لم يمر على اللغة العربية عصر أثّر في ألفاظها وتراكيبها تأثير النهضة الاخيرة في أواسط القرن الماضي، لأنها جاءتها على غرة دفعة واحدة.. فانهالت فيها العلوم انهيال السيل، وفيها الطب، والطبيعيات، والرياضيات، والعقليات وفروعها، ولم تترك للناس فرصة للبحث عما تحتاج اليه تلك العلوم من الالفاظ الاصطلاحية مما وضعه العرب او اقتبسوه في نهضتهم الماضية ولا لوضع الاوضاع الجديدة. والسبب في ذلك ان الذين اشتغلوا في ميادين العلوم الحديثة عند اول دخولها مصر والشام في اواسط القرن الماضي، لم يكونوا على سعة من علم اللغة... فلما ترجموا تلك العلوم الى اللغة العربية لم يهتدوا الى مصطلحاتها القديمة، او اهتدوا الى بعضها ووضعوا للبعض الآخر ألفاظا لا تنطبق على المراد بها تمام الانطباق.. لكنها صُقلت بتوالي الاعوام وصارت تدل على المراد، كما اصاب أمثالها في اثناء النهضة العباسية وغيرها. فلما انقضت تلك البغتة، وتكاثرت المدارس ونشأ الكتاب وعلماء اللغة، عادوا الى النظر فيما دخل اللغة من المصطلحات العلمية، او الادارية الجديدة، وقلما استطاعوا تبديل شيء منه لتأصّله وشيوعه في الكتب والجرائد والأندية وغيرها.. على انهم لم يعدموا وسيلة في اصلاح الانشاء والرجوع بعباراتهم الى نحو ما كانت عليه في صدر الدولة العربية، لأنهم تحدّوا فطاحل الكتّاب في تلك العصور مع مراعاة الذوق والسهولة.. فنبغ بيننا كتّاب لا يفضلهم ابن المقفع، ولا ابن خلدون، ولا غيرهما من صفوة الكتّاب وعمدة المنشئين في شيء.. وقد أغفلوا السجع البارد، وقللوا من الاطناب وأبطلوا المترادف.. وهو عاملون على تنقية اللغة مما خالطها من الاجماش والادران، وما أصابها من الضعف في عصر الانحطاط.. واذا تدبّرت لغة الكتّاب والمنشئين في أول هذه النهضة، وقابلتها بلغة كتّابنا اليوم رأيت الفرق كبيرا، وتوقّعت ان تعود الى اسمى ما بلغته من درجات الكمال في عصر زهوها وشبابها. على اننا لا نظنهم مع ذلك قادرين على تنقيتها مما داخلها من الالفاظ والتراكيب الاعجمية، او مما تولّد فيها من الالفاظ العربية الجديدة على ما اقتضاه التمدن الحديث من العادات الجديدة والآداب الجديدة والعلوم الجديدة. وقد دثر من اللغة كثير من الاصطلاحات القديمة، وقام مقامها مصطلحات جديدة.. شأن الكائنات الحية الخاضعة لناموس الارتقاء. فالتغيير الذي أصاب اللغة العربية في النهضة الاخيرة، قد أصاب ألفاظها وتراكيبها.. وبعضه دخلها من اللغات الاجنبية، والبعض الآخر تولد فيها بالتنوع والتفرع.. وللاحاطة بالموضوع نقسم الكلام فيه الى قسمين: نبحث في القسم الاول عن الدخيل، وفي القسم الثاني عن المولّد.
أنت تقرأ
اللغة العربية كائن حي - جورج زيدان
Historical Fictionكتاب "اللغة العربية كائن حيّ" هو كتاب لمؤلّفه جورجي زيدان يعدّ اضافة خاصّة للعربية في نظرته العامّة للفلسفة اللغوية؛ فيتحدث فيه عن مراحل تطوّر وتنوع معاني ومدلولات ألفاظ العربية و توظيفاتها عبر العصور. اضافة لاختلاف تراكيبها وأساليبها. كما يتحدّث أي...