غربت الشمسُ و رحلت بِهدوء مثلما تجيء، لتجعل السماء كاحلة الزُرقة و تبدأ النجوم بالظهور تدريجيًا و النسيم البارد اللطيف ذا الرائحة المُنعشة النقية يملأ الأرجاء.
كانا يمشيا و الصمت ثالثهما، هي سعيدة و مرتابة بالوقت ذاته فهي على وشك بدء مرحلة من حياتها بمنزل غير الذي إعتادت عليه منذ أن جاءت لهذه الدنيا -التي هي قاسية بنظرها- سوى الملجأ و مديرته و المُربيات. الذي يسعدها بالأمر هو أن ذلك الرجل بدا عفويًا جدًا جدًا و لديه رغبة مُلِحة بتبنيها، و حسب طريقته بالحديث و نظراته و محاولاته ليكون لطيفًا تُظهِر ذلك. بالإضافة إلى أن المديرة -بالطبع- لن تسمح لرجل غير مؤهل لأمر كذلك بتربية إحدى الفتيات بمنزله، إلى آخره.
حتى هي لاحظت كيف أن طقس اليوم لطيفًا، السماء تبدو أكثر زُرقة و النسيم مُنعشًا بطريقة غريبة بالإضافة لرغبتها المُلحة الشديدة بالإبتسام.
كان هو هائمًا بتفكيره، أمرأته و زوجته و حبيبته ليست معه للترحيب بفرد جديد بالمنزل و تكوين أسرة و الشعور بالأمومة برفقته فهي من أرادت الإبتعاد عنه. لكنه لن يترك مجالًا للحزن ليتخلله ثانيةً و لن يتذكر تلك المرأة سوى بالخير للأوقات الجميلة التي قضاها بصُحبتها.
"ألن نستقل إحدى وسائل المواصلات؟"
تسأله لتكسر الصمت فيلتفت إليها بشكلٍ فوري غريب ناظرًا بعينيها الذابلتان كخاصته.
"أستُصدقينني إن أخبرتك بأنني حقًا نسيت هذا الأمر بسبب حماسي الزائد و رغبتي ُبالسير معكِ؟"
يرد عليها بسؤالٍ بمثابة إجابة، لتعلو إبتسامة صغيرة على ثغرها فيبتسم تلقائيًا ليتحول الأمر إلى موجة ضحك مُتبادل بينهما ليخلقا تلك الهالة البلهاء حولهما التي يراها كُل من يسير بالقُرب بينهما .. سواهما.
"لماذا كُل من يمُر بجانبنا ينظر لنا بتلك الطريقة الغبية؟ أقسم أنني سأوسعهم ضربًا و أكسر جماجمهم إن سمحت لي"
البلاهة تطغي على نبرة صوتها، لكنها بالفعل كانت ترغب بفعل ذلك فهي تكره نظرات الآخرين المُتطفلة تلك أكثر من أي شيء آخر. خصوصًا أنها ببعض الأحيان تتوتر بشدة إثر ذلك.
يضحك هو بشدة بسبب أسلوبها بالحديث، "إلهي أنتِ عنيفة جدًا! يتوجب عليّ أخذ الحذر منكِ لأن بتلك الطريقة لا أضمن بقائي حيًا لفترة طويلة"
"تفادى إزعاجي و أضمن لك حياة مديدة"
كانت مُنهمكة جدًا بسبب حديثها و إنخراطها بالضحك، و إذ بها فجأةً تشعر به يسحبها من ذراعها بقوة فتُدرِك أنها كانت على وشك الإصطدام بأحد المارة.
"في المرة القادمة إنتبه و أنظر أمامك" يُعَنِف ماثيو ذلك الشاب الذي كان يسير بصُحبة شابًا آخر و بدوا منخطران هما كذلك بالحديث.
يكتفي بالنظر إليه بإحتقار و يُكمِل سيره و كأنه لم يحدث شيئًا فأثار ذلك غضب ماثيو أكثر فَبصق خلفه و أكمل سيره مثله تمامًا.
"أتظن أن الأمر كان يستحق كُل هذا؟"
ترتب ملابسها و شعرها بينما نظرها مُثبت عليه و على ملامحه المشدودة المتوترة.
"نعم لأنه لربما كان ليضايقكِ إن إصطدمتما" تنهد بعمق شديد و رمى بنظره بعيدًا، "لا تهتمي"
لاحظت أنه مُستاءًا قليلًا، فكان ينظر حوله بالأرجاء بنظرات غريبة .. تغير مِزاجه بثوان، فهو قد كان مُفعمًا بالحيوية و الآن هو لا يشعُر بأي شيء.
تنحنحت هي بعد دقائق من الصمت، "أعجبني مظهرك و أنت غاضب هكذا" تحاول أن تُخفف من حدة الجو المشحون هذا.
إلتفت لها سريعًا بإبتسامة صغيرة على ثغره، "أنتِ لم ترِ شيئًا بعد"
أخذت حديثه على محمل الجِد فقطبت حاجبيها بتعجُب و أخذت تُفَكِر بـ'أنتِ لم ترِ شيئًا بعد' هذه.
"لا أعرف لمَ عليكِ أخذ الأمور بمنظورٍ درامي سخيف لهذا الحدّ؟" يمسح على شعرها، و تغيرت ملامحه من جديد .. من اللامبالاة إلى المرح و الحيوية.
"أنت الذي تضطرّني أتخذ هذا المنظور، المرة القادِمة حاذِر على حديثك" ترمش عِدة مرات قبل أن تُحدق بعينيه.
يضحك بعفوية شديدة لتنكمش عيناه، فتبتسم هي لأنها جعلته يضحك بهذا الشكل .. فمن يرى ملامحه منذ دقيقة لقال أن العالم على وشك الإنتهاء.
"اوه! لقد نسيت .. لم أضع بحُسباني أن هناك أحدًا سيُشاركني بالطعام لذا لم أشترِ طعامًا كافيًا، من الجيد أنني تذكرت الآن"
سَمِعَته يتحدث بسُرعة شديدة بينما ينظر إليها من حينٍ لآخر أثناء حديثه، فتحاول أن تكتم ضحكاتها بسبب مظهره اللطيف هذا.
"هيا بنا لندخل هذا المتجر" يُخبرها بحماس و بإبتسامة واسعة بينما هي مُنشغلة بالتحديق بذلك المتجر الهائل.
"أهلًا بك سيدي، الرجاء ترك الحقائب هنا و أخذها عند الخروج" يقول أحد العُمال قبل أن يدخلا المتجر.
"نعم بالطبع" يخبره ماثيو بترحيب و دينيس تقف و تراقب الموقف، ثم إنتقلت بعينيها إلى أرجاء المتجر.
"تفضل هذا الرقم" يُعطيه العامل بطاقة صغيرة مُدون عليها الرقم ذاته الذي يعتلي الرف الذي تتواجد به حقائبهما.
إلتقط منه البطاقة، ليلوح بيده أمام عينيها ليجعلها تستفيق من شرودها.
"هيا بنا" يقول لتستعيد وعيها و يقع نظرها على يده مُباشرةً و من ثمَّ وجهه البشوش.
إنطلقا إلى الداخل، تُحيط بهم جميع المُنتجات من جميع الأشكال و الأنواع. الكثير من الأشخاص يتجولون بصُحبة عجلة التسوق تلك و بها بعض المُنتجات. يحاول الأباء و الأمهات إبقاء أطفالهم بالقرب منهم بشتى الطُرُق.
"و الآن، إختاري أي شيء ترغبين بتناوله لليوم و للأيام القادمة .."