يسود الصمت بينهما للحظات معدودة، بينما هو يدرس ملامحها الجميلة الهادئة التي مطمور بين ثناياها بعض الألم."إذًا دينيس، أخبريني عنكِ قليلًا" يقترح عليها بنبرة مُترددة و إبتسامة ودودة، لتلتفت إليه على الفور ناظرةً إلى عينيه مُباشرةً.
"أظن أنك عَرفت الكثير عني قبل دخولك هنا سيدي؟" أخبرته بنبرة مُتسائلة ساخرة، فيضحك هو بخفة بسبب عِنادها و مماطلتها.
"ليس الكثير أنا فقط عَرِفتُ اسمكِ، الآن أريد التعرف عليكِ أكثر، هواياتكِ و إهتماماتُكِ و زملائكِ و إلى آخره تعلمين!" كان يُحدثها و كأنها إحدى صديقاته القُدامى، يحاول ألّا يُظهر توتره و أن يبعث بها بعض الثقة حتى لا تشعر بالقلق منه.
تبتسم على إصراره بالتعرُف عليها لتُخبره بإستسلام و عفوية، "حسنًا، أنا مُجرد فتاة تعشق موسيقى الروك و اللون الأسود و الأزرق، سماعات أُذني هي صديقتي الوحيدة و المُفضلة، هوايتي هي إختلاق المشاكل بالمدرسة، أتريد معرفة أي شيء آخر؟" تُدير عينيها بنهاية الحديث و إبتسامة جانبية تعلو ثغرها.
يصمت لبُرهة من الوقت، يميل برأسه ناحية اليمين قليلًا ليُلاحظ تغيُر لمعة عينيها و نبرة صوتها الساخرة المَرِحة التي تحمل القليل من الإستنكار لتواجد أحد ما يرغب بتبنيها.
"هوايتكِ إختلاق المشاكل بالمدرسة؟" يتساءل رافعًا حاجبيه بمرح و لا تزال الإبتسامة على ثغره.
"نعم، فُصِلت لثلاثة أيام ذات مرة بسبب أنني شجعتُ الطُلاب على الغِناء بصف اللغة الفرنسية" تقولها بكُل بساطة، و تشعر بأنها ستقترب منه أكثر فأكثر.
"النُسخة المُصغّرة مني حقيقة!" يسخر، لتبدأ هي بالضحك فيضحك هو الآخر بصُحبتها.
"إذًا هذا جيد يا سيد ماثيو، ستكون لدينا أشياء مُشتركة" تُشير إليه بإصبع السبابة بمرح و شعور الراحةِ يتفاقم بداخلها تجاهه، و هذه خطوة جيّدة.
يتنحنح ليُخبرها بلُطف قبل أن ينهض من على كُرسيه ليجلس بجانبها على سريرها، "لا داعِ لقول 'سيد' بعد الآن، تعلمين!"
ترتبك هي بعض الشيء نظرًا لعيناه التي لا تُفارق أسارير وجهها، تُسيطر على نفسها و تحاول ألّا تُظهِر توترها بشتى الطُرُق.
لاحظ هو ذلك من الطريقة التي تلمس بها شعرها و تعبث بأصابعها و تُحدِق بها.
نهض من جانبها لتشعُر هي بالإرتياح، كان يتجول بأنحاء الغُرفة حتى وصل للنافذة التي تطُل على السماء التي تُعانقها أغصان الأشجار شاهقة الطولِ، حديقة هذا الملجأ جميلة للغاية حتى أنه شعر و كأنه يرغب بالتحديق إلى ألوان هذا الكمّ من الأزهار إلى أطول فترة مُمكنة لتُنقي روحه من دنس آلامه.
لاحظت هي أنه شرد كثيرًا، لم تُرِد أن تُفسد عليه اللحظة و ظلّت تُراقبه من مكانها، كان يقف بحيث أن نصفه الأيسر يُقابلها و نظره خارج النافذة.
لاحظت الطريقة التي ينظر بها إلى الخارج، و كأنه يستنجد بالطبيعة لإنتشاله و هي ترفض أن تستجيب، لكن سُرعان ما إبتسم لتبتسم هي تلقائيًا، و أدركت أن الطبيعة إستجابت لطلبه بعد رفضٍ.
كان يُغلق عيناه مُتبسِمًا بِرضا، يتمايل يُمنى و يُسرى بهدوء تمامًا كأغصان شجرة تتمايل على أنغام نسيم الربيع اللطيف.
تنهض لتسير نحوه بهدوءٍ تام حتى لا يستفيق من شروده، كُلما إقتربت أكثر كُلما أدركت مدى إنسجامه، و ربما سينزعج إذا تحدثت معه بلحظة كهذه.
"هذا يكفي على ما أظن ماثيو؟" بتساؤل تُخبره و بهدوء كذلك عندما وقفت أمامه مُباشرةً.
إنتفض بخفة و فتح عينيه سريعًا لتلتقي بخاصتها فتتسع إبتسامته، هي لم تتوقع أنه لن ينزعج، فإضطرها هذا إلى الإبتسام في المُقابل.
حوَّلَ نظره إلى الخارج مُجددًا ليتحدث بنبرة غير مفهومة، "أظن أنني لن أصل إلى الجنة أبدًا لأنني لا أعرف حقًا كيف أصل إلى هناك، أتذكر لحظات مؤلمة لا ينبغي عليّ تذكُرها، جُل ما أردته كان هي، أنا غبي"
لم تفهم هي شيئًا من حديثه المملوء بالألم هذا سوى أنه جُرِحَ من حبيبته.
"إذًا، أنت هنا لتتبناني من أجل ذلك؟" تقول ببعض التردد و التشويش.
"أنظري" تنهد و أعاد نظره إليها، "كنت متزوج من أجمل إمرأة قد تراها عيناكِ، بإختصار، هي خانتي لرغبتها بالإنجاب و لأنني عقيم، إتخذنا إجراءات الطلاق على الفور، و ها أنا ذا وحيدًا، بلا حبيبة أو أبناء، الحياة صعبة جدًا، دينيس" يبتسم بلا مُبالاة تتعجب هي لها.
"و لهذا تُريد أن تتبناني! اللعنة، تُريد إستغلالي و جعلي خاضعة لك؟ اللعنة حقًا، سمعت عن الكثير من الفتيات اللواتي يتعرضن لذلك، أخرج من غرفتي حالًا!" تصيح بتوتر.
خرَّ هو ضاحِكًا وسط آلامه بسبب ما قالته للتو، يبدو و أن الشائعات و القصص الغريبة تحوم حول أذهان الجميع و تشوه فكرتهم عن التبني.
"أكاد أموت ضحكًا دينيس يا إلهي" يُخبرها بصعوبة وسط قهقهاته العالية بينما هو يُمسك ببطنه.
"ماذا يعني تبنيك لي إذًا؟" إستحوذ عليها الإرتباك و هي تترقب ردِّه و تُراقب كُل تحرُكاتِه.
"يعني أنني أريد أن أشعُر بالأبوَّة و أن لدي أحد ما بعد والدتي و أخي الصغير، أنا وحيد كُليًا، و أظنكِ المُناسبة لجعلي أشعُر بالسعادة بعُمري هذا.."
يمسح على شعرها برِقة بعدما أخبرها بكُل ما يحمل من مشاعر فيَّاضة، و بتِلك اللحظة أدرك أن والدتهُ كانت مُحِقَة بشأن هذا الأمر، و أدرك أنه بأمسّ الحاجة لشخصٍ يُشاركه حياته، حتى و إن كانت مُراهِقة.