اختناق

141 4 2
                                    


‏(نحن لا نُشفى من ذاكرتِنا، ولهذا نحن نكتب، ولهذا نحن نرسم، ولهذا يتصرف بعضنا بتهورٍ تام)







‏17 مارس 2002

‏منظر السماء الممتلئة بالغيوم، رائحة المطر وصوته وهو يهطل بغزازة، جميعها أشياء تحيي ذكرى شخص سرقه الموت مني، شخص لازالت ذكرياتي معه مخلده في ذهني، شخص كان لي عائلة قبل أن يكون صديق. لكنه ذهب، واختفى مع الريح.

‏كنت في طريقي إلى المدرسة. لم أرِد أن أحرم يداي من لمس قطرات المطر خاصةً في مثل هذا الجو، فأنزلت النافذة ومددت يدي للخارج.
كل قطرة لمست يداي، أُحسّ بها تلمسُ نقطةً حساسة جداً بداخلي، تُشعرني برغبةٍ شديدة في البكاء، نعم، فالمطر يُذكرني بصديقي فهد.
‏اغمضت عيناي وأطلقت العنان لدموعي لتسقط بأريحية، لكني سرعان ما مسحتها بكفي.

‏بدأ الدرس، بينما أنا لم أكلف نفسي عناء النظر إلى الأستاذ ولا حتى الأنتباه للدرس، نظري كان موجه نحو ذلك المكان الذي لم يشغله أحداً إلى الآن، وتحديداً نحو طاولة فهد. هو لم يترك مكانه فاضٍ هنا فقط، بل أنه أيضا ترك فجوة كبيرة وسط صدري لن يسكنها احدا بعده.
‏ظللت شارداً بفكري، إلى أن تمكّن النوم مني، وضعت رأسي على طاولتي وذهبت الى عالم السكينة، ربما!

‏أيقظني صوت المُدرّس وهو يقول بصوته الأجش:
‏-سيف، استيقظ واتبعني إلى مكتب الأخصائي الإجتماعي.

‏تبعته وأنا أجّر نفسي بكسل، فأنا حقاً لم أنم جيداً الليلة الماضية، حقيقةً أنا لم أنم جيداً منذ فترة طويلة، وهذا السبب وراء نومي الدائم في الفصل.

‏-بربك سيف، متى ستكف عن هذه العادة السيئة! أنت لم تعد طفلاً، فأنت الآن في الخامسة عشر. تساهلت معك كثيراً، لكنني أعتذر هذه المرة، أنا سأضطر لاستدعاء ولي أمرك.
‏قال الأخصائي الإجتماعي بنبرةٍ عصبية، لكنني لم أتأثر من كلامه، ملامحي لا تزال كما هي، باردة كالمعتاد.

‏عدت إلى المنزل، ليستقبلني أبي "بعِقالِه" يضربني به، يصرخ بي لأنني نمت في الفصل:
‏-أنت متى ستنضج، متى ستترك عنك هذا الطيش،ها؟ أيروق لك أن أتلقى آلاف الإتصالات بشكلٍ دائم من إدارةِ مدرستك ليخبروني أنك تنام في الفصل، لا تهتم لدروسك ولا تنتبه، شارد الذهن طوال الوقت، حتى درجاتك ومعدلك في انحدار تام! ما خطبك، ما الذي أصابك؟ أنت لم تعد سيف الذي اعتدت عليه، لقد تغيرت كثيراً في الآونة الاخيرة!

‏يتحدث أبي بينما يداه لا تزال تلعب "بالعِقال" على ظهري. توقفَ أخيراً لأتحدث أنا بسرعةٍ شديدة:
‏-أبي، هو دائماً ما يحتل فكري، في كل مكان وزمان، أراه أمامي، يمر في بالي، ذكراه تأبى الرحيل، أبي. هو يحب المطر كثيراً، والسماء اليوم كانت تُمطر؛ لذا فهو لم يغادر عقلي البتّة، فلو كان هو حيّاً يُرزق الآن، لكنّا قد ذهبنا نبحثُ عن قوسِ قزح، تماماً كما اعتدنا أن نفعل حين كنّا صغاراً. حتى داخل الفصل أبي، أشعر كما لو أن هناك هالةٌ غريبة تحيط بطاولتهِ الخاصة، تشدني لتأملها. أبي، أنتَ لا تملك أدنى فكرة عن مدى أشتياقي له، أُقسم لكَ بأنني أفتقده، افتقد كل ما كنّا نفعله معاً، كل الأشياء التي جمعتنا يوماً، أبي أنا لم أره يوماً كصديق، فنحن اعتدنا أن نكون كالأخوة، وأنت تعلم بأني لا أملكُ أي أخوة. أبي أرجوك تفهم ذلك، أنا أشعرُ بفراغٍ شديد بعد أن فقدته. أنا لا أزال لا أستطيع تقبل فكرة رحيله. هذا كثيرٌ علي، كثيرٌ علي أن أفقد أعز شخصان في حياتي، أمي وصديقي الوحيد. أُقسم لكَ إني قد سئمت تراكم الايام علي!

‏أخذت أنظر إليه وأنا أجهشُ بالبكاء، هو لن يفهمني أبداً.. ركضت إلى غرفتي وقفلت على نفسي الباب، أخذت أستمع إلى أغانيَّ المفضلة كما أفعل دائماً، لعلي أهرب من واقعي المر.

تغيير جذري حيث تعيش القصص. اكتشف الآن