهي !"
فكّها يتدلى حتى عُنقها ، تُحاول تدارك نفسها ، ولكن الموقفَ أنساها نفسها !
تُغمضُ عينيها ، تفردُ ذراعيها كأنهما جناحان ، كأنها ستُعانق أحدهم ..
يُعانقها النّسيم ، تضحُكُ بينما ترتجف بردًا ، تتطقطق أسنانها ، تُعانق نفسها وتمشي باحثةً عن أشعة الشمس لُتدفئها .
تنزوي لأحد الأشجار ، تخلعُ ملابسها المُبللة ، تنشرها على الأغصان ، وتستلقي تحت الشجرة
" يا إلهي ما أجمل هذه الحياة !"
شددت على "الحياة!" وهي تصرخُ مُنتشيةً فرحًا .
إنها حياةٌ ، ليس هذا فحسب ، بل هي جميلة أيضًا .
تطردُ ذكرياتِ الأمس السيئة عن ذاكرتها ، تلوحُ بيديها للسماءِ الصافية بينما ترسمُ شفتاها ابتسامةً عريضة جدًا ، إلى درجة أنها قادرة على احتواءِ احزانها ، وطرده بعيدًا .
نهضت ترتدي ملابسها بعد أن نشفت تقريبًا ولكنها لا تزال باردة .
"صحيح ، أين زاك ؟ آه لقد نسيتُ كل شيء ، مالذي حدث لي يا ترى ؟
لا أعلم أن.."
قطع حبل أفكارها شخصٌ ما اقتحم عُزلتها ، لقد كان هنالك انسان يركض في الغابة
ضيقت عينيها لتراه غير مصدقة 
صرخت فيه من بعيد "من تكون !"

"قطع حبل أفكارها شخصٌ ما اقتحم عُزلتها ، لقد كان هنالك انسان يركض في الغابة ضيقت عينيها لتراه غير مصدقة   صرخت فيه من بعيد "من تكون !"

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

* * *
الشمسُ تكادُ تدنو من الغروب ، تتسلل برفقٍ لتقبل الجبال بدفء .
"يا إلهي سوف يحلّ الظلام قريبًا ، وأنا لا أعلم أين أنا ! ولم أجد زاك حتى الآن ..
اللعنة على خيالي لقد تأخرت ! غبية، غبية !
ما هذا الشخص الذي سيظهر فجأةً في الغابة ؛ هل هو طرزان !"
قالت مُوبخةً نفسها .. كانت تمشي وهي لا تكادُ تُبصر طريقها من الضجر ، معدتها تزمجرُ غضبًا وكأنها تصرخ "أطعميني" !
"تحملي قليلًا يا عزيزتي.. سأملئكِ بالطعام قريبًا
ما هذا ! هل أتوهم مجددًا ؟"
تشممت رائحة طعامٍ زكيّ على بُعد أميال ، كانت رائحة أرزٍ مسلوق ولحمٍ مشوي ، أنفها لا يمكن أن يُخطئ .
مشت خلف الرائحة في الغابة ، وكلما توغلت ازدادت الاشجار كثافة .
مشت بحذرٍ وهي تحتضنُ قلبها المتوَجِّس
لم تكد تلحظ تلك الصخرة الصغيرة طريقها ، فإذا بها تتعثر ثم تسقط أرضًا ، لترتطتم بصخرةٍ حادة .. "آه!" هي فقط أصدرت "آه" الألم التي لن يسمعها أحد ، وتلمست ذلك الجرح الدامي في جبهتها ، والذي تنبأت أن مصيره سيكون كالجرح الذي في قلبها ، ولن يداويه أحد .
"دماء! هذا ما كان ينقصني ..."
كانت جبهتها تنزف بقوة ، ولم تجد شيئًا يوقف النزيف ، لهذا مزقت قطعةً من ثوبها بالكاد وربطت به على جبهتها ومضت .
أين تمضي ؟ هي حتى لا تعلم .
ربما تبحثُ عن زاك ؟ ثمّ ماذا ؟ إذا وجدته ؟ إنها فقط لا تفهم أي شيء مما قد تقومُ به .
وبينما هي في خضم تساؤلاتها مع نفسها ، كانت الرائحة النفاذة تقترب .. نظرت لما أمامها مذهولة ، مدينةٌ تبدو كحكاية خيالية ، كآثار قديمة لأمةٍ بائدة !
وكأنّ الزمانَ قد خطى عليها ورحل .. تتساءل؛ كيف كانت الحياةُ بها؟ لاشكّ، ومن نظرةٍ واحدة، بأنها كانت من أعمرِ المدن، وأجملها، وأكثرها تطورًا !
تمشت فيها .. تُقلب بصرها بين المباني حينًا، والسيارات التي كانت تركن عندها ، ولا زالت ، مَتروكةٌ للطبيعة .. بُحيرات مياه صغيرة تكونت في الأسفل ، رأت منها انعكاس السماء الحالمة . واطلت لترى ؛ انعكاس شخصٍ يشبهها ولا يشبهها ! كيف تغيرت إلى هذه الدرجة ؟ هو لم يكن وجهها الذي تغير أو جسدها ، ربما شيء أعمق ، روحها الممزقة التي تشتكي الوحدة ، والوجع .
الأشجار نمت وسط المدينة بشكلٍ عشوائي ، لمَ تبدو مُفرغةً من الحياة ؟ رغم أن كلها حياة ! هل لأنها لا ترى الحيوات التي تشبهها .. الناس ! كم تفتقد وجودهم .. الشعور بالوحدة ، لكم هو قاسٍ ؟
أجفلها صوتٌ من خلفها ، جعلها تنتفض في مكانها
"من أنتِ؟!"
* * *
التفتت خلفها ببطئ، خوف، ولهفة، لترى حياةً، ولكنهم في زمن الحياةِ كانوا يعتبرونها شبه موت! حياةً لا قيمة لها! كانت مُسنةً تبدو في أواخر السبعين، الشيبُ كساها وقارًا، ركب عليها الزمان حتى انحنى ظهرها .. هي فكرت، وكأن كل سنةٍ تمر من عمر الانسان تُوضع على ظهره ، حتى ينحني بهذا الشكل من ثقل السنين التي عاشها ، وهل للسنين ثقل ؟ نعم، هي ثقيلةٌ، ثقيلة جدًا.
"أنا... أنا..."
لم تعرف كيفُ تُعرِّف عن نفسها، ربما لأنها تجهلُها !
لسببٍ ما ، هي بكت فحسب ، كجوابٍ على سؤالها . "من أنا... من أنا"
قالت بشيءٍ أشبه بالبحة ، وكأن الحزن يطفو في صدرها حتى يرتفع لحلقها ، فيمنعها من الكلام .
" هل تُريدين تناول الطعام يا عزيزتي ؟ لقد أعددتُ العشاء للتوّ"
هي قالت بابتسامة. كان طلبها غريبًا بعض الشيء ، ولكنها هزت رأسها علامة الإيجاب، بينما تحبسُ الحزن في صدرها حتى لا ينهمر.
* * *
مشت برفقتها عبر المدينة ، شيئًا فشيئًا ، كان هنالك بيتٌ صغير في أحد الأحياءِ ، لم تغزهُ الطبيعة بشكلٍ تام . تلتفتت من حولها تتأملُ المكان بذهول
"عزيزتي، ألن تدخلي؟"
قالت مُضيقةً عينيها
"بلى .. بلى.."
قالت مُتداركةً نفسها، وولجت نحو المنزل. روادها شكٌ بسيط، خوف، ومشت بتوجس.
كان المنزلُ طبيعيًا تمامًا بالنظر لما في الخارج ! كانت الكهرباء تعمل .. لفتها جدارُ غرفة المعيشة المغطى بورق جدران وردي زاهي جميل ، وبالرغم من أن المنزل طبيعي ، إلا أنهُ بدا غريبًا نظرًا لحالة المدينة
"أعذريني، منذُ متى تعيشين هنا.."
ضيقت عينيها وكأنها تحاول التذكر "منذ زمن .. زمن .. بعيد"
"مـالذي .. مالذي حصل هُنا بالضبط!"
قالت في حيرة .. وكلها حيرة
نهضت فجأة
"أعذريني يا عزيزتي يبدو أن العشاء جهز .. أخشى أن يحترق"
"ولكن...
سآتي لمساعدتك.."
"لابأس، لا بأس.."
جاءها صوت المسنة من المطبخ.
* * *
فضولٌ داهمها ، هي تشعر بأن في هذا المنزل سرًّا ما ، لم تستطع أن تمنع ساقيها من صعود الدرج ، ومن ثمّ ، لم تدرك ما حولها ، كان الفضول مُسيطرًا عليها ، لم تمنع نفسها من الوقوف أمام تلك الغرفة ، كادت تفتحُ الباب حتى جاءها صوتٌ غاضب من خلفها
"من تكونين !"
التفتت لترى رجلًا بدا في الثلاثين من عمره، يصرخُ فيها بذلك السؤال الذي بدأت تكرهه كثيرًا ، تلعثمت "من .. من تكون أنت!"

ولادة الموت حيث تعيش القصص. اكتشف الآن