تقول المرأة وعيناها على الدرب:( عندي إحساس أننا سوف نتسلم منهم شيئا، هذا النهار !)
يميل الرجل برأسه الاشيب نحوها :(الله يسمع منك!).يتكلم الرجل بصوت مرتفع قليلا، واضعا فمه قريبا من أذنها ،لكي تسمعه.العجوزان يجلسان متجاورين،على كرسيين عتيقين امام باب دارهما في ظلال سعف نخلة تنتصب شامخة ،يمارسان طقسهما اليومي ...طقس الانتظار والأمل .الرجل يضع كفيه الواحد فوق الأخرى،في حين تترك المرأة يديها تنامان في حضنها. من أبواب البيوت، يخرج اطفال، وفتيان ، وفتيات يحملون كتبا، في طريقهم الى المدارس
_ مساء البارحة رأيت في المنام ...
لا تنظر المرأة، الى زوجها، وهي تتكلم ، ويبدو هو شاردا.
_ هل تسمعني !؟يرد : نعم نعم
_ رأيت في المنام ابننا الصغير كان يشتهي ان اطبخ له...
تنتهي المرأة من رواية حلمها وتصمت فيلوح على وجهها الأسى والحزن ويمر الوقت بطيئا جداا جداا، بعد ذلك ، وهما يرقبان الطريق في الصمت
_ مايزال الوقت مبكرا
_ ماذا تقول !؟ترد، فيقول :اقول إن موعده لم يفت بعد
تحرك المرأة فكيها ، ولاتقول شيئا ، عيناها تحدقان في الدرب ، لعلها تلمحه يدخل الى الزقاق راكبا دراجته القديمة ، وحقيبة الرسائل الجلدية الصغيرة مربوطة الى العارضة تتدلى بين ساقيه . اعتاد ساعي البريد رؤيتهما يجلسان ، كتفا الى كتف ، ينتظرانه في صبر عجيب كل يوم ، وحين يدخل الى الزقاق يهبان واقفين ، قبل ان يصل اليهما ، وفي عيونهما لهفة وترقب ، فيتوقق امامهما، يحيهما بلطف ، عيونهما ، وفي هذه الإثناء ، تتابع حركاته وهو يبحث بأصابعه المدربة بين كومة الرسائل ، ثم يستل واحدة ، ويقول لهما مبتسما (وصلت هذه اليكما اليوم). غير ان ساعي البريد ما عاد يفعل هذا منذ زمن ، كل مايفعله هو ان يقول لهما في رقة بالغة كأنه يعتذر من ذنب اقترفه (أنا آسف كثيرا ، لم يصل شيء ؛لعل بريدكما لا يزال في الطريق )•
(عندي إحساس قوي أننا ...) تكرر المرأة عبارتها المتفائلة ، وينسحب ظلال سعفات النحل ، ويشدان عودة الطلبة ، والتلاميذ من مدارسهم ، والمظفين من اعمالهم . وينظر الرجل في ساعته، ثم يقول في يأس.
_ لندخل ! ترد: ادخل انت.
_ سوف تؤذيك الشمس.
لا ترد عليه . يحمل الرجل كرسيه ، ويدخل الى البيت . تبقى المرأة تجلس وحدها تنتظر وسط فراغ الدرب وصمته . تشعر المرأة ، بعد ذلك، بأرتخاء في اوصالها وجسمها متعب جدا ويكتسحها النعاس ،وتأتي موجة شفافة تحتويها، وتحملها معها ، ثم ترمي بها على شاطئ شاسع ، تنظر حولها مبهورة ، تحاول ان تعرف في اي مكان هي . وبعد لحظات تنظر الى شيئ يقبل صوبها رجل راكب دراجته ، يقودها بسرعة هائلة . ويتوقف امامها تماما . ينزل على عجلة ، ويقول لها معاتبا . وهو يلهث : (انت تجلسين هنا، وانا دائخ افتش عنك ، في كل مكان !) ، يأخذ حقيبته ويناولها رسالة : (خذي !،وهذه ايضا ! يمد يده في حقيبته مرة أخرى : وهذه ثالثة )،ويضحك .
_ وكل ما في هذه الحقيبة من الرسائل هي لكي ... وصلت اليوم من الاولاد والبنات! كلهم كتبوا ...لكي ، لكن البريد تأخر في الطريق ).
يرفع حقيبته وينفض مافي الحقيبة في حضنها، فتنزل عليها الرسائل شلالا من مظاريف ملونة تملأ حضنها ، وتغطي جسدها ، تتكوم بعضها فوق بعض ، وهي تكركر وتضحك بصوت عالي وتقول وصلت الرسائل لقد وصلت ، وساعي البريد يضحك ، وتبقى تنهمر الرسائل بلا انقطاع . وواصل الاولاد و البنات في بعث الرسائل الى الام والاب ولم تنقطع الاخبار عن الاولاد والبنات...