الثَانّيْ.

321 40 18
                                    


"كان لدي فكرة ربما تحل مُشكلتك"

أوضحت هي لينصت بإهتمام شديد للغاية، فـ'ربما' مُشكلته تُحَل!

"ما رأيك بأن تتبنى طفلًا؟"

رد هو دون تفكير، مُتبسمًا بسُخرية، "كيف لي أن أهتم بطفلٍ و أنا حتى لا أهتم بنفسي؟"

"إعطِ نفسكَ وقتًا و فَكِر بالأمر مليّاً، لربما ذلك الطفل الذي تستهينُ به يكون حياتكَ بأكملها، من يعلم!"

بررت الأم، لتنظر إليه وتجده غارقًا بتفكيره وعيناه لا ترمش ولو لمرة حتى.

"حسنًا أمي، سأفكر"

إختصر الحديث بعد لحظات من الصمت، لا زال يرمي بنظره خارج نافذة الحافلة.

-

"أريد بعض السلطة وصدور دجاج مشوية"

أخبرت الأم ذلك النادل الواقف أمام طاولتهما، كان مُنهمكًا بكتابة الطلب بمدونته الصغيرة.
بينما كان ماثيو يعبث بأصابعه وبالفعل يُفكِر بإقتراح والدته.

"ماذا ستطلُب سيدي؟"

وجَّه النادل حديثه لماثيو، فيرفع نظره إليه ويقول دون أدنى إدراك: "مثلها تمامًا"

أومأ ذلك النادل بإبتسامة ودودة وإنصرف سريعًا.

كُل تلك الأضوضاء وكُل ذلك الصخب الذي يملأ المكان يُشعِرهُ بالتوتر، أصوات جميع الزبائن يتبادلون الأحاديث، الجميع يتهامس، وذلك يقوده لِفقد أعصابه.
فهو إعتاد على هدوء منزله لأيام مُطوَّلة.

"بُني، يجب أن تخرج من تلك الحالة.."

صرَّحت الأم بنبرة يشوبها القلق، تتمعن النظر بأساريره -ملامحه- المُنهكة، تلك الهالات السوداء والجيوب القابعة أسفل عينيه تَنُم عن ليالي قاسية.

الإنكسار يملأ عينيه بالرغم من مُحاولاته الفاشلة بإخفائه.

"أمي أنا بأفضل حال!"

إصطنع المرح و الحيوية بنبرة صوته.

"لا تكذب، أنت لستُ بخير على الإطلاق ويجب أن تجد حلًا لذلك! لن تعيش هكذا للأبد بُني"

همهم بألم، يشيح بنظره إلى أرجاء ذلك المطعم الصغير، البعض يبتسم ويقهقه بسعادة صافية، بينما البعض الآخر تطغو الجديَّة على ملامحهم وحديثهم.

"صدقني، تبنيك لذلك الطفل سيُغير حياتك وكيانك"

مدت يدها لتُمسك بخاصته المُرتعشة الباردة للغاية، الطقس ليس بهذه البرودة لتكون يداه هكذا!

صمت لدقائق عدة، ليُفكر بالأمر جديّاً ويستنبط أن والدته على حق، تبنيه لطفل سيشغلهُ كثيرًا، فإحتياجات الأطفال لا تنتهي، إلى جانب حيويتهم المُفرِطَةْ، سيتغير قليلًا.

أعاد نظره لوالدته، فكان على وشك التحدُث والإفصاح عمَّا يجول بخاطره، لكن مجيء ذلك النادل بصُحبة الطعام قاطعهُ.

إلتفتا لينظرا تجاهه بينما هو يضع طبقي صدور الدجاج وصحني السلطة أمامهما.

"وجبة هنيئة" قال النادل بوُدٍ وبإبتسامة ثم إنصرف سريعًا.

"يبدو وأنك كنت على وشك قول شيء ما..؟"

إستنتجت الأمُ بنبرة مُتسائلة بعض الشيء.

"نعم أنتِ مُحقة" أقحم ملعقته بصحن السلطة ليأخذ البعض ويُكمِل بتردُد، "إقتراحكِ جيد ويُمكنه بالفعل أن يكون حلًا، لكن ما رأيك أن أتبنى مُراهقة بدلًا من طفل..!"

"مُراهِقة!" تتعجب الأم قاطبةً حاجبيها.

"إن تبنيت طفلًا فسيكون الأمر صعبًا، الأطفال يلزمهم عناية خاصة و أنا لستُ مُتهيأ، أما المراهقون فأمرهم سهل" أوضح ببساطة.

ولأول مرة منذ فترة كبيرة للغاية حتى أنها لا يُمكنها تذكُرها، ترى الأم بعض الحيوية بأعين وَلدهَا.

"لكن المراهقون مُتقلبون المزاج و أظن أن هذا سيُزعجك!"

إبتسم بثقة مُتجاهلًا ما قالته، "الأمر سيكون غاية في الروعة، تخيلي أمي أن هناك شيءٌ سيملأ هذا الفراغ وأخيرًا!"

شعرت الأم بكمٍ من السعادة لا يوصف، فهي ترى أخيرًا ولدها الحبيب غير مُهتز ومتزعزع، تراه حيوي!
وكُل هذا بفضل إقتراحِها ..

إكتفت هي بالإبتسام، ليتحدث هو من جديد بحماسِ طفل بالثالثة من عُمره، "أشكرك كثيرًا يا أمي، لماذا لم تُخبريني بهذا الإقتراح بعدما إنفصلت عنها! فكما تعلمين هي لم تُحب تلك الفكرة أبدًا .."

وسرعان ما تذكرت الأم بشأن هذا الأمر ورفض زوجتهِ التام بفكرةِ التبني، قامت بِسبِّها تحت أنفاسها لأنها حطمت ولدها وجعلته يائسًا إلى حدٍ لا يُمكن للمرء تخيُلهِ.

"أنا سعيدة بأنك رحبتَّ بالأمر، أعدك بأن كُل شيء سيتغير وستكون بخير صغيري"

إبتسامة حنونة أضاءت وجهها، ليبتسم هو الآخر ويشعُر بشيء غريب، يشعر بأنه سيكون هناك شيء يستحق العيش حقًا ..

-

بعد مُضِي الكثير من الوقت المُمتع بذاك المطعم الصغير، قررا أن ينصرفا.

كُل ما يشغل باله هو تِلك الفتاة المُراهقة التي سيقوم بتبنيها، كيف سيكون مظهرها، وماذا عن شخصيتها وهوايتها، أخذ يُفكِر بكُل شيء يخُصها دون أن يراها أو يعرف من هي حتى، أخذته الحماسة وشعر بأنه مُراهقًا وليس رجلًا بِمُنتصف الثلاثينات.

"ما بِك عزيزي؟ ما الذي يشغل بالك؟"

سألت الأم بينما هما يترجلا من الحافلة بهدوء، وبالرغم من ضوضاء وسط المدينة إلا أنه كان يشعر بهدوءٍ تام ولم يُبالِ بأي شيء حوله.

"أنا فقط أُفكِر بتِلك الفتاة يا أمي، يبدو وأنكِ مُحقة، ستكون هي نُقطة تحوُّل حياتي .."

غاياتٌ دفينةٌحيث تعيش القصص. اكتشف الآن