تجارب دماغية

44 2 5
                                    

في عالم موازي،آتيت بعدتي لأجري عملية تفكيك و فحص و ترتيب و تفكيك الدماغ التي أجريها دورياً،آتيت بالساطور،و اقتلعت النصف العلوي من رأسي،حيث ظهرت تلافيف مخي و ملفاته و متاهاته،تحسست تلافيفي و متاهاتي حتي حفظت أصابعي شكلها و مساراتها،ثم اقتلعت طبقة التلافيف و أدخلت يدي مخرجةً دولاباً صغيراً،وضعته علي مكتبي بعناية كأنه صندوق مجوهرات.
الدولاب الصغير كثير الأدراج ،و الأدراج مملوءة بالملفات عن آخرها.
نظفت الدولاب من الدماء ثم تذكرت أن أغلق دماغي المفتوح؛حتي لا يدخله ما يتلفه،أو تخترقه أي أفكار دون علمي أو إذني..
فتحت بعض الأدراج و تفحصت ما بداخلها من ملفات،تخلصت من أكبر عدد ممكن من الملفات الغير مهمة ،حتي لا تُحدِث "زحمة ع الفاضي" ، و وضعت بعض الملفات المهمة في المقدمة كأولويات..
ثم طرأت لي فكرة!أن أتخلص من جميع الملفات و أضع الدولاب في رأسي فارغاً!
تحول ذهني و كياني إلي لا شئ..لا ذاكرة ولا ذكريات..لا اهتمامات..لا أفكار..لا وعي..لا يوجد ما يشغلني.تحولت إلي طفل رضيع..لم يتضح لي بِمَ شعرت وقتئذ،لكنه كان غريباً و ...مريحاً !
استرجعت الدولاب مرة أخري،و وضعت فيه بعض الملفات الروتينية اليومية،ثم أعدته إلي رأسي،و كان شعوري كالحيوانات،لا هم لي سوي لي الطعام و الشراب و مأوي للنوم!!
كنت قبل أن أفقد نفسي بعض من عقلي،أحسد الحيوانات علي راحتها،فهي لا تقوم بواجبات كالتي يقوم بها الإنسان،ولا تفكر في هموم أو مشكلات،ولا تفعل أي شئ سوي أن "تأكل و تشرب و تنام"،و مثلهم من البشر اللي "بتاكل و تشرب و تنام بس"نطلق عليهم "جبلات".
هل أرضي لنفسي أن أكون "جبلة"؟!
و ماذا لو أصبح البشر جميعهم حيوانات..جبلات؟!
صحيح أن البشر أصبحوا مدمرين،و أنهم أفسدوا نظام حياة مخلوقات عديدة،و لكنهم لا زالوا الكائنات الأسمي علي الكوكب،و التي خصها الله بنعمة حمَّلها بها مسئولية تعمير الأرض،ألا و هي نعمة العقل.
تراجعت عن فكرة كوني"جبلة" لكونها فكرة متخاذلة،فأنا لم أُخلَق حتي أتخاذل عن دوري في الكوكب كإنسان،و إن حدث،فأنا عديمة الفائدة،عالة علي نفسي و علي العالم،مجرد كائن يستهلك الأكسچين المتواجد في الهواء و يتنفسه دون فائدة،أو ترس زائد في ماكينة كبيرة لا حاجة له،حتي الحيوانات أفضل بكثير من البشر"الجبلات"؛لأنهم علي الأقل مسيرون لا مخيرون،ولا تجد منهم مقصراً في دوره في حفظ التوازن البيئي و إطعام نفسه و أسرته و حمايتها، بل إننا نحن كبشر نمنعهم عن أداء واجباتهم بتدمير بيئاتهم...ما علينا...
أخرجت دولابي من رأسي مرة أخري لأتلاعب به و فيه و أجري التجارب في دماغي...
هذه المرة قررت التلاعب بذكرياتي،و نزعت من ذاكرتي كل الملفات المختصة بمن أعرفهم في حياتي منذ ساعة مولدي و حتي الآن..
لم أكن أهتم كثيراً بإنشاء صداقات أو حتي أهتم بوجود أو غياب شخص ما في حياتي،كنت أستطيع بسهولة نسيان أي شخص لم يعد له دور أو وجود في حياتي؛فقد جعلت من نفسي لنفسي بديلاً لأي شخص بداخل حياتي و خارجها،و لكني-رغم ذلك-لم أكن وحدي مطلقاً،لم أجرب هذا الشعور نهائياً ،و إن كنت مهيأة لتجربته و أري أنه لن يكون مرهقاً لي...
فهل "الكلام النظري"-الذي اقتنعت به،أو لا أعلم إن كنت متوهمة أني مقتنعة به-سيفيدني في التجربة العملية؟! هل أستطيع فعلاً أن أعيش بمفردي تماماً في هذه الحياة؟!
كل ما كان يملأ دولاب عقلي وقتئذ هو العمل و بعض المهام الواجبة علي،لا يوجد أي شخص في حياتي سواي..
هي تجربة أستطيع أن أتحكم فيها تماماً الآن، و أن استرجع ذاكرتي و ذكرياتي مرة أخري،لذلك،لا يمكنني تحديد بِمَ سأشعر و بِمَ سأفكر إن أصبحت واقعاً حياً،هل سأطبق فعلاً ما أعتقده من أفكار؟!
هل أستطيع أن أكون لنفسي العائلة و الأصدقاء و الزملاء و المعارف؟!
هل يمكن أصلاً أن تكون تلك التجربة التي أجريتها لعقلي واقعاً؟!
أرجعت ملفات الذكريات سريعاً حتي أتوقف عن التفكير في هذا الأمر،كان شعوري تائهاً و تفكيري مشتتاً،بالإضافة إلي أنه لن يجعلني أستنتج فكرة نهائية عن الأمر...

مممم! اعتقد أن دماغي تلف من كثرة التجارب التي أجريتها له و إدخال و إخراج الدولاب عدة مرات،لن أستطيع بذلك إغلاقه مرة أخري، و تلافيف مخي الغائرة ستصبح مسطحة و باهتة نتيجة تعرضها لعوامل التعرية المختلفة و اختراق الأفكار المندسة لها!!
حسناً،أنا لن أكركب دولابي و أعيد ترتيبه مرة أخري،و سأعيد إليه جميع الملفات التي تخلصت منها في الأرشيف،سأملأه عن آخره و لن أفتحه مرة أخري حتي ينفجر..
ما هذا؟!هناك أصوات كثيرة متداخلة اقتحمت رأسي،و أفكار متشابكة متصارعة مشتتة تتبادر إلي...فوضي و تزاحم...هل أحكمت إغلاق دماغي؟!
نعم!إذن،ما الذي يحدث؟! ما كل هذا التزاحم بداخل رأسي؟!لا أستطيع حمل كتلة الخشب المليئة بالأوراق تلك!إنها تجلب لي ألماً لا يُحتَمَل،لا أستطيع حتي أن ألقي بهذا الدولاب الهش خارج دماغي لأحطمه،جميع الأصوات من حولي تؤرقني،حتي أصوات أحبائي و المقربين إلي،لا أحتمل مجرد اهتزاز أحبالهم الصوتية الذي يُحدِث بركاناً داخل رأسي..الأصوات الصادرة من الشارع..صوت عقارب الساعة..صوت الهدوء و الوحدة..مهلاً! لا أحد يتحدث بجانبي..أنا بمفردي تماماً و النوافذ مغلقة ولا تصدر أي أصوات من الخارج......بووووووووم!💥
(سقوط صاحبة الدولاب المتآكل علي الأرض،و دماغها مفتوح،و الدولاب قد تهشم من إثر الانفجار و الملفات تأكلها النيران).

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jul 04, 2017 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

تجارب دماغيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن