إلىْ ذلكَ الغائبْ :
حضَّرتُ نفسيْ جيِّدًا إلىْ هذهِ اللَّحظةِ ، أينَ أجدُنيْ وحدِي ،وصراعٌ داخليْ يأسرنِي بينَ النَّدم والتَّحسر على الأوْقات الَّتي قضيناهَا معًا، عزيزيْ "هاري" ألا تزالُ تلبسُ جواربَك العفنَة بِدُونْ غسلِ قدميكْ ،أكادُ أجزمُ أنَّ آخرَ مرَّة قُمتَ فيهَا بتبْديلْ ملابسِك الدَّاخليَّة هيَ أثْناء انتِهاء الحربْ العالمِيَّة الأولىْ بَعدهَا مررتَ بالثَّانية ثُمَّ ابْتليتُ بكْ ، حياتيْ انقلبتْ منذُ أنْ تعرَّفت عليك، فهلْ كآن حُبًّا من النَّظرة الأولى أمْ كان هُروبًا من الواقعْ المُعاش والإهتمام بالفُقَّاعات الحمراء، أتتذَّكر زواجنا التَّقليدي في كنيسَة "البَابا" يوم انطفاء شهرْ كانُون الأوَّل و بدايَة كانُون الثَّاني ،لقدْ كان يومًا حافلاً بالسَّعادة خُصوصًا تلك النَّظرة الَّتي قابلتني بهآ عند إنتهاء البِساط، بالرَّغم منْ عدم إمتلاككْ لبذلَة العُرس إلاَّ أنَّك بدوتَ في غاية الوسامة وأنت ترتديْ جِينز راعيْ البقرْ معَ قُبَّعته المُقرَّصة البُنِّية، رُزقنا بعدها بأبهىْ طفْل غير أنَّك لآ تُحب الأطفال وعانيت منْ تصرُّفاتك الصِّبيانية الَّتي أضحتْ تُوافق تصرُّفات ابننا، فاهْتمامي به لآ يعنيْ ضياعكْ لأنَّه يحتاج لكِلانا فيْ مرحلة نموِّه وأنتْ لم تكُن تؤدِّي وظيفتكْ فأخذتُ مكانكْ حتَّى لآ يضيع هوَ،فهلْ فكَّرت يومًا عنْ تخلِّيك لذاك السَّرير والرَّميْ بنفسك خارجَ الجُحر الَّذي نعيش فيهْ قاصدًا أو باحِثًا عنْ عملْ يسدّْ جُوعنا ويُوقف أصواتَ بطُوننا مساءً أمْ أنَّك تنتظر منِّي استلامَ مكانكْ وارتِدائك لتنُّورتي الزَّهرية عندَ قياميْ بثورَة بُلشفيَّة خارجَ المنزِل وفيْ إطاراتْ الشَّركات وعندَ المقاهيْ ،اضطررتْ لارتداء قناعْ المرأة العاملَة ، فأنا لمْ أكن أقلّ من فتاة صُدَّت فيْ وجه العملْ ولكنْ في إطار تافهْ مليء بالخُبث، غيرَ أنَّ شوارع سانتْ بطرسبورغ الرُّوسية لآ تقبلْ أقلّ منْ نادلة في مقهىْ ليليْ وجبَ عليْها تلبية رغباتْ الزَّبائن وشهواتهمْ، كُلَّ هذآ فقطْ لأنَّكِ دون مُستوى علميْْ أو تنحدرينْ من طبقَة ضعيفَة وحيْ قصديريْ رثْ ،لنْ يقبلوا أنْ يزُجُّوكِ داخلَ أشغالْ رتيبَة بحتَة ،أبداً...... ألا تزالْ تسترجعْ حديثيْ لذلكَ اليَومْ الَّذي ْ قُلتُ لكَ فيهْ أنَّي أعملْ طوالَ النَّهار منْ أجلِ تسديدْ فاتُورة البيتْ ،لحْظتهَا لمْ تسألنِي مآ نوعْ العمَلْ، فهلْ كُنتَ ستقبلُ بصدرٍ رحبْ مُواعدتيْ للشَّباب تحتَ اسمْ عاهرَة مُقابلَ دُريهِمات قليلَة أسدُّ بهآ جُوع ابْنك الوحيدْ.
آهْ نسْمة هذهِ المدينَة صباحًا تزفُّ إلىْ بقيَّة أعضائيْ نوبَة نشاطْ غير عاديَّة كمآ أنَّها تُشعرنِي بالحنينْ إلىْ الأيَّام الَّتي ْ لمْ نجلسْ فيهَا كزوْجينْ مُتحابَّين وسعيدينْ ،كُنتَ تتجنَّب مسْكَ يديْ عندَ خُروجنا للتَّنزه أوْ المشيْ في الحدائِق والطُّرقاتْ الَّتي لنْ تنتهيْ من المُضايقاتْ البليلة والبهلوانيَّة منْ طرفْ بعضْ الأشْكال منَ الأشخاصْ، عكسيْ أنآ فقدْ كُنتُ مُتلهِّفة للشُّعور بلمساتِك تخترقُ جِلديْ ،وإلا صوتكَ فيكْسر طبْلة أذنِي منْ ترانِيم كلماتكْ.
لآ تزالُ جُرعاتْ الكُوكايينْ مُتناثرة داخِل حقيبتيْ ولآ أزال ُ فتاةً شاردَة وأمِّا مُهملَة لآ تنفعْ فيْ شيء، لوْ ساعدتُ نفسيْ علىْ الهربْ لاتَّخذتُك مسْكنًا ليْ ،لوْ مددْتنيْ بقطراتِ اهْتمام لنزعتُ قلبيْ وغرستُه فيْ يدكْ لتعلمَ كمْ أنآ وفيَّة لحُبِّك، بالرَّغم ِ منْ بساطتيْ وكونِي عاديَّة إلىْ أبعدْ الحدودْ وفقيْرة مِثلك وهذا القاسم الوحيدْ الَّذي نشْترك فيهْ ،غيرَ أنِّي لستُ انطوائيَّة ْفقد حاولتُ إسْعادك بأقصىْ شيء مُمكن، كاقْتناء كُتب دُوستويفيسكي أوْ مُشاهدَة فيلمْ فيْ إحْدى قاعاتْ السِّينما ،أو حتَّى التَّدخين مع بعضْ إنْ كانَ هذآ مآ يرسُم أهازيجَ بسمتكْ.
قُمت بتغييرْ أسْلوبيْ معكْ فيْ الآونَة الأخيرَة ظنًّا منكَ أنِّي أكرهُك لآ يآ عزيزيْ "هاريْ" ، لآ أريد ْ أنْ أنقُل لك المرضْ الَّذي فتك بجِسمي ويبقىْ ابْننا لوَحده دُُون عائلة تحميهْ أوْ مأوىْ يأويهْ أوْ طعاماً يتغذَّى منهْ ،عِدني ْإنْ مُتّ أنَّك ستعتنيْ بهْ وأزْعِمْ علىْ ذلكَ دونَ أنْ تتذمَّر كعادتكْ، فذهابيْ هذه المرَّة لنْ يكُون لهُ عودة.
أمسىْ كيانيْ يحْترق فيْ الماغمَا السَّائلة المُنبعثة منْ احتراقْ ضميريْ الميِّت، حضَر الجنازة كُلَّ منْ عقليْ ورجاحته المُتأخِّرة، ها هُنا قدْ قدم قلبيْ بربُوعه الشَّحمية ودقَّاته البلَّورية المُتباطئة ،تمرُّ الدَّقائق فيْ لمح البصرْ وصرتْ أشعُر بوجعٍ غريبْ فيْ بطنِي وكأنَّ مصارينيْ تُلتهمْ بأشواكْ حادَّة وسكِّين علىْ الجانبْ ،عِندمَا بدأتْ جفُونيْ تُغمضْ والرُّوح تتصاعدْ لمْ أجدكْ ،نعمْ فيْ موتيْ لمْ ألْمحك تُودِّعني أوْ تُقبِّلُ على يديْ فتُريحنيْ، كُنتَ للأسفْ مع الزَّانية صديقتِي أيْ أنَّك كُنتَ تدْركُ طبيعَة عمليْ ولكنَّك تجاهلتني وتجاهلْت كُلَّ قول فضَّه لسانيْ ،لأنَّك لمْ تُحببني يومًا...______________سانتْ بطرسبورغ 1975
أنت تقرأ
سانتْ بطرسبورغ 1975
Romanceماذَا لوْ تزوَّجت عنْ حُب ثُمَّ اكتشفتِ أنَّك لآ تعنيْ له شيء، وهذا فيْ آخر لفظْ لكِ أيّ في احتضاركْ وعلىّ وشك دخُولك تلكَ الرُّقعة التي سنتحاسب فيهآ جميعًا....