وتعيين اصل اللفظ لإلحاقه باللغة المأخوذ منها ما يُحتاج الى نظر لا يكفي فيه المشابهة اللفظية، اذ كثيرا ما تتّفق كلمتان من لغتين في لفظ واحد ومعنى واحد ولا تكون بينهما علاقة، وانما يقع ذلك على سبيل النوادر بالإتفاق.. الا اذا دلّت القرائن على انتقال احداهما من لغة الى اخرى وساعد الاشتقاق على ذلك.
فإذا اتّفق لفظان متقاربان لفظا ومعنى في لغتين، وكان بين أهل تينك اللغتين علاقات متبادلة من تجارة، أو صناعة، أو سياسة، فاز لنا الظن أن احداهما اقتبست من الاخرى.. فاذا كان اللفظ من أسماء المحاصيل، أو المصنوعات، أو الأدوات، فيرجّح لحاقه باللغة السابقة الى ذلك، كلفظ " المسك "
مثلا فإنه موجود في العربية وفي الفارسية وفي السنسكريتية وفروعها.. فإذا عرفنا أن المسك يحمل الى العالم من تونكين، وتيبت، ونيبال، والصين، وان الهنود القدماء كانوا يحملون الطيب الى الامم القديمة ويمرّون بسفنهم ببلاد العرب، ترجّح عندنا أن العرب أخذوا هذه اللفظة عن الهنود، كما أخذها الفرس منهم، أو لعلّها انتقلت الى الفارسية من العربية.. لأن الفرس يعدّونها عربية، كما يعدّها العرب فارسية.. او هي في الفارسية باعتبار انها فرع من السنسكريتية كما هي في الانجليزية بطريق التفرّع، وكما هي في اللاتينية لأنها أخت السنسكريتية، ومن اللاتينية انتقلت الى الفرنسية لانها فرع من اللاتينية. ويقال نحو ذلك في "كافور" فإن العرب يعدّونها فارسية، والفرس يقولون أنها عربية.. وهي موجودة أيضا في السنسكريتية، واللاتينية، وفروعهما.. فبأيّها نلحقها؟ في مثل لهذه الحال، يجب البحث في مصدر الكافور.. فإذا علمنا أنه يصدر من اليابان و الصين ومن ملقا، وأن اسمه باللغة الملقية "كابور" ترجّح عندنا أنه ملقي الأصل، وكذلك "زنجبيل" -الجذور المعروفة- فان العرب يقولون انها تعريب "شنكبيل" الفارسية، والفرس يقولون أنها عربية.. ولم نجد "شنكبيل" في القاموس الفارسي. واذا بحثنا عن اسم هذا العقار في اللغات الأخرى، رأينا أن اسمه في اليونانية "زنجباريس" وفي اللاتينية "زنجبار" فأوّل ما يتبادر الى الذهن انه من "زنجبار" البلد المعروف، وأنه سُمّي بذلك لأنه كان يُحمل منه أو لسبب آخر.. فإذا رجعنا الى منبت هذا العقار، رأيناه هنديّا.. ورأينا اسمه في السنسكريتية "زرنجابيرا" مشتقّة من "كرينجا" أو "زرينجا" أي القرن، لمشابهة جذوره به.. فيُترجّح عندنا أنه سنسكريتي الأصل. ومن هذا القبيل "فلفل" فإن العرب يقولون أنه فارسي، والفرس تقول أنه عربي.. وهو موجود أيضا بمثل هذ اللفظ في الانجليزية، والألمانية، واللاتينية، ويوجد أيضا في السنسكريتية، ويُلفظ فيها "بالا" أو "فيفالا" ولما كان الفلفل من محاصيل الهند، وأجوده يرد من مالابار، نرجّح أن هذه اللفظة سنسكريتية الأصل.. ومعنى "ببالا" عندهم أيضا "التينة المقدسة".
يقال عكس ذلك في الألفاظ الدالة على محاصيل بلاد العرب أو حيواناتها: كالقهوةمثلا.. لإإنها مموجودة في الفارسية وفي كل لغات أوربا، فالارجح أنها عربية الاصل لأن هذه اللفظة كانت عند العرب قبل اصطناع القهوة اسما من أسماء الخمر.. فأطلقوها على قهوة البن. ومثل ذلك أسماء الجمل، والزرافة، والغزال، وغيرها من أسماء الحيوانات العربية.. وربما كان بعضها مأخوذا في الأصل من لغة غير عربية.
واذا كانت اللفظة المشتركة بين لغتين من قبيل المصنوعات، فإلحاقها بأصحاب تلك الصناعة من الأمتين أولى..فقد اختلط العرب بالفرس وخاصة بعد الإسلام، وأخذوا منهم كثيرا من الملابس والانسجة، ولم ينقلوها الى لسانهم.. بل عرّبوها وأبقوها على ما هي، كالسروال، والقباء (ومنها الجبة) والتبان، والجورب، والديباج، والأرجوان، والسرموج، والقفطان، والطربوش، والبابوج..كما فعل أهل هذا العصر بأسماء الملابس الأفرنجية التي اقتبسوها من الافرنج في تمدّنهم الأخير، كالبنطلون، والجاكت، واللستيك، وغيرها..
أنت تقرأ
اللغة العربية كائن حي - جورج زيدان
Historical Fictionكتاب "اللغة العربية كائن حيّ" هو كتاب لمؤلّفه جورجي زيدان يعدّ اضافة خاصّة للعربية في نظرته العامّة للفلسفة اللغوية؛ فيتحدث فيه عن مراحل تطوّر وتنوع معاني ومدلولات ألفاظ العربية و توظيفاتها عبر العصور. اضافة لاختلاف تراكيبها وأساليبها. كما يتحدّث أي...